مع ثلة من خيرة أبناء الأمّة علما وعملا، يخطُّ الأستاذ فتح الله كولن المعالم الكبرى لبناء الحضارة، ويعلن بصراحة أنه يضع العلامات في الطريق، ويحدد العناصر الأربعة التي يقوم عليها تأسيس أيِّ مشروع علميٍّ، أو مركز بحثيٍّ؛ إذا توفَّرت أثمرت، وإذا افتُقدت أضمرت، فيقول: “إذن علينا أن نبحث عمَّا نأمله لغدنا، في نقطةٍ تتلاقى فيها: البيئة الصالحة، وعشقُ العلم، وعزمُ العمل، والبحث المنهجيُّ”، ومعنى هذه العبارة المركَّزة، هو أنه “إذا ما أثارت البيئةُ الصالحة العشقَ العلميَّ وألهبت العزائمَ على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحسَّاسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقوِّمه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معيَّنة. وبعد ذلك، تعمل “الدائرة الصالحة”؛ للارتقاء بإلهاماتٍ وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة.. تعقبها -باستمرار واطّرادٍ- الجهودُ الفكرية والنُّظُم المنسجمة مع مقوماتنا الذاتية والمتوافقةُ مع رؤيتنا ومبادئنا الحضارية”.

علينا أن نبحث عمَّا نأمله لغدنا، في نقطةٍ تتلاقى فيها: البيئة الصالحة، وعشقُ العلم، وعزمُ العمل، والبحث المنهجيُّ”

البيئة الصالحة

أمَّا عن البيئة الصالحة، فيعلن فتح الله كولن أنَّها أساس كلِّ تطور، وروحُ كلِّ بحث؛ إذ الفكر والحركة وليدا “وعاء، وبيئة، وتربة، ومحيط”، إذا تعفَّن وفسد، فلا تنتظر الكثير، ولا تأمل في المعجزات والخوارق؛ ومن ثمَّ كان لزاما على أرباب التغيير والإصلاح، أن يجتهدوا في توفير هذه البيئة الصالحة للأجيال اللاحقة، ومن أبرز تلك الحواضن ما يمكن أن يسمَّى “الأكاديميات”، أو “مراكز البحث العلمي”، بأعلى المستويات والمعايير الممكنة؛ وإلاَّ بقي الحديث عن “قيمة العلم”، وعن “وجوب طلبه”، وعن “علاقته بالحضارة”…مجرَّد خطابة، أو شعارات سياسية.

عشق العلم

وعن عشق العلم يتحدث فتح الله كولن عن الأبطال “الفدائيين”، الذين يتصفون بعشق العلم، الذين إذا ما أقاموا صروحا عملية أقاموها على أكتاف عاشقةٍ للعلم، وأبلغُ وصف لهم أنهم “أبطال الإدراك والبصيرة واللدنيَّات، الفاهمين للعصر، والعاشقين للحقيقة، بشُبوب اشتياقهم للعلم، الذين يئنُّون بآلام الأجيال، إذ يسعون للنهوض بها إلى درجة معيَّنة، ويحوِّلون مستقبلها الكدِر إلى دموع في أرواحهم، فينوحون نواح أيّوب، ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم، ويَشُبّون إلى العلى بالشكر باحتساب لذائذها أنعما من الحق تعالى”.

المنهجية لازمة من لوازم العلم الحقِّ، والفوضى لا تولِّد إلاّ فوضى مثلها، أمَّا غياب المنهجية فهادر للوقت بلا طائل.

عزم العمل

وعن العلاقة الوطيدة بين العلم والعمل ينبِّه كولن إلى أنه لو أنشئت مؤسَّسات للفكر، فلا بدَّ أن تكون وثيقةَ الصلة بالعمل، وهو ما سماه “العزم على العمل”، وفي هذا يقول: “إنَّ أهمَّ شيء وأشدَّه ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروريِّ أن نتحرَّك على الدوام في ظروف قاهرة نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا، لنحمل فوق ظهورنا واجبات، ونفتح صدورنا أمام معضلات الحركية المستمرة والفكر المستمر.

البحث المنهجيُّ

ينهي فتح الله كولن أسبابه الأربعة بالتنبيه إلى “البحث المنهجيِّ”؛ لأنه ليس كلُّ بحث في العلم “بحثا علميًّا بالضرورة”؛ إذ المنهجية لازمة من لوازم العلم الحقِّ، والفوضى لا تولِّد إلاّ فوضى مثلها، أمَّا غياب المنهجية فهادر للوقت بلا طائل، وموهِمٌ بالفكر فيما ليس بفكر، وناشرٌ لسراب البحث والحقُّ أنه ليس شيئا.

Leave a Reply

Your email address will not be published.