جماعة النور.. خدّام القرآن
يحار المرء في اختيار تسمية لأتباع الأستاذ سعيد النورسي، العالم المفكر العارف بالله الذي اشتهر بلقَب “بديع الزمان”، لأنه كان حقًّا بديع زمانه في الفطنة والذكاء وقوة الحافظة، وفي التأثير العميق الذي أحدثه في محيطه القريب والبعيد، في المجتمع التركي، وفي مناطق شتى من العالم الإسلامي، وفي خارج العالم الإسلامي. فهؤلاء الذين يدينون بالولاء الإيماني والوجداني والعقلي لهذا الرجل الفذ الذي لم يكن له نظير، لا في عصره -طوال النصف الأول من القرن العشرين- ولا في هذا العصر يأبون أن يوصفوا بأنهم “أتباع” أو “تلامذة” أو “مريدون” لسعيد النورسي، وإنما يصفون أنفسهم بأنهم “خدّام القرآن”، أو بعبارة أخرى “خدّام رسائل النور”، وهي سلسلة من الرسائل في شكل كتيبات صغيرة، تكاد تبلغ مائة وثلاثين رسالةً كتبها سعيد النورسي، وتتناول قضايا الإيمان ودراسة القرآن والسنة والسيرة النبوية، وتضم توجيهات ونصائح ومواعظ وتأمّلات وتجليات تنصبّ على تعميق الإيمان بالله وترسيخ أركانه وتطهير العقيدة من الشوائب وتنقية الإخلاص لربّ العالمين، ومحاربة الإلحاد ودحض شبهاته، وتقوية الإيمان بنبوّة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وبربانية القرآن وبإعجازه وخلوده، والتحلّي بمكارم الأخلاق التي تزكي النفوس وتطهّرها من الأدران والأسقام والأمراض والأهواء.
إذا اجتمعتَ بهم وتحدّثت إليهم علمتَ أنّهم فئة من البشر ينفردون بصفات ومزايا وسجايا استمدّوها من تعاليم سعيد النورسي المبثوثة في رسائل النور التي هي نمَط من الكتابات الدينية لا أجد له مثيلاً في المكتبة الإسلامية المعاصرة. قومٌ يسطع النورُ من وجوههم، وتخرج الحكمة من أفواههم، ويُستمد المثل الرفيع للتقوى والاستقامة والورع والإيمان الصادق والعمل الصالح من سلوكياتهم ومعاملاتهم. فهم نماذج ناطقة بما للإيمان من قوة تأثير في صنع الرجال والحفاظ على هويته وثوابته، بعيدًا عن صخب الشعارات اللاّمعة وضجة العناوين البرّاقة ورنين الأدبيات الإنشائية التي لا تمكث في الأرض ولا تنفع الناس. هم نماذج بشرية صنعهم الإيمان بالقرآن كتابًا هاديًا، وبالرسول الكريم محمد r بشيرًا، وبالإسلام دينًا قيّمًا ينير الطريق أمام الإنسان ليكتسب السعادة في دنياه وأخراه. أثّر فيهم سعيد النورسي، فأحبّوه وأنزلوه من أنفسهم منزلة المعلم المربّي المصلح القدوة الذي يثقون فيه، ويقتدون به، ويطمئنّون إليه، ويعتمدون عليه في معرفة الطريق إلى الله، عن يقين وإيمان، ووعي وفطنة، وحكمة ورشاد، وعلم وفهم.
أعرف أن حديثي هذا عن “جماعة النور” في تركيا ربما يرى فيه بعض القرّاء مبالغة في الوصف وغلوًّا في الرأي. ولكنني على يقين ثابت بأن ما أكتبه عن هذه الجماعة، يعبر بصدق وإخلاص وتجرد، عن الواقع المعيش اليوم في تركيا الذي يختلف عما نعرف في العالم العربي -وربما قلت في العالم الإسلامي عامة- اختلافًا بينًا جديرًا بأن يكون موضع دراسة وتأمل واعتبار. فهذه الجماعة التي تلتفّ حول “رسائل النور” وتتّخذ منها نبراسًا في حياتها، هي نسيج وحدها حقيقة لا مجازًا.
إن مَن يقرأ بعمق مجموعةَ “رسائل النور” (التي ترجمها إلى اللغة العربية الأستاذ إحسان قاسم الصالحي في تسعة مجلدات كبيرة أضاف إليها مجلّدًا عاشرًا عن سيرة سعيد النورسي المستقاة من رسائله وممن أكرمهم الله بالاقتراب منه في حياته والتعرف عليه مباشرة) يخرج بانطباع قوي بأنها نمط من الكتابات الإسلامية غير معروف في المكتبة العربية القديمة والحديثة والمعاصرة. وأشهد وأعترف بأنني فوجئتُ بروعة شخصية سعيد النورسي وببهائها وإشراقاتها ونفحاتها، وذهلت وانبهرت بآثارها الفكرية التي تكشف عن عبقرية فذة فريدة، وتعبّر عن اتجاه في التفكير والتأصيل والتأليف لا عهد لي به على كثرة ما قرأتُ مِن كتُب التراث ومن المؤلفات المعاصرة في هذا الحقل مما أحمد الله عليه.
إن روح “رسائل النور” تنعكس على هذه الجماعة التي حرت في اختيار الاسم الذي أطلقه عليها، لعلمي أن أفرادها، على اختلاف في مستوياتهم الثقافية، لا يقبلون أن ينعتوا بأنهم “جماعة”، أو أنهم “جمعية”، أو أنهم “مؤسسة”، أو أنهم “تنظيم”، أو أنهم “حزب”. فكل هذه الأسماء والأوصاف والتشكيلات لا تنطبق عليهم، ويرفضون أن يصنَّفوا ضمنها. ولهم الحق، فليسوا هم ممن يندرج في هذا الإطار، لأنهم قوم يختلفون عن النماذج والأنماط التي نعرفها.
ولكن “خدام رسائل النور” -وهذه هي التسمية التي يُطلقونها على أنفسهم- لهم مؤسّساتهم الثقافية، ومراكزهم البحثية، ومدارسهم الدينية، ومشروعاتهم الاقتصادية، وقنواتهم التلفزيونية، ومحطّاتهم الإذاعية، ومنابرهم الصحافية.. ولهم حضور مكثف ومتشعب في الحياة التركية، في إطار الاحترام الكامل للقوانين السائدة وضوابط النظام العام، بدون أن يكون لهم “تنظيم” ما على شاكلة هذه التنظيمات التي نعرفها نحن في بلداننا العربية. وهم بذلك ناجحون في عملهم، مؤثرون في مجتمعهم، يخدمون القرآن الكريم حقًّا وصدقًا على نحو بالغ التأثير يهدي الناس إلى سواء السبيل، ويحبّب إليهم دينهم الذي ارتضاه الله لهم، ويعمّق إيمانهم، ويزكّي حياتهم، ويجعلهم هداة ودعاة للخير والصلاح، بلا شعارات ولا لافتات، وإنما بالاستقامة والصدق والطهارة والإخلاص ومحبة الناس والسعي من أجل خدمتهم وتحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية معًا.
لقد عاش سعيد النورسي في عصر اشتدت فيه الحملات ضد الإيمان، وبلغ فيه حصار الإسلام في تركيا درجةً لم يبلغها في أي بلد آخر من العالم. وكان الصراع بين الإيمان والإلحاد في عصره محتدمًا عاصفًا مدمرًا، إذ جنّدت الدولة في عهد أتاتورك كلّ إمكاناتها لمحاربة الإسلام وللقضاء على الإيمان ولقطع الصلة بين الشعب المسلم وبين كل ما له صلة بدينه وثقافته وهويته وثوابته. في تلك المرحلة كان سعيد النورسي مهمومًا بقضية واحدة لا تزاحمها قضية أخرى، هي إنقاذ الإيمان، وإبطال دعاوى الإلحاد، والردّ على المروّجين له -وكانوا كثرًا-، وتقوية ارتباط أبناء وطنه بالقرآن، وإقبالهم عليه، واعتزازهم به، وانتمائهم إليه.
كانت “رسائل النور” الوسيلة التي اعتمدها سعيد النورسي لنشر حقائق الدين وأنوار القرآن، في لغة يفهمها الإنسان العادي، وبأسلوب ينأى به عن الوقوع في الأحابيل التي كان ينصبها له أعداء الإسلام. ومع ذلك، وعلى الرغم من انتهاجه هذا النهج البعيد عن الافتعال والانفعال (افتعال الصراع مع الوضع القائم، والانفعال بالتحديات والصدمات) في يسر وسماحة وفي منأى عن التزمت والتشدّد، فإن السلطات كانت تضيّق الخناق على سعيد النورسي؛ فتعتقله تارة، وتنفيه إلى أقاصي البلاد وأعالي الجبال تارة أخرى، وتقدمه للمحاكم في كل الأحوال، بحيث عاش حياة شاقة كابد فيها وعانى ما شاء الله له أن يكابد ويعاني.
من هذا النبع الفياض تستقي جماعة النور خدّامُ القرآن الكريم في تركيا.
إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز
هذا نمط فريد من تفسير كتاب الله العزيز، من تصنيف الأستاذ سعيد النورسي، العالم العارف بالله الكاتب المفكر التركي المشهور بـ”بديع الزمان”، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين. لقد كتب سعيد النورسي “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” باللغة العربية، في فترة الحرب العالمية الأولى، وفي ظروف بالغة القسوة؛ فقد كان يُملي على رفيقه في الخندق أثناء المعارك التي شارك فيها، صفحات من هذا الكتاب، كما كان يؤلف فوق صهوة جواده -بالمعنى الحرفي لا المجازي- أثناء خدمته العسكرية، حيث عاش أهوال الحرب العظمى الأولى جنديًّا في صفوف الجيش العثماني في مواجهة الجيش الروسي، ثم وقع في الأسر، وكاد أن يحكم عليه بالإعدام من طرف السلطات الروسية القيصرية، لولا لطف الله به الذي ادّخره سبحانه لأداء رسالته في الحياة.
يصف الدكتور محسن عبد الحميد هذا الكتاب في المقدمة الرائعة التي كتبها لطبعته الأولى التي صدرت في العراق في سنة 1989م بتحقيق الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، والتي أعيد نشرها في الطبعات الأربع التي صدرت من الكتاب حتى الآن، يصفه بقوله؛ إنه جليل القدر، رصين السبك، قوي الحجة، يمثل أجلى تمثيل القدرة السَرَيانية الفائقة للأستاذ النورسي، وراء المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، لاسيما العلمية المختصة منها. ولقد كانت تلك موهبة عبقرية وَهَبَها الله تعالى إيّاه، لينظر في كتاب الله من خلالها ببصيرة نافذة ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشف عن الحقيقة، ويبغي إيصال الإنسان إلى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزًا، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في أنفسهم ضرورة الإيمان والاعتراف بأنه الكتاب الحق الذي نزل من عند علاّم الغيوب I على رسوله الأكرم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، كي يضع الإنسانية على طريق دعوة الحق، وينوّر بصيرتها بنور الإيمان، وإدراك اليقين للوصول إلى العبودية الخالصة لرب العالمين.
ولقد فتحت لي هذه المقدمة -والمقدمة الأخرى المؤثرة التي كتبها الأستاذ إحسان قاسم- الباب إلى عالم الأستاذ النورسي المدهش الحافل بالإشراقات النورانية والفتوحات الإيمانية؛ إذ وجدتُ في هذا الكتاب ما ملأ نفسي إعجابًا بهذا المؤلف الذي ولد في قرية جبَلية نائية عن الحواضر في الأناضول، وهي المنطقة الشرقية من تركيا. وتعلّم في قريته تلك على شيوخ العلم الذين لم تكن تخلو منهم منطقة في ذلك الجزء من العالم الإسلامي، في تلك المرحلة الدقيقة التي عرفت المحاولات الأولى لتقطيع أوصال الدولة العثمانية، ولتوجيه الضربات للإسلام. فأظهر نبوغًا مبكرًا، حيث استوعب العلوم الشرعية واللغوية والأدبية التي درسها في أمهات الكتب، وحصّل قدرًا كبيرًا منها، حتى صار عالمًا مثقفًا مطلعًا على معارف شتى من القديم والحديث وقادرًا على التأليف في فرع دقيق من فروع الثقافة الإسلامية يتصل بنظرية النظم في القرآن الكريم. فجاء كتابه هذا -الذي صنّفه باللغة العربية، قبل أن يترجم إلى اللغة التركية، ومن ثم إلى لغات عالمية كثيرة- آية من آيات النبوغ الساطع والتألّق البارع.
هذه حالة عجيبة غير مألوفة، تثير في النفس الإعجاب بهذه الشخصية الفذة النادرة. والغريب أن هذا التفسير ظل مجهولاً -أو يكاد يكون مجهولاً- في العالم العربي، إذ لم يرِد له ذكرٌ في الدراسات والمؤلفات التي صدرت عن تفاسير القرآن الكريم، كما لم يعرف مؤلِّفه بين مَن اشتغل بالعلوم القرآنية من العرب في النصف الأول من القرن العشرين، ولم يشر إليه ضمن كوكبة أعلام النهضة في مطالع القرن العشرين، من المفكرين والكتاب والمفسرين والمشتغلين بالدراسات الإسلامية بصورة عامة. وتلك واحدة من صور القطيعة المفتعلة التي فصلت بين تركيا وبين العرب طوال عقود من السنين كانت من أخطر المراحل التي عاشها العرب والمسلمون.
يقول الدكتور محسن عبد الحميد في التعريف بالقيمة العلمية لهذا التفسير: “وكأني بالأستاذ النورسي درس نظرية النظم دراسة متقنة ثم ظهر له أن المفسرين الذين سبقوه -كالزمخشري والرازي وأبي السعود- لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ، سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظًا بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة، فأراد أن يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام، فيؤلف تفسيرًا يطبق فيه نظرية النظم تطبيقًا تفصيليًّا شاملاً من حيث المباني والمعاني، ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله”. وهذا ما تبدى لي عند قراءتي في هذا الكتاب، الذي صدر في طبعته الجديدة المنقّحة ضمن موسوعة “كليات رسائل النور”، بتحقيق الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، وهو مثقف عالم ومفكر باحث من تركمان العراق، استوطن تركيا منذ سنوات ويحمل جنسيتها، ويدير مركزًا للدراسات الإسلامية يتخصص في دراسة آثار النورسي وقضايا الفكر في العالم الإسلامي.
يقول الأستاذ سعيد النورسي في مقدمة الترجمة التركية لهذا الكتاب: “لولا موانع الحرب العالمية، فقد كانت النية تتجه إلى أن يكون هذا الجزء وقفًا على توضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، وأن تكون الأجزاء الباقية كل واحد منها وقفًا على سائر أوجه الإعجاز. ولو ضمت الأجزاء الباقية حقائق التفسير المتفرقة في الرسائل، لأصبح تفسيرًا بديعًا جامعًا للقرآن المعجز البيان”. ثم يقول موضحًا الظروف التي ألف فيها هذا التفسير: “لقد تم تأليف تفسير “إشارات الإعجاز” في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى على جبهة القتال بدون مصدر أو مرجع، وقد اقتضت ظروف الحرب الشاقة وما يواكبها من حرمان، أن يكتب هذا التفسير في غاية الإيجاز والاختصار لأسباب عديدة”.
ويشرح الأستاذ النورسي هذه الأسباب فيقول: “إن ذلك الزمان لم يكن يسمح بالإيضاح، لأني كنتُ أعبّر بعبارات موجزة وقصيرة عن مرامي، وكنت أضع درجة أفهام طلبتي الأذكياء جدًّا موضع الاعتبار، ولم أكن أفكر في فهم الآخرين، ولما كنت أبيّن أدق وأرفع ما في نظم القرآن من الإيجاز المعجز، جاءت العبارات قصيرة ورفيعة”.
وهذا صحيح، فالكتاب دسم، أو لنقل هو من الكتب ذات العيار الثقيل. فليس متاحًا للقارئ العادي فهم عباراته بسهولة. وإدراك مراميه بيسر، والوقوف على معانيه قبل أن يتريث ويتأمل ويتعمق في الفقرات التي يقرأها.
ولكن الكتاب في العمق والجوهر، يبلغ الذروة في البلاغة والدقة في التعبير والعمق في استكناه المعاني القرآنية. ولذلك أعود فأقول إنه نمط فريد في التفسير جدير بأن تفرد له دراسات معمقة.
ومما لفت نظري أن الأستاذ سعيد النورسي يكتب بلغة عربية عالية المستوى تضعه في مصاف كبار الكتاب باللغة العربية في القرن العشرين. ولا غرو فالزمخشري من خوارزم، والرازي من الري، وهما الذروتان اللتان اقتدى بهما المؤلف التركي.
إن “رسائل النور” تصدر عن “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز”، فهذا الكتاب هو المنبع ومصدر النور.
فيوضات نورية في آيات قرآنية
تصدَّى الأستاذ سعيد النورسي للطاعنين في القرآن الكريم، منالملاحدة والماسونيّين والعلمانيين والوضعيين الماديين والتنصيريين والصهاينة، الذين وجدوا الطريق معبّدة إلى اختراق الدولة العثمانية في آخر عهدها، وخاصة أثناء الحرب العالمية الأولى، حين تصاعدت المؤامرات للقضاء على الدولة، تمهيدًا للكوارث العظمى التي ستحدث بعد انتهاء الحرب، حيث تغيرت الخريطة الجغرافية السياسية في المنطقة، وهبّت رياح الغزو الفكري والديني العاصفة، وتعالت مَوجات الإلحاد والدعوة إلى التنكر للعقائد والثوابت والخصوصيات الثقافية والحضارية، أو القطيعة المعرفية مع الماضي كما يقولون.
لقد كان الطعن في القرآن الكريم في تلك المرحلة يأخذ مسالك متعددة، ويسير في اتجاه اقتلاع جذور الإيمان من القلوب والإعراض عن كتاب الله كليًّا. في تلك الفترة القلقة المضطربة على جميع الأصعدة، كان النورسي يحمل راية القرآن، ويفحم المتشكّكين، ويدحض شبهاتهم، ويبطل دعاواهم، ويفند مزاعمهم، ويردّ بالكلمة المؤمنة وبالمنهج الرشيد، كَيدهم في نحورهم.
لقد عرفتْ تركيا خلال الفترة -التي تبدأ من التآمر على السلطان عبد الحميد الثاني وخلعه في عام 1909م، وتنتهي في مطلع الخمسينيات- حربًا واسعة النطاق على الإسلام لم تعرفها البلاد العربية الإسلامية الأخرى. وهي الحرب الضروس التي وصفتها في مقال سابق بأنها كانت “إبادة دينية” غير معروفة في التاريخ المعاصر. وكان على الأستاذ سعيد النورسي أن يواجه هذه الحرب بأسلوبه الخاص، وبإيمانه القوي الذي يتحدّى به الصعاب، وبقلمه البليغ الذي هزّ به أركان الكفر والبهتان وتصدّى للتآمر على كتاب الله في أرض كانت حامية للإسلام لمدة تزيد على ستة قرون.
وفي كتابه “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” الذي كتبه أثناء الحرب العالمية الأولى، حينما كان يحارب ضمن القوات العثمانية القوات الروسية القيصرية، يعرض لعدد من الشبهات التي كان يثيرها خصوم القرآن في تركيا ولا يزال يثيرها من سار على دربهم في بلادنا العربية. لنقرأ ما كتبه النورسي في تفسير الآية الكريمة من سورة البقرة •كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(البقرة:28)، حيث يردّ على السؤال الذي يطرحه المتشككون حول مدلول الآية، فيقول: “اعلم أن الموت ليس إعدامًا وعدمًا صرفًا، بل تصرّف، وتبديل موضع، وإطلاق للروح من المحبس. وكذا أن ما وجد في نوع البشر إلى الآن من أمارات غير معدودة، ونَجَمَ من إشارات غير محدودة، ألقت إلى الأذهان قناعة وحدسًا بأن الإنسان بعد الموت يبقى بجهة، وأن الباقي منه هو الروح. فوجود هذه الخاصية الذاتية في فرد يكون دليلاً على وجودها في تمام النوع للذاتية. ومن هنا تكون الموجبة الشخصية مستلزمة للموجبة الكلية. فحينئذ يكون الموت معجزة القدرة كالحياة، لا أنه عدمٌ علتُه عدمُ شرائط الحياة”.
ثم يردّ سعيد النورسي على سؤال السائل: “كيف يكون الموت نعمة حتى نظم في سلك النعم؟”، فيقول: “أولاً لأنه مقدمة للسعادة الأبدية، ولمقدمة الشيء حكمُ الشيء حسنًا وقبحًا؛ إذ ما يتوقف عليه الواجب واجبٌ وما ينجر إلى الحرام حرام. وثانيًا لأن الموت عند أهل التحقيق من المتصوفين، نجاة للشخص بخروجه عن نظير المحبس المشحون بالحيوانات المضرة إلى صحراء واسعة. وثالثًا لأنه باعتبار نوع البشر نعمة عظمى، إذ لولاها لوقع النوع في سفالات مدهشة. ورابعًا فلأنه باعتبار بعض الأشخاص نعمة مطلوبة؛ إذ بسبب العجز والضعف لا يتحمل تكاليف الحياة وضغط البليات وعدم شفقة العناصر، فالموت باب فوزه”.
وفي شرحه للآية الكريمة •هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(البقرة:29)، يتألق سعيد النورسي، فيقول: “إن نقليات الشرع تدل على أن الله تعالى خلق أولاً جوهرة -أي مادة- ثم تجلى عليها فجعل قسمًا منها بخارًا وقسمًا مائعًا. ثم تكاثف المائع بتجلّيه فأزبد. ثم خلق الأرض أو سبع كرات من الأرضين من ذلك الزبد، فحصل لكل أرض منها سماء من الهواء النسيمي. ثم بسط المادة البخارية فسوّى منها سبع سماوات زرع فيها النجوم فانعقدت السماوات مشتملة على نويات النجوم. وإن فرضيات الحكمة الجديدة [يقصد العلوم الحديثة] ونظرياتها، تحكم بأن المنظومة الشمسية (أي مع سمائها التي تسبح فيها) كانت جوهرًا بسيطًا ثم انقلب إلى نوع بخار، ثم حصل من البخار مائع ناريّ، ثم تصلب بالتبرد منه قسم، ثم ترامى ذلك المائع الناري بالتحرك شرارات وقطعات انفصلت فتكاثفت فصارت سيارات منها أرضنا هذه. فإذا سمعت هذا يجوز لك التطبيق (المطابقة = المقارنة) بين هذين المسلكين، لأنه يمكن أن يكون آية •كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا(الأنبياء:30) إشارة إلى أن الأرض مع المنظومة الشمسية كانت كالعجين عجنته يد القدرة من جوهر بسيط”.
ومكمن العجب في هذا الكلام الراقي الدقيق، أن سعيد النورسي الذي لم يتعلم في عاصمة من العواصم، إذ تلقى تعليمه على شيوخ العلوم الشرعية واللغوية والأدبية في قريته بالأناضول شرقي تركيا، يتحدث هنا عن نظرية “الانفجار العظيم” التي يقول بها علماء الفيزياء اليوم، ويربط بينها وبين قوله تعالى: •كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَاربطًا دقيقًا محكمًا، ويشير إلى ما تقول به “الحكمة الجديدة” التي يقصد بها العلوم الحديثة. فمِن أين أتى النورسي بهذه المعلومات؟! صحيح أنه قرأ الكتب العلمية القديمة والحديثة، واستوعب المعارف العلمية التي كانت معروفة عهدئذ في المؤلفات العربية والتركية، وكان نابغًا في فهمه لهذه العلوم وإحاطته بها؛ ولكن نظرية “الانفجار العظيم” لم تكن متداولة في الفترة التي كتب فيها “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز”.
في كتابه هذا “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” المدهش، ينتقل بنا المؤلف سعيد النورسي من قضية إلى أخرى من جملة القضايا الفكرية والعقائدية التي يطرحها خصوم القرآن الكريم في كل زمان ومكان، وهم اليوم كثر، ويعالجها معالجة دقيقة تنم عن قوة إيمان ورجاحة عقل وشفافية روح. ويمكن أن نعدَّ هذا الكتابَ الأساس الذي بني عليه مشروعه التنويري (التنوير الحقيقي أداتُه القرآن ومصدره القرآن وغايتُه القرآن) الذي أفلح فيه وكتب الله له التوفيق إلى أبعد الحدود.
بالأمس كنتُ أقرأ في المجلد الأول من “كليات رسائل النور” الذي يحمل عنوان “الكلمات”، فوجدت سعيد النورسي يحيل على كتاب “إشارات الإعجاز” في مواضع كثيرة، عند الحديث عن عظمة القرآن الكريم والتعمق في استكناه الفيوضات النورية من الآيات القرآنية، فأيقنت أن الرجل كان قمّة من قمم العلم والفكر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة وبالتي هي أحسن، وبالروح الإنسانية التي تنأى عن الغلو والتشدد والتطرف بكل أشكاله.
نفحات قرآنية وفتوحات ربانية
كلما مضيتُ في قراءة كتاب “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” للأستاذ سعيد النورسي، إلاَّ واستوقفني ذكاؤه الحاد وحافظته القوية المدهشة؛ فقد فوجئتُ بالمؤلف ينقل عن ظهر قلب صفحات عديدة من كتاب “أسرار البلاغة” لعبد القاهر الجرجاني مع الإشارة إلى المصدر. ومبعث المفاجأة هنا أن الكاتب سبق أن ذكر في المقدمة التي كتبها للترجمة التركية لتفسيره هذا والمنشورة في الطبعة العربية، أنه لم يكن بين يديه -خلال انكبابه على التأليف- أيّ مرجع من المراجع. وطلبًا للمزيد من اليقين، سألتُ الأستاذ إحسان قاسم الصالحي (محقق الكتاب والمُشرف على نشره ضمن موسوعة “كليات رسائل النور”) في رسالةٍ بعثتُها إليه عن حقيقة الأمر، فردّ عليّ في اليوم التالي في رسالة كريمة منه، بقوله: “نعم كان الأستاذ النورسي حافظًا لثمانين من أمهات الكتب ومنها الكتاب المذكور”. وإذا علمنا أن جل هذه الكتب الأمهات يقع في عدة أجزاء، فإن عجَبنا سيكون أكبر، ودهشتنا ستكون أعظم، وتقديرنا للرجل الصالح المصلح سيكون أبلغ.
وعبد القاهر الجرجاني هو من فطاحل العلماء، ومن نبغاء الإنسانية، وإمام في اللغة والبلاغة، ومن مؤلفاته العميقة الرائدة “إعجاز القرآن”، و”دلائل الإعجاز”، و”المقتصد”، و”أسرار البلاغة”. وهو من أصل فارسي من جرجان، مثله مثل جل العلماء الكبار الذين أغنوا المكتبة العربية الإسلامية. وواضح أن الأستاذ سعيد النورسي متأثّر بعبد القاهر الجرجاني، قرأ كتبَه واستوعبها وحفظها فنقشت في ذاكرته. ولذلك نجده يستشهد به كما يستشهد بغيره، فيما ينقله عنهم من مخزون ذاكرته الفريدة التي هي فضل من الله وهبة وكرامة، بحيث تتدفق المعاني من قلمه، وتنثال الأفكار وتفيض التأملات، ويجول بالقارئ في رياض الفكر، فينتقل من البلاغة إلى اللغة إلى النحو إلى علم الكلام، إلى مناقشة أصحاب المذاهب، ويخوض في علوم شتى ليست كلها علومًا إسلامية، على نحو يثير العجب من المقدرة الفائقة التي حباه الله بها، حتى يحار القارئ في تصنيف المؤلف وفقًا للتصنيفات المعهودة في الثقافة العربية الإسلامية.
اقرأ معي ما كتبه سعيد النورسي في تفسيره لقوله تعالى •خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(البقرة:7)، يقول رحمه الله: “اعلم أن الطبيعيين يقولون: إن للأسباب تأثيرًا حقيقيًّا؛ والمجوس يقولون: إن للشر خالقًا آخر؛ والمعتزلة يدّعون: إن الحيوان خالق لأفعاله الاختيارية. وأساس هذه الثلاثة مبنية على وهم باطل وخطأ محض، وتجاوز عن الحدّ وقياسٍ مع الفارق؛ إذ ذهبوا ظنًّا منهم إلى التنزيه، فوقعوا في شَرَك الشِّرك”. ثم يفصّل القول في دحض هذا الوهم، على النحو التالي: “إنه كما أن استماع الإنسان وتكلمه وملاحظته وتفكره، جزئية تتعلق بشيء فشيء على سبيل التعاقب، كذلك همّتُه جزئية لا تشتغل بالأشياء إلا على سبيل التناوب. إن قيمة الإنسان بنسبة ماهيته.. وماهيتَه بدرجة همّته.. وهمّتَه بمقدار أهمّية المقصد الذي يشتغل به. وإن الإنسان إلى أي شيء توجَّه يفنى فيه وينحبس عليه. ومن هذه النقطة ترى الناس -في عرْفهم- لا يسندون شيئًا خسيسًا وأمرًا جزئيًّا إلى شخص عظيم وذي بال، بل إلى الوسائل، ظنًّا منهم أن الاشتغال بالأمر الخسيس لا يناسب وقاره، وهو لا يتنزّل ولا يسع الأمر الخطير همّته العظيمة، ولا يوازن الأمر الخفيف مع همته العظيمة”.
وهكذا يمضي في تأصيل العقيدة الصحيحة، وفي إبطال العقائد الفاسدة في قوة حجة وعمق تحليل. ولاستغراقه في التفكير تأتي عباراته غالبًا دقيقة مكثّفة بحيث يستعصي فهمُها على غير القارئ المتعمق والمتخصص. ولكن بِطُول الممارسة والتعوّد على قراءة مثل هذه النصوص، تنفتح أمام الذهن آفاق واسعة، وينشرح الصدر بالاطمئنان، وتنتشي النفس بالنفحات القرآنية، ويمتلئ القلب يقينًا بأن المؤلف أوتي فتوحات ربّانية. وهذه النفحات القرآنية تهبّ على القارئ في كل صفحة من كتاب الأستاذ سعيد النورسي “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز”. يقول في تفسير قوله تعالى •الۤمۤ(البقرة:1): “إن •الۤمۤ إشارة إلى نهاية الإيجاز، الذي هو ثاني أساسَيْ الإعجاز. وفيه لطائف، منها •الۤمۤ يرمز ويشير ويلوّح ويلمح بالقياس التمثيلي المتسلسل، إلى أن هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، لأنه كما أن الأحكام المفصلة في مجموع القرآن قد ترتسم في سورة طويلة إجمالاً، وقد تتمثل سورة طويلة في قصيرة إشارةً؛ فقد تندرج سورة قصيرة في آية رمزًا، وقد تندمج آية في كلام واحد تلويحًا، وقد يتداخل كلام في كلمة تلميحًا، وقد تتراءى تلك الكلمة الجامعة في حروف مقطعة كـ”سين لام ميم”.. كالقرآن في البقرة، والبقرة في الفاتحة، والفاتحة في “بسم اللهالرحيم “، و”بسم اللهالرحيم ” في البسملة المنحوتة (المقصود النحت اللغوي)، كذلك يجوز ذلك في •الۤمۤ أيضًا”.
وفي موضع آخر، نقرأ للنورسي تفسيرًا دقيقًا وشرحًا شافيًا لكلمة “الرحمة”، فنجده يقول: “إن رحمة الرحمن الرحيم تبشر بقدوم أعظم الرحمة (أعني السعادة الأبدية)؛ إذ بها تصير الرحمة رحمة، والنعمة نعمة، وبها تخلص الكائنات من النياحات المرتفعة من المأْتم العمومي المتولد من الفراق الأبدي المصير للنعم نِقمًا. إذ لو لم يجئ روحُ النعم، (أعني السعادة الأبدية) لتحوّل جميع النعم نِقمًا، وللزم المكابرة في إنكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة”. وهي معانٍ عميقة ربما لم يسبق إليها الكاتب، تدل على شفافية روح وعمق تأمل في كتاب الله.
ويقول سعيد النورسي في عبارات دقيقة معبّرة أبلغ تعبير عند تفسيره لكلمة •اَلْحَمْدُ(الفاتحة:2): “إن الله سبحانه خلق الإنسان وجعله نسخة جامعة للكائنات وفهرسة لكتاب العالم المشتمل على ثمانية عشر ألف عالَم، وأودع في جوهره نموذجًا من كل عالم تجلى فيه اسم من أسمائه تعالى. فإذا صرف الإنسان كل ما أُنعم عليه إلى ما خُلق لأجله إيفاءً للشكر العرفي -الداخل تحت الحمد- وامتثالاً للشريعة التي هي جلاء لصدأ الطبيعة، يصير كل أنموذج مشكاة لعالمه ومرآة له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر به. فيكون الإنسان بروحه وجسمه خلاصة عالَمَيْ الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما”. ويأتي ذلك في سياق تفسيره للفاتحة الذي تعمق فيه، إذ يقول: “وجه النظم مع ما قبله [أي •اَلْحَمْدُ]: إن •اَلرَّحْمن و•اَلرَّحِيم لمّا دلتا على النعم استوجَبتا تعقيبَ الحمد. ثم إن •اَلْحَمْدُ لِلهِ(الفاتحة:2) قد كرّرت في أربع سور من القرآن، كل واحدة منها ناظرة إلى نعمة من النعم الأساسية التي هي: النشأة الأولى، والبقاء فيها؛ والنشأة الأخرى، والبقاء بعدها”. وهذا كلام دقيق في تفسير الفاتحة على نحو غير معهود يقوي الإيمان، ويشرح الصدر، ويملأ القلب سكينةً واطمئنانًا.
وهكذا يمضي سعيد النورسي في كتابه “إشارات الإعجاز” الذي ألّفه أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي ظروف صعبة مضطربة لم تكن تسمح بالتفكير والتأمل بله التأليف. وهي حالة فريدة لم نعهدها في المؤلفين الذين عرفتهم الثقافة العربية الإسلامية، ولا في غيرهم.
الغريب أن الأستاذ سعيد النورسي الذي صنّف هذا التفسير الذي يقترب من أن يكون من التفاسير التي تأخذ بنظرية النظم في القرآن الكريم، مع الفارق بينه وبين غيره من المفسرين، لم يكن يقبل أن يقال عنه إنه “مفكّر إسلامي”، أو “داعية إسلامي”، أو “مصلح إسلامي”، أو “علاّمة”، أو “إمام”.. فهذه الأوصاف التي نعرفها اليوم، ما كان يقبل بها. وهو محقّ وصادق في موقفه هذا؛ فعلماء الأمة -قبل القرن العشرين- لم يكونوا ينعتون ببعض هذه الصفات التي ظهرت في عصرنا وانتشرت حتى أوقعتنا في الحيرة من أمرنا. لقد كان النورسي يصف نفسه بأنه “خادم القرآن الكريم”، وهي صفة جليلة القدر تغطي على كل صفة غيرها. ولذلك فإن خدّام القرآن من دعوة النور -الذين ينتمون إلى مدرسة سعيد النورسي- لا يزيدون على أن يطلقوا على صاحب “إشارات الإعجاز” لقب “الأستاذ” لا غير. وفي ذلك معنى جدير بأن يُتأمل ويُهتدى به.
في البحث عن مصادر الحكمة في تركيا اليوم
تفرض التجربة التركية في تجلياتها السياسية والاقتصادية نفسَها على المشتغلين بقضايا التخطيط الاستراتيجي لمستقبل العالم الإسلامي، باعتبار أن هذه التجربة الناجحة والمثيرة للاهتمام، تشكّل حالة فريدة على مستوى العالم كله، وليس العالم الإسلامي فحسب، فهي تجربة سياسية واقتصادية واجتماعية غنية، وتنطوي على دلالات عميقة تستدعي البحث عن مصادر الحكمة فيها ومنابع الإلهام الذي يهدي إلى أقوم السبل للبناء الديمقراطي والرخاء الاقتصادي والنماء الاجتماعي في الميادين كافة. ولذلك أحرص دائمًا على البحث -ومن خلال القراءة المتواصلة- عن مصادر الحكمة في تركيا اليوم كلما أُتيحت لي الفرصة.
وفي زيارتي الأخيرة لإسطنبول، اشتريتُ الطبعة الثانية من كتاب “كليات رسائل النور” لبديع الزمان سعيد النورسي. وتقع “كليات رسائل النور” في عشرة مجلدات، ترجمها من اللغة التركية إلى اللغة العربية صديقي الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. وكنتُ قد قرأتُ الطبعة الأولى التي صدرت قبل سنوات، وقبل ذلك كنتُ قد قرأتُ بعضًا من رسائل النور نشرت في كتب صغيرة مستقلة في المرحلة السابقة لجمعها ونشرها في مجموعة. وتمتاز الطبعة الثانية بتنقيحات وشروح وهوامش جديدة، إلى جانب تخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكتابة تراجم مختصرة لبعض الأعلام الوارد ذكرها في المتن، وتشكيل بعض الكلمات بصورة مدققة، وهو ما كان ينقص الطبعة الأولى. وهذا عمل بالغ الأهمية وجهدٌ متميز بذله المترجم الذي جمع بين الإجادة التامة للغتين التركية والعربية، فهو من أصل عراقي من طائفة التركمان، انتقل إلى تركيا فحمل جنسيتها، وهو اليوم من الباحثين الأكاديميين الأتراك المتخصصين في فكر النورسي، ويُشرف على تنظيم ندوات فكرية وثقافية في عديد من جامعات العالم الإسلامي حول رسائل النور. وإلى الأستاذ إحسان يرجع الفضل في تقديم الأستاذ النورسي المعروف بـ”بديع الزمان” إلى القارئ العربي في لغة عربية مشرقة استوعبت دقائق رسائل النورسي ورقائق وجدانه وحقائق فكره الذي ظل مجهولاً في العالم العربي، بينما هو فكر إيمانيٌّ تنويريٌّ إشراقيٌّ إصلاحيٌّ رائد لا نظير له بين الأفكار التي ظهرت في العالم الإسلامي كله منذ مطالع القرن العشرين وإلى وفاة بديع الزمان في سنة 1960م.
ولأنني قارئ مدمن لـ”رسائل النور”، فلذلك أستطيع أن أشهد أن المترجم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، قد تفوق إلى حد كبير في نقل هذا الأثر النفيس إلى اللغة العربية، ليس نقلاً حرفيًّا بترجمة جامدة، وإنما بقدر كبير من إشراق الديباجة ودقّة العبارة وحسن الأداء بلغة عربية جميلة تشدّ القارئ وتقرّبه من عالم رحب الأرجاء فسيح الآفاق مشرق الأنوار مضمخ بالمسك الذي يفوح من الأفكار والتأملات والخواطر والرؤى التي تتماوج وتتبلور في رسائل النور. وبذلك يكون المترجم بعمله هذا البالغ أقصى درجة من الضبط والإجادة والإتقان، قد ارتقى إلى ذروة الإبداع الفكري والإشراق البياني حين تَمَاهى مع المؤلف المفكر المربّي المصلح الذي كان نسيج وحده، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، واندمج مع رسائله متشرّبًا رحيقها ومستوعبًا معانيها وسابرًا أغوارها.
تشمل “كليات رسائل النور” في ثمانية أجزاء منها الكتبَ التالية: الكلمات، اللمعات، المكتوبات، الشعاعات، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، المثنوي العربي النوري، الملاحق، صَيْقَل الإسلام. إضافة إلى الكتاب التاسع الخاص بالسيرة الذاتية لبديع الزمان التي كتبها الأستاذ إحسان قاسم الصالحي من خلال رسائل النور. أما الكتاب العاشر المخصص للفهارس، فهو من إعداد الأستاذ حازم ناظم فاضل. وقد وجدتُ أن هذا الاسم ينطبق تمامًا على العمل المبدع المتقن المحكم المنسجم الجامع الذي قام به صاحبه في صناعة هذه الفهارس. وأقول “صناعة الفهارس” على غرار ما كان يكتبه على أغلفة الكتب التي يحققها أستاذي محمود محمد شاكر (يرحمه الله) شيخ المحققين للتراث العربي الإسلامي، وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة والصديق الشخصي للزعيم الأستاذ علال الفاسي، رحمهما الله. فهذه الفهارس المفصلة بدقة متناهية، هي غوص في بحر كليات رسائل النور لاستخراج اللؤلؤ والمرجان من أعماق هذا البحر المحيط. ولستُ أعلم مصنّفًا أو مفهرسًا أنجز عملاً توثيقيًّا بهذا الحجم والشمول والتدقيق والتعمق.
ويضم المجلد العاشر من “كليات رسائل النور” فهارس للآيات القرآنية وللأحاديث الشريفة والآثار والأخبار، ولآيات الإنجيل والتوراة والزبور، وللأفكار الرئيسَة، وللمفردات العامة، ولمفردات تخص الأسماء الحسنى والصفات الإلهية، ولمفردات تخص القرآن الكريم، ولمفردات تخص الرسول الكريم r، ولمفردات تخص الإنسان، وتعريفات للمفردات، وللأعلام، ولرجال الأسانيد، وللجماعات والأقوام والقبائل، وللحِكم والأمثال العامة، وللقواعد والدساتير، ولأقوال العارفين والعلماء وأهل الدنيا، ولمزايا رسائل النور، وللكتب والرسائل للمؤلف ولغير المؤلف، وللأشعار العربية والأشعار الفارسية والأشعار التركية والأشعار الكردية، وللأماكن: المواضع والمواقع والجوامع والكنائس والمشاهد والقبور، وللحوادث التاريخية، وللموازنات والفروقات، ولتعليقات المؤلف على الأشخاص: الأعلام وطلاب النور، ولمشاهدات المؤلف عن سيرة حياته، وللنكات (الدقائق) النحوية والبلاغية، وللنباتات والأشجار، وللحيوانات والطيور، وللعناصر والأحجار الكريمة، وللأطعمة والأشربة، وللمكاييل والنقود، وللملابس والأزياء والزينة، وللمصطلحات الطبية، وللمصطلحات العسكرية، وللأجرام السماوية، وللأصنام والآلهة، وللصور والخرائط والجداول، وللكلمات المعربة والأجنبية.. إلى جانب نبذة عن بعض الأعلام، وقطوف من موازين النور، ومخطط كليات رسائل النور. فهذا عمل مدهش قام به الأستاذ حازم ناظم فاضل الذي صَاحَبَ المترجمَ الأستاذ إحسان قاسم الصالحي في المرحلة الأولى التي بدأ فيها يترجم هذه الرسائل منذ سنة 1979م في كركوك بالعراق، وكان يقوم بتبييض مسودّات الترجمة، وعمل على تنظيم فهارس لكل مجلد من المجلدات التسعة التي ظهرت تترى فيما بعد سنة 1990م في كل من إسطنبول والقاهرة.
لقد اختار واضع الفهارس عنوان “قطوف من موازين النور”، لينشر تحته مقتطفات منتقاة بدقّة من رسائل الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي تُظهر الخصائصَ الإيمانية والمميزات الفكرية التي كانت لهذا المفكّر التركي الذي تُعدُّ رسائله التي هي فصول فكرية وبحوث دينية وشروح وتفسيرات قرآنية وسياحة فكرية في فضاءات القرآن الكريم، من بوادر اليقظة في العالم الإسلامي التي لم تدرس بالقدر الكافي، وهي من مصادر الحكمة والإشراق في التجربة التركية الحالية على الأصعدة جميعًا، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الحياة العلمية والتكنولوجية والتعليمية والثقافية والاجتماعية بصورة عامة. ذلك أن من رسائل النور استمد القادة الأتراك الذين يقودون البلاد في هذه المرحلة، بطريقة أو بأخرى، المددَ العقائديَّ والسند الروحي والخلفية الثقافية، حتى وإن كانوا ليسوا من مدرسة المفكر المجدّد الأستاذ محمد فتح الله كولن الذي يعدّ بحق المهندس الروحي للنهضة الحضارية في تركيا، ولكنهم يلتقون من حيث الجذور الفكرية والأصول العقائدية مع جماعة النور التي يقود ركبها اليوم. ومن هذه القطوف أقوال النورسي من رسائله ذات الدلالات العميقة التي تنير معالم الطريق نحو المستقبل، والتي سنعرضها في هذا المقال بنصّها بين مزدوجين. يقول النورسي:
• “إن حقيقة الإسلام هي التي ستسود قارات العالم وتستولي عليها”.
• “إن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده، وإن الحكم لن يكون إلا لحقائق القرآن والإيمان”.
• “كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الإسلام وصحْوته؛ وقد زالت، وينبغي لها ذلك.. أما خصومة الغرب فينبغي أن تدوم لأنها سبب مهمّ في تنامي الأخوة الإسلامية ووحدتها”.
• “إن السياسة الحاضرة لإسطنبول شبيهة بالإنفلونزا تسبّب الهذيان، فنحن لسنا متحركين ذاتيًّا، بل نتحرك بالوساطة؛ فأوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقن بالتنويم المغناطيسي، ونحن نتصورها نابعة من أنفسنا ونجري إثر تلقينها بتخريب أعمى وأصم”.
وينبغي الإشارة إلى أن سعيد النورسي كتب هذا في الثلاثينيات من القرن الماضي، في عهد مصطفى كمال أتاتورك الذي كان من أهدافه محو الإيمان من قلوب الأتراك ونشر الإلحاد والتمكين له ومحاربة الإسلام.
ومن أقوال سعيد النورسي التي يعبّر بها عن قوة اليقين في التغيير الذي يعيد للمسلمين كرامتهم الممتهنة وحرّيتهم المستباحة:
• “ستشرق شمس الحقيقة يومًا.. أفَيظلّ العالم في ظلام إلى الأبد؟!”.
• “إن إسناد محاسن المدنية إلى النصرانية التي لا فضل لها فيها، وإلصاق التدنّي والتقهقر بالإسلام الذي هو عدوٌّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها، وعلى قلب الأوضاع”.
ويطلق النورسي صرخة مدوية في عز جبروت مصطفى كمال أتاتوركمعلنًا الاعتزاز بالإسلام وحاثًّا الشعبَ التركي على التشبث بدينه. فيقول:
• “أيها المسلم! إياك أن تنخدع. فلا تخفض رأسك! فإن قطعة ألماس نادرة مهما كانت صدئة أفضل من قطعة زجاج لامعة دومًا. فضعف الإسلام الظاهري ناشئ من خدمة هذه المدنية الحاضرة في سبيل دين آخر”.
وفي تلك الفترة المظلمة من تاريخ تركيا المعاصرة، حيث تكاثفت ظلمات الإلحاد والكراهية للإسلام، صدع النورسي بكلمة الحق:
• “أقول بكل ما أملك من قوة: إنه لا رقيّ لنا إلا برقيّ الإسلام الذي هو ملّتنا، ولا رفعة لنا إلا بتجلّي حقائق الشريعة”.
ودعا إلى التأمل في التجربة اليابانية وأخذ العبرة منها، فقال:
• “ينبغي لنا الاقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به، فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام”.
وعبر النورسي عن إحساسه بالواقع الضاغط بكثافة التحديات التي تكتنفه، فقال معبرًا عن حالة المعاناة التي يعيشها بقلب مؤمن مقروح خاشع:
• “إنه لا يقلقني سوى المخاطر المحدقة بالإسلام. إذ كانت المخاطر سابقًا تأتي من الخارج وكانت مقاومتها يسيرة، أما الآن فإنها تأتي من الداخل حيث دبّت الدِّيدان في الجسد وانتشرت فيه فتعسّرت المقاومة. إن أخشى ما أخشاه ألا تتحمل بنْية المجتمع هذا الداء الوبيل، لأنه يشتبه بالعدو. إذ يظن مَن يقطع شريانه ويمصّ دمه صديقًا. ومتى عميت بصيرة المجتمع إلى هذا الحد فقلعة الإيمان إذن في خطر داهم. لذا لا قلق لي إلا هذا ولا أضطرب إلا من هذا. بل ليس عندي زمن أضيّعه في التفكير في التعب والمشاق التي أتعرض لها بنفسي، وليتني أتعرض لألف ضعف من شقائي ويسلم مستقبل قلعة الإيمان”.
لقد كان النورسي قويَّ الإيمان بالمستقبل راسخَ اليقين في أن ظلام الطغيان الذي يحارب الإسلام في بلاده وفي بلاد المسلمين عامة، سينجلي لا محالة، ولذلك نجده يقول:
• “لقد تحمّلت آلامي الشخصية كلها، ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتْني.. إنني أشعر بأن الطعنات التي وجّهت إلى العالم الإسلامي، أنها توجه إلى قلبي أولاً. ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد. ولكني أرى نورًا سيُنسينا هذه الآلام إن شاء الله”.
فقد كان بديع الزمان سعيد النورسي ينظر بقلب المؤمن إلى المستقبل، في تلك المرحلة المضطربة الكالحة الظلام التي كانت تركيا تمرّ بها. ولو امتدَّ به العمر إلى يومنا هذا، لرأى بصيص النور يتلألأ في الأفق، ولأيقن أن بصيرته كانت كاشفة وأنّ بصره كان سديدًا.
بديع الزمان النورسي يبشر بالمستقبل
قال الأستاذ بديع الزمان سعيد النّورسي العالم المصلح المربّي التركي الشهير في عام 1908م: “إن الدولة العثمانية حبْلى حاليًّا بجنين أوروبا، وستلد يومًا ما.. أما أوروبا فهي أيضًا حبْلى بجنين الإسلام، وستلد يومًا ما”. ولمّا زار النورسي دمشق في عام 1911م، ألقى حديثًا باللغة العربية في الجامع الأموي مخاطبًا العلماء وجمعًا غفيرًا من المصلين، شخّص فيه أمراضَ الأمة الإسلامية وعلاجاتها، (قبل الحرب العالمية الأولى بثلاث سنوات)، وعدَّ منها ستة أمراض، هي:
• اليأس والقنوط اللذان ما زالا يجدان أسباب الحياة في نفوسنا.
• موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.
• حب العداوة.
• تجاهل الرابطة الروحية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.
• ذيوعُ الاستبداد مثل ذيوع الأمراض المعدية المختلفة.
• حصر الهمة في المنفعة الشخصية دون الالتفات إلى النفع العام.
يقول سيّد شعراء التُّرك “محمد عاكف” عن بديع الزمان سعيد النّورسي: “إن شكسبير وهيجو وأضرابهما لا يبلغان إلا مرتبة تلميذ بديع الزمان في الأدب والفلسفة”. فلقد كانت لمجموعة “رسائل النور” التي أصدرها بديع الزمان (وعددها 130 رسالة خلال فترة زمنية تمتدّ إلى ربع قرن) قوةَ دفع شديدة للأدَب التركي، وللثقافة العربية الإسلامية، وللفكر الإسلامي المعاصر. يقول الأستاذ إحسان قاسم الصالحي (مؤلف كتاب “بديع الزمان سعيد النّورسي.. نظرة عامة عن حياته وآثاره”): “إن السرّ في رسائل النور يكمن في أنها لا تخاطب فئة من دون أخرى، ولا شخصًا دون آخر، وإنما تخاطب الفطرة الإنسانية وكينونتها. فالعالم المتخصص، والأديب المتمرس يجد حاجته فيها، والشاب المتعلم يجد بغيته فيها، وكما أنها تناجي وتناغي الطفل، كذلك تخاطب المرأة برقة واضحة، وتشفي غليل الرجل كذلك، فالكل يجد فيها نصيبه وحقه، بل الكل يرتوي منها”.
يربّي بديع الزمان سعيد النّورسي في القارئ القدرةَ على معرفة الدليل ووزن الكلام المقروء والمسموع بميزان الإسلام، حيث يقول: “ليس هناك من يُوصم نفسَه بالفساد، بل غالبًا ما يُظهر المفسد نفسه بمظهر الصلاح والصواب. فعليكم أن تختبروا كل قول تسمعونه ولا تقبلوا أي كلام دون اختبار وامتحان. فللكلام الفاسد رواج في عصرنا هذا؛ حتى كلامي لا تقبلوه على علاته -بناء على حُسن ظنّكم بي- وإنما أي كلام يظل على هامش تفكيركم حتى إذا ما نجح في الاختبار وظهر صدقه وبان معدنه الذهبي، عند ذلك احفظوه في القلوب، أما إذا كان صدأ -ومن معدن رخيص- فاطرحوه أرضًا غير مأسوف عليه”.
ويقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النّورسي في إحدى رسائله التي تحمل عنوان “المناظرات” تحت عنوان “ما الذي ألقانا في غياهب الضياع؟”: “سؤال: ما الذي ألقانا في غياهب الضياع وأقعدنا عن معالي الأمور؟”. “الجواب: إن الحياة حركة فعالة، أما الشوق فجوادها، وهو مطيّة الهمة؛ فحالما تمتطي همّتكم صهْوة جواد الشوق تنشدّ معالي الأمور في ميادين معركة الحياة، إذا بـ”اليأس” أول ما يصادفها، هذا هو العدو الألدّ، وهو الذي يفت في قوة الهمة.. فعليكم أن تضربوه بسيف الآية الكريمة •لاَ تَقْنَطُوا(الزمر:53). (…) ثم يشنّ “حب الظهور وميل التفوق” هجومه، هذا الميل المغروز في الإنسان يحاول التّحكم في خدمة الحق الخالصة من الحسد والمنازعة، فيهوي بضرباته على رأس الهمّة ويطرحها أرضًا مِن على جوادها.. فعليكم أن تبعثوا إليه حقيقة الآية الكريمة •كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِِ(المائدة:8). (…) ثم يبرز إلى الميدان “الاستعجال” فيزل قدم الهمّة ويقلبها على عقبيها بطفراته خطوات.. ترتّب الأسباب والمسببات مراحل العلل التي وضعها الله سبحانه في سننه الكونية.. فعليكم أن تحتموا منه بالخندق الأمين للآية الكريمة •اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا(آل عمران:200)”.
وهكذا يمضي سعيد النورسي مخاطبًا القارئ في لغة روحية نافذة، وبأسلوب بالغ التأثير في النفس.
لقد اضطهد سعيد النورسي طويلاً، وعرف السجون والمنافي داخل وطنه، وهو الرجل المسالم الوديع الذي لم يكن يملك من قوة سوى علمه وقلمه ولسانه، والذي كان يركز على التربية الروحية والتمسك بمكارم الأخلاق. وكان له تأثير بعيد المدى في تنشئة أجيال مؤمنة معتزة بالإسلام الحق المصفى من الشوائب والمعتقدات الفاسدة، من مختلف الفئات. وقد ساهم مساهمة فعالة في الإبقاء على جذوة الإيمان متأججة في القلوب أمام طغيان الإلحاد والانحرافات الأخلاقية وتجاهل الإسلام والإعراض عنه.
لقد صرخ سعيد النورسي أمام القاضي في إحدى محاكماته صرخته المدوية، فقال: “لو أن لي ألف روح لما تردّدتُ أن أجعلها فداءً لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام… فقد قلت إنني طالب علم، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة. إنني لا أعترف إلا بملّة الإسلام، وإنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمّونه “السجن” في انتظار القطار الذي سيمضي بي إلى الآخرة، لا لتسمعوا أنتم وحدكم، بل ليتناقلها العالم كله، ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف وتبدو من أعماق القلب، فمَن كان غير مَحْرم فلا ينظر إليها: إنني متهيّئ بشوق لقدومي للآخرة.. وأنا مستعدّ للذهاب مع هؤلاء الذين علّقوا في المشانق.. تصوروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إسطنبول ومحاسنها فاشتاق إليها.. إنني مثله في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها.. إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة.. إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية. لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد، والآن فإنها تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا؛ فليعش الجنون، وليعشْ الموت، وللظالمين فلتعشْ جهنم..”.
وتوفي بديع الزمان سعيد النورسي في 25 رمضان 1379هـ الموافق 23 مارس 1960م. لقد كان نسيج وحده، ونموذجًا فريدًا بين علماء الإسلام ودعاته ومربّيه ومصلحيه في هذا القرن لا يوجد مَن يضاهيه بله يدانيه أو يماثله.
سعيد النورسي يخاطب العصر بخمسين لغة
ترجمت “رسائل النور” -لبديع الزمان سعيد النورسي- إلى أكثر من خمسين لغة عالمية، من الإنجليزية إلى الكورية، ومن الروسية إلى الصينية، ومن الألمانية إلى الإسبانية، ومن الفرنسية إلى الفارسية؛ إلى غير هذه اللغات. وطبعت من هذه الرسائل مئات الآلاف من النسخ، سواء في مجموعة كاملة تحت عنوان “كليات رسائل النور”، أو في مجموعة مختارة من الرسائل، أو في رسالة واحدة. ورسائل النور هي مجموعة من المقالات (بالمعنى التراثي القديم للمقالة، وليس بالمعنى الصحافي الحديث) تعالج موضوعات مختلفة من منظور إسلامي، فيها الشرح والتفسير، وفيها التحليل والمعالجة، وفيها اقتحام لمسائل عويصة تتصل بالعقيدة وبالإيمان وبالبعث وبالحساب وبالآخرة وبالجنة والنار.. كتبت بأسلوب في غاية الإشراق والشفافية والعذوبة والإبهار، يتراوح بين اليسر والبساطة، وبين العمق والتألق في سماء المعاني الدقيقة، مع جمال العرض، وحرارة التناول. وهي جميعها تعبق بأريج الإيمان والشوق إلى الله، وتتضوع بطيب الصدق والإخلاص.. يقرأها المرء فإذا به يرتقي روحيًّا إلى الأعالي، ويسمو بقلبه ووجدانه إلى حيث الجمال والجلال والبهاء والنقاء.
وتعالج رسائل النور قضايا دقيقة بأسلوب أقرب إلى فهم القارئ المتوسط، وتبحث المسائل المعقدة بروح شفافة، وبعقل مستنير، وبلغة صافية وضّاءة. وقد أحسن الأستاذ إحسان قاسم الصالحي صنعًا بترجمته لكليات رسائل النور إلى اللغة العربية. لقد صدرت الترجمة في تسعة مجلدات كبيرة مع المجلد العاشر الخاص بالفهارس التي أنجزها باحث عراقي متمكّن. وكان سعيد النورسي يكتب باللغة التركية، ولكنه كتب بعض الرسائل باللغة العربية، بل كتب تفسيرًا لأجزاء من القرآن الكريم باللغة العربية، هو آية في الدقة والعمق والغوص في المعاني الدفينة في آي التنزيل.
وتقوم مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم بترجمة رسائل النور إلى اللغات العالمية، وتطبع منها نسخًا كثيرة في عديد من العواصم. أما الترجمة العربية فقد طبعت في القاهرة. وصدرت حتى الآن طبعتان من كليات رسائل النور باللغة العربية.
زرتُ مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم، والْتقيت بالدكتور فارس قايا رئيس لجنتها التنفيذية، حيث رافقني في جولة عبر أقسام المؤسسة، ومنها القسم الخاص بتراث بديع الزمان النورسي، وقاعة المطالعة الملحقة به، والمكتبة التي تضم المؤلفات التي نشرت عن صاحب رسائل النور، والكتب التي تحتوي على البحوث والدراسات التي قدمت إلى المؤتمرات العالمية حول فكر النورسي التي تنظمها المؤسسة مرة كل ثلاث سنوات، إلى جانب الكتب التي تضم البحوث والدراسات التي ألقيت في الندوات التي تقيمها المؤسسة في مختلف أنحاء العالم حول دراسة قضايا فكرية تتصل بهذه الرسائل، ومنها ندوات كثيرة استضافتها بعض الجامعات المغربية خلال العقدين الأخيرين.
لقد كَتب سعيد النورسي رسائله في ظروف بالغة الشدة والقسوة، وتحت حصار كثيف ضربته السلطات حوله، في زمن مصطفى كمال أتاتورك الذي أشهر الحربَ ضد الإسلام، وعمل على تطبيق سياسة “تجفيف منابع الإيمان” في تركيا. فكان هذا الطاغية هو “الرائد” في هذا المجال قبل الرهط اللئيم الذي جاء بعده في عدد من البلدان العربية، ورفعوا شعارهم الأسود “تجفيف منابع الإيمان”، حتى جفّف الله حياتهم. ولذلك كان الهمّ الأول الذي شغل النورسي هو حماية الإيمان في قلوب مواطنيه الأتراك، وتقوية ركائزه، وقطع دابر الكفر والفسوق والعصيان ضدّ شريعة الله، وإنقاذ الإنسان التركي المسلم من السقوط في مهاوي الضلال والتيه والضياع وفقدان الهوية الروحية والثقافية والحضارية. لقد نذر النورسي حياته كلها لأجل سعادة الإنسانية، فظل يقرأ مباشرة من كتاب الكائنات “القرآن الكريم” لاستخراج العلاج الناجع لخلاص الإنسانية والانتقال بالناس من الإيمان التلقيني إلى الإيمان التحقيقي.
في تلك الفترة الأولى من النضال الفكري الذي كان سعيد النورسي يخوضه بثبات ورباطة جأش، كان العالم العربي غارقًا في بحر من الأزمات المتراكمة؛ منها الأزمة الوطنية نتيجة للاستعمار والاحتلال وهيمنة الأجنبي، والأزمة الروحية التي أفرزتها رحلة البحث عن اليقين والثقة بالنفس وحماية الذات، والأزمة السياسية التي تمثلت في الخضوع للمخططات الاستعمارية التي فرضت على العرب والمسلمين، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء الأحوال وضعف ذات اليد والفقر والحاجة والأمراض والأمية. فهي موجات متلاطمة من الأزمات التي كان العرب والمسلمون عمومًا -في تلك الفترة- غارقينَ فيها إلى الأذقان، ذاهلينَ عن أنفسهم، تاركينَ الساحة للمنصّرين (لا أقول المبشرين) من كل المذاهب المسيحية، وللملاحدة من أبناء جلدتهم الذين باعوا أنفسهم للغرب الصليبي المتآمر على الأمة العربية الإسلامية، وللخَوَنة والمرتزقة والمنافقين الذين باعوا الوطن، وداسوا على مقدساته، ورضوا أن يعيشوا عبيدًا للاستعمار.
وكانت الحرب الضروس المشهرة ضد الإسلام في تركيا، خلال الفترة -التي تبدأ من أواخر العشرينيات إلى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي- تجري في منأى عن العالم العربي الإسلامي، وتحت تعتيم كامل، وبمباركة من الغرب الذي رأى في السياسة الاستبدادية القمعية التي كان ينهجها مصطفى كمال أتاتورك، ما يحقق أهدافه، ويمهد له الطريق نحو فرض الهيمنة الكاملة على الشعوب العربية الإسلامية والإجهاز على روحها وإطفاء جذوة الإيمان فيها.
في تلك الأجواء الملبدة بسحب الكفر، وفي تلك المرحلة الحرجة من تاريخ تركيا التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة وإعلان الارتماء في أحضان الغرب -بل بين أرجل الغرب- كتب سعيد النورسي رسائله التي كان يتم تسريبها إلى مختلف المناطق في تركيا، بطرق في غاية التعقيد يسّرها الله له، فانتشرت وتداولتها الأيدي في المدن والقرى، وأقبل على قراءتها والتمعن فيها والاهتداء بها الناس من مختلف طوائف الشعب، وكأنها كانت مشكاة أنارت العقول والقلوب.
لقد كان الأثر الذي أحدثته رسائل النور في المجتمع التركي بعيد الغور قويَّ النفاذ واسع الانتشار. ويمكن القول إن هذا الأثر العميق في تحويل تيارات الإلحاد إلى تيار الإيمان والعودة إلى الجذور، لا تضاهيه الآثار التي أحدثتها الأفكار الدينية والإصلاحية في أي بلد عربي وإسلامي آخر في تلك المرحلة. ولذلك كانت السلطات تدرك جيّدًا مدى التأثير الذي كان للرجل الأعزل الضعيف البنية الذي ينأى بنفسه عن الاختلاط بالناس والمحاصر في المنافي أو المعتقل في السجون المتنقل من سجن إلى آخر. ولكن سعيد النورسي كان الله معه حيثما انتقل، وكانت رسائله نعمة من الله، بدّدت ظلمات الكفر، وحاربت الإلحاد حتى صرعَته، وتصدّت للغزو الفكري والثقافي الذي يستهدف روح الشعب التركي وهويته وخصوصياته الثقافية والحضارية.
ورسائل النور عبارة عن 130 رسالة مكتوبة باللغتين التركية والعربية كتبها بديع الزمان سعيد النورسي؛
• يضم مجلد “الكلمات” ثلاثًا وثلاثين رسالة، توجز الرسائل التسع الأولى منها معاني العبادة والعقيدة ونظر المؤمن إلى الدنيا، ووظيفة الإنسان في الوجود.
• ويضم مجلد “المكتوبات” ثلاثًا وثلاثين رسالة تستهل بأجوبة عن أسئلة حول حياة الخضر عليه السلام، وحكمة الموت ومخلوقيته وموقع جهنم، ثم سرد لمشاهد من حياة المؤلف وتأمّلاته الإيمانية في الكون.
• ويشتمل مجلد “اللمعات” على ثلاثين رسالة تستهل بالدروس المستخلصة لحياتنا اليومية من مناجاة سيدنا يونس وأيوب عليهما السلام، ثم بيان أن السنة النبوية مرقاة ومنهاج، ورسالة في حكمة الاستعاذة من الشيطان.
• ويضم مجلد “الشعاعات” خمس عشرة رسالة تتناول جمال الكون ومزايا الإنسان وكيف أن هذا الجمال لا يظهر إلا بالتوحيد، ورسالة المناجاة ضمن جولة في أرجاء الكون، ثم اللواذ إلى كنف الرحمن في مراتب •حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(آل عمران:173).
• وينفرد مجلد “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” الذي ألّفه بالعربية، وهو تفسير قيّم لفاتحة الكتاب وثلاثين آية من سورة البقرة، يبين بعبارات موجزة الإعجازَ النظميَّ للقرآن الكريم، أي جهة مناسبة الآيات بعضها ببعض، وتناسب الجمل وتناسقها.
• ويشتمل مجلد “المثنوي العربي النوري” على اثنتي عشرة رسالة ألّفت باللغة العربية، وهذه الرسائل بمجموعها ترشد إلى دروب النفس الأمّارة بالسوء، وتكشف من دقائق مسالكها وخبايا دسائسها، وتضع العلاج لأمراضها المتنوعة.
• ومجلد “الملاحق في فقه دعوة النور” هو عبارة عن مجموعة رسائل جرت بين النورسي وطلاّبه الأوائل؛ وطابعُها العام توجيهي إرشادي يبين أهمية رسائل النور، ومنهجها في الدعوة إلى الله سبحانه في هذا العصر.
• وأما مجلد “صيقل الإسلام” فيضم مجموعة من الرسائل في علم المنطق، بالإضافة لرسالتين باللغة التركية تسلطان الضوء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى.
• ومجلد “سيرة ذاتية” مستخلصة من جميع مؤلفاته ومرتّبة حسب التسلسل التاريخي، جمعها ورتّبها الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. وهي عمل توثيقي تاريخي بالغ الأهمية.
• ومجلد يتضمن فهارس متنوعة لرسائل النور.
تساءلت مع نفسي أثناء زيارتي لمؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم المتخصصة في دراسة فكر النورسي ونشر رسائله؛
• لماذا هذا الاهتمام العديم النظير بآثار بديع الزمان سعيد النورسي؟
• ومِن أين يأتي هذا الإقبال العزيز المثال على رسائل النور من مختلف الطبقات وفي شتى الأقطار؟
• وهل قراءة رسائل النور والتأمل فيها والاقتداء بها والتجاوب معها والاعتماد عليها في الاهتداء إلى حقائق الإسلام، هل ذلك كله يُغني عن الاطلاع على غيرها؟
فوجدتُني أخلص إلى النتيجة التالية: إن هذه الرسائل النورانية المكتوبة بالإخلاص، والمضمخة بالصدق، والصادرة عن هذا القلب العاشق للذات الإلهية والمحترق في عشقه والمعذب بالتفكير في أحوال المسلمين بعامة وأوضاع الإسلام والمسلمين في تركيا بخاصة، هي سفينة النجاة التي تقود إلى برّ الإيمان والأمان. ولذلك كان أثرها عظيمًا؛ ليس في تركيا فحسب، وإنما في جلّ الأقطار التي وصلت إليها رسائل بديع الزمان سعيد النورسي.
ولستُ أبالغ إذا قلتُ إن هذا الرجل الذي لم يكن يَقبل أن يناديه أحد بأيّ لقب، والمعروف عند تلامذته بلقب “الأستاذ”، هو حالة فريدة من نوعها بين الرجال المخلصين الذين نذروا أنفسهم لنشر الإسلام الحق بتقوية الإيمان، ومحاربة الإلحاد، والوقوف في وجه تيارات التغريب والحداثة التي تلغي الدين من حياة الفرد والمجتمع، وتقاطع قطيعة مطلقة المقدسات والثوابت والتراث وتمحو الهويات. ولذلك فإن العودة إلى رسائل النور والغوص في أعماقها، ينعش الروح ويشرح الصدر ويقوي في الإنسان إرادة الخير والاعتزاز بالإسلام عقيدةً وهويةً ومنهجًا في الحياة. فهذه الرسائل تقود إلى رحاب القرآن الكريم ليعيش الإنسان المؤمن في ظلاله.
في الرسالة التي وجهها الأستاذ محمد فتح الله كولن إلى المؤتمر العالمي العاشر لمؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم، الذي عقد في سنة 2010م، قال: “إن كل ما يصبو إليه مثل هذا الرجل الربّاني هو نقل كل روح إلى حياة أبدية، وإسداء إكسير الخلود إلى كل أحد.. فهو في أغلب الأحيان يخطط لسعادة الآخرين، ولاسيما أمّته، إذ يتلوى مما تعانيه من بؤس وشقاء.. فهو دومًا يؤْثر الآخر على نفسه، عفيف منكر لذاته، ذو وجدان ينبض بروح النبوة”.
هذه الروح الشفافة وجدتُها تغمر مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم عند زيارتي القصيرة لها ذات يوم ممطر، ووجدت كل ما شاهدته ينطق بالشعار الذي رفع في المؤتمر العالمي التاسع للمؤسسة “العلم والإيمان والأخلاق لأجل مستقبل أفضل للإنسانية”، وهو الشعار الذي يلخص الأفكار الإيمانية الرائدة البناءة التي طرحها النورسي في مؤلّفاته، وعاش حياته مبشرًا بها وداعيًا قومه، بل المسلمين كافة والإنسانية جمعاء، إلى تبنيها والعمل بها.
إنَّ هذا الرجل الربّاني القدوة يخاطبنا اليوم في هذه المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم العربي الإسلامي، بالحكمة البالغة ومن خلال رسائله، حيث يقول: “كلّما شاب الزمان شبَّ القرآن وتوضحت رموزه”.