أنفاس القلب كتاب إذا نظرت لغلافه تجد أمرين أولهما: جمال اختيار العنوان، والثاني: دقة اختيار صورته، وهذا أمر ضروري في الكتاب فكم من كتاب ضمّ دررًا وحاز كنوزًا ولعدم التوفيق في اختيار اسمه وشكل غلافه لم يحظ بقبول، وقد تفوق الكتاب والحمد لله في هذا.

ماذا يعني أنفاس القلب؟ وما رسالته؟

ولكن دعونا نطرح أمرا وهو لماذا أنفاس القلب ؟ وهل للقلب أنفاس؟ وما هو القلب أصلاً؟ كل هذه الأسئلة تجد الإجابة عنها بشيء من الجمال والروعة والتناسق الذي يجعلنا نقول كيف كان للكتاب هذه الوحدة الموضوعية وهو عبارة عن مقالات متفرقة بين مجلات وصحف مختلفة في أزمنة متباينة؟ أقول صدق المعين الواحد والإخلاص في الجمع سبب رئيس، والصنعة والحرفية معين ومحرك، والإشراف والإنتاج يغلف هذا، والتوفيق من العلي الكبير الكاسي للجميع،. ولنرجع إلي أنفاس القلب والتي من خلالها تكون الحياة، والحياة التي نحن بصددها ليست بحياة مادة فرب رجل جيفة بالليل حمار بالنهار ليس له من دنياه إلا متعة شهواته بين بطن وفرج حتى كان قلبه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وأما الآخر فعنده هم مفعم بنشاط دعوي ورسالة إنسانية وحوار ثقافي يتحرى كل سبيل ويفاتح كل طريق ليصل لمبتغى واحد ألا وهو انبعاث الناس من غفلتهم ورؤيتهم على طريق رشيد، وهذا لا يكون إلا إذا أحيينا القلب وجعلناه يتنفس بنفس من علم، و يدق بدقات من نور و ينبض بنبضات من روح هذا القلب الذي قصده الأستاذ، وهذا المخزي الذي من أجله كُتبت المقالات وتجمّعت لتخرج لنا على هذا النحو مسددة مقاربة.

إن هذا الكتاب بمثابة صدمات إفاقة لقلوب الأمة وعلى رأسها الشباب وخصوصًا أهل الثقافة والاطلاع ومن يعول عليهم بأمر الإصلاح والتجديد وعندها يذَّكر فتنفعه الذكرى. فروح تُربى وأدب يدرس وقلوب تحيا فانبعاث يحصل وبها تتم النعمة وترتفع الغمة وتذوب الفرقة فنحن نريد إنسانًا، ولا يكون الإنسان إلا بهذا ومن أجل ذلك نقول له آدم سن. وفيما يلي بيان مجمل لما يحويه الكتاب من عناوين أستقرئ فيه مقالاته وأجمع فيه بين محتوياته وأربط بينها برباط من كلم بسيط يوضح المراد ويبرزه .

وضح الأستاذ كولن أنه إذا ما أرادت أمة الحفاظ علي نفسها والعمل لمستقبلها فلتحافظ علي أدبها وتعمل علي تطويره.

عرض سريع لأنفاس القلب

يبدأ الكتاب بالتعريف بالأستاذ فتح الله كولن ليكون القارئ على تصور تام بمن هو مقبل للقراءة له وكيف كان دوره في انبعاث الحياة الروحية في العالم الإسلامي، ثم مقدمة الناشر، والتي يُعرف فيها القلب والمقصود بالأنفاس وأنها ليست بحروف ولا كلمات ولكنها أبلغ من ذلك وأرسى في مدي تأثيرها، ثم يأتي من بعد ذلك المقال الرئيس أنفاس القلب، ثم أفق القلب والروح والتعريف الكامل بالقلب وأنه نقطة العقل والتذوق وليست بذلك العضو الذي يضخ الدم والحياة المادية بل هو الفؤاد الذي عليه يعول بالذكرى، وتأتي إليه السكينة وتغشاه الطمأنينة بذكر الله سبحانه، قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وهذا المبتغى والروح المزكاة التي لا سبيل لمعرفتها لقول الله تعالى (قل الروح من أمر ريي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )، ومن بعد ذلك يعطي الطريق للارتفاع من أدنى لأعلى من خلال هذه الأنفاس التي هي بمثابة لغة جديدة ليست بحرف ولا صوت بل تشبه الكلام النفسي إلي حد كبير، فتتفوق على أجزل الألفاظ وأفصح العبارات للوصول للمراد بل الاستقرار في المطلوب، ثم يأتي الفؤاد في صفحات منفردة وذلك مراعاة لما قد يطرأ علي الأذهان من تغير أو ما يأتي علي العقول من تخبط فيعزز الفؤاد هذا بتقييمه ونزوله لساحة يصعب النزال فيها؛ إنها ساحة الحب الحقيقي فهو صاحب عرش المحبة بل ملك كل خلق رفيع.

ثم يتابع الكتاب بدروسه ويربي بمقالاته فيُخبر بما ينبغي أن يحمله هذا القلب ويمتزج به هذا الفؤاد وهي الشفقة التي هى بمثابة أرض خصبة تنبت فيها كل أخلاق السلام بل لا أبالغ إن قلت إن الشفقة سبب رئيس في تمام الإنسانية فإنه لا إنسان بلا شفقة، ولا تعني الشفقة أن نترك الظالم بظلمه يتجبر بل من كمال الشفقة أن يعرف كل أحد من الناس حدوده وما له وما عليه، ثم يكمل المعني الموروث من الشفقة بما هو لازمه من قابلية الإنسان من خلال إنسانيته الخالصة للعفو والتسامح، ولم لا وهو الإنسان المتقلب بين ليلة وضحها في أمزجة كثيرة علي حد تعبير الأستاذ فتح الله، إن له أوقاتاً كثيرة تغبطه فيها الملائكة، وله أزمان وحالات يكاد تخجل منها الشياطين. نعم إنه الإنسان صاحب النزغات والتجليات، وتتالى فصوص اللؤلؤ في تناسقها وتناغمها من خلال باقي الأطروحات من كلام الأستاذ فتح الله فعموم وخصوص، وخصوص وعموم فتأتي المرحمة والتي هي من فيض الشفقة ومن رحم العفو ومن جسد التسامح ومنها تمتزج عناصر الكون ليشكل لنا حاله المنظور من خلال عين القلب وبصر الفؤاد، ويبقى الطريق الموصل للمبتغى لا يمكن النظر إليه إلا بالأمل فمن كان عنده أمل أوشك علي الوصول ، والأمل لا يكون إلا من خلال إيمان فما زاد علي المرء في إيمانه زاد عليه في أمله ولذا ذكر الأستاذ الأمل في قصة آدم عليه السلام لما تاب ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) وأما الشيطان فلم يكن له أمل فوقع، وأصحاب الإيمان كل منهم حمل مشعل أمله بين يديه يريد الوصول طارقًا الباب ومن أدمن طرق الباب يُوشك أن يفتح له، ثم يتفاجئ القارئ بمقال يظن أنه مفسد للوحدة الموضوعية للكتاب، ولكننا مع إمعان النظر والتدقيق الروحي نجد أن الصفحات التالية والتي هي بعنوان ( الأم ) ليست سوى تطبيق عملي لما قد مضى من شفقة ومرحمة وحب وتسامح يملأ الوجدان ويرقق الفؤاد، وفي نفس الآن هي أشد ضراوة من الأُسد في بريتها إذا تعرض وليدها لما تراه ضررًا.

مقال ( أوان الدعاء ) عبارة عن تضرعات وترجيات للرب سبحانه، يظهر فيها مدى الذل لله والخضوع للعظمة والانكسار للجبار سبحانه، والاعتراف بما جنت به الأنفس وعمدة القول فيها طلب إحياء تلك القلوب

ثم يعقب هذا بعنوان ( محبة الإنسان ) وقد يظن أنها تكرار ولكن لكل تكرار فائدة وفي الفائدة المراد فمحبة هي بمثابة دواء يقتل البغضاء ويزيل مفعول الأنا فيكون الإنسان كائنًا نافعًا لنفسه ولحوله، فالمحبة هي سبب رئيس في وجود الإنسان والكون يقول الأستاذ ( وإنما وجدت الكائنات وخرجت من طور العدم مكتسبة صفة الوجود نتيجة لإشعال فتيل العلم بها ورؤيتها بشمعة المحبة، ولولا أن الله أحب أن يخلق لما وجدت الأقمار ولا الشموس ولا النجوم، فالكون عبارة عن قصيدة المحبة والكرة الأرضية هي قافية تلك القصيدة …) يكفينا هذه الكلمات من هذه الأطروحة المتناغمة مع تلك الروح التي سمت بمجرد معرفة أننا خلقنا بالحب ، ويأتي دور الإنسان الذي هو عين المقصود بالتزكية ولب الفكر المراد وبيان موقعه وموقفه من الله تعالى، وهو عنوان آخر يتحدث فيه الأستاذ عن الإنسان بتكوينه العجيب الذي جمع كل أسرار الكون في نفسه وعلى ذلك تحمل الأمانة التي في قوله تعالى: ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً ) فكلما عظم إيمان الإنسان كلما اتسع وجدانه واقترب من ربه وحصل له الأنس به سبحانه وتعالى.

ويأتي بعد ذلك المقال الذي يعد أعجوبة القول في الكتاب وهو ( البيان ) والبيان لفظة جمعت من المعاني حتي صرت أشعر أنها مشترك لفظي من كثرة ما يدخل تحته من المرادفات وهنا أجد نفسي أقتبس قول الأستاذ: ( بأن البيان أول قطرة حبر سالت من رأس قلم القدرة نحو عالم الفناء وأنه هو أيضًا الكاشف عن المناسبة السرية بين الخالق والمخلوق، فالإنسان الذي تم عجنه وتشكيله من غبار الأرض وترابها ومائها ووحلها قد صار بفضل رأسمال العلم وفعالية البيان خليفة الأرض، وارتقى في مسجد الدنيا إلى رتبة خطيب الثقلين)؛ فأي بيان أعظم من هذا، فالسر الذي احتوى عليه الإنسان في خلقه عبّر عنه ببيانه وأفصح عنه ببنانه، قال تعالي: ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان )، وكل بيان له متذوقه الخاص الذي يقدره ويعلم قيمته كالصيرفي الذي يعرف النقود، والجوهرجي الذي يميز الثمين من الرخيص من الجواهر، ومن بعد البيان يأتي طريق من طرقه وسبيل من سبله وهو (الأدب)، والأدب كلمة نرى معناها المتبادر إما كتابة جميلة تشد القارئ وتمتع السامع أو رياضة للنفس للتحلي بصفات الكمال والتخلي عن صفات الأرازل، ولكن الأستاذ عنى بها هنا الكلام الذي لا يحمل في طياته إلا كل جميل ولا يعتريه نقص ولا تذييل، فوضح أنه لا يمكن هذا لإنسان إلا إذا استعان بكلام القرآن. كما بين أنه إذا ما أرادت أمة الحفاظ علي نفسها والعمل لمستقبلها فلتحافظ علي أدبها وتعمل علي تطويره.

ثم يأتي توصيف الحالة الحالية التي تعيش فيها الأمة الآدمية من توسع مادي يطغى علي كل ما هو جميل وإسناد الفن إلي غير أهله فأنتج لنا هذا البون الشاسع بين الماضي والحاضر. ولكن ما دخل هذا بأنفاس القلوب؟ إنه نتيجة حتمية لعدم وجود نفَس حقيقي للقلب الذي قد امتلأ بالمادة ونسي نصيب الروح ولغة الجمال فنضح هذا علي معمارنا وأشكال مدارسنا، حقًا إنها نتيجة حتمية لظلمة القلوب فلو كان عنده قلب ينبض بنبض الإيمان ما بنيت هذه العمارة بهذا الشكل ولا ضيق الشارع علي المارة بهذه الطريقة.

القلب نقطة العقل والتذوق وليس بذلك العضو الذي يضخ الدم والحياة المادية، بل هو الفؤاد الذي عليه يعول بالذكرى، وتأتي إليه السكينة وتغشاه الطمأنينة بذكر الله سبحانه قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

وتحت عنوان ( أيام آتية نحلم بها ) فإن القلوب التي قست فانتجت لنا هذا الصخب الحضاري والتقدم المزيف لابد لها من تذكر أن لنا أياماً آتية نحلم بها نفرغ فيها همومنا ونستشعر روحنا، وهذا مشحوذ الهمة له فما تلك الضوضاء إلا صدًّا لأصوات قلوب أصبحت لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، لقد غلب عليها الران فأصبحت كالكوز مجخياً. سنفرح بما يأتي لأننا أهل إيمان، والإيمان هو سبيل تحقيق تلك الهمة، وإن كان كلام الأستاذ هذا كان من فترة زمنية تزيد عن ثماني عشرة سنة إلا إنه قد يلاحظ الزحف نحو هذا الأمل بقوة حقيقية في أيامنا هذه، ولك أن تستشعر الأنفاس القلبية بقوة في قوله: (وفي المستقبل قريب جدًا سيهرع معظم الناس إلي الهدوء والأمن والسكينة أكثر من أي شئ آخر …….). وعلي نفس المنوال يأتي المقال التالي بعنوان ( ونحن نفكر في أيام الله )، وأيام الله هي أيام فيها النصر لأهل الإيمان والخزي لأهل الخسران، نعم إنها أيام ترتفع فيها أصوات أنفاس قلوب أصحاب الأفئدة فتحدث جذبه روحية ينتج عنها الانبعاث المرجو، وهذا قريب لأنه وعد الله (ألا إن وعد الله قريب)، وإذا كان هناك وعد من الله وهو قريب، فإن الله أقرب لنا من هذا الوعد ولذا وجب الدعاء وكان أوانه ولذا يأتي مقال ( أوان الدعاء ) وهو عبارة عن تضرعات وترجيات للرب سبحانه يظهر فيها مدى الذل لله والخضوع للعظمة والانكسار للجبار سبحانه والاعتراف بما جنت به الأنفس وعمدة القول فيها طلب إحياء تلك القلوب، ثم يتم المقال بشئ من العتاب علي النفس والتنديد بظلمها وكثرة تلونها كالحرباء، ويأتي تذكير بأن أهل الخدع والباطل وإن كانوا يشعرون أنهم أحياء فهم في الحقيقة أموات ولكن لا يشعرون، إننا السبب وراء كل ما يحدث لنا بسبب قراءة خاطئة وتفسير زائف وفهم سقيم، كل هذا حرم مجتمعاتنا من القواعد والقوانين ويتابع ويتابع، حتى يأتي الدور على طريق من طرق النجاة بل هو سبيل رئيس في ذلك وهو (محبة الله تعالى)، وتحت هذا العنوان تذكير بالمحبة التي هي طوق نجاة وسبيل فوز وطريق سعادة وكيفية تنميتها حق التنمية وزيادتها حق الزيادة لإزالة ما علق بالنفس من أدران ومعالجة ما طرأ علي القلب من أمراض كحب نفس وطغيان أنانية، يغطي هذا كله بالطريق الأمثل لهذا الدواء في كبسولات المحبة الربانية التي عرفت الطريق فنفعت وأنقذت، وبهذا يصح القلب وتتعطر أنفاسه بعطر المحبة فتشع نورًا، هذا النور كالكلمات التي تخرج فتكون حديثًا، حديث قلبي ( تعالوا نتبادل الحديث بقلوبنا ) هذا هو العنوان التالي ومن تحته تجد نداءً إنسانيًّا عجيبًا وكأن فيه ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )، دعوة للتسامح والمحبة التي يتبعها الرضا الكامل، فلا تعامل أحدًا بكره وإن أظهر البغضاء وإن كنت قادرً علي المقابلة فأعرض وسامح وتوكل علي الله، بل الغربة هي سمت الحالة ومهما حاولوا من تشويه فإن المحبة هي المسيطرة علينا وما كان من رمي للمتدينين بالباطل فإن مرده إلى الله، فإن تم الأمر علي هذا المنوال نتجت ( أصوات وأقوال ذهبية تخص عاملنا ) وهو العنوان التالي وهو نتيجة حتمية للسير علي طريق المحبة الإلهية والعشق الرباني فتكتسي القلوب بكساء من نور وتغشى بشيء من جمال يجعل الأذن تسمع بترنم والعين تري ببهاء. أستطيع أن أقول يكون العبد رباني ويتناول تحت هذا العنوان تلك الصورة البهيجة السحرية التي تشعرك أنك في عالم المثال بين معبد ومسجد وشارع ومحل نوم، ثم يشدو بنا الأستاذ نحو ألفاظ أهل الإيمان من قول سبحان الله والحمد لله والله أكبر كل منها يعبر عن حال يخصها، فيرى هذا العبد الرباني الدنيا من منظور مختلف عن أي أحد غيره ولذا كان العنوان التالي ( الدنيا وما فيها من منظور المسلم ) يبرز تحت العنوان أن المسلم يرى الدنيا وما فيها من زاوية معينة، يراها أنها أرض خصبة لهبوط الرحمات الإلهية والعطايات الربانية وكأنها غابة مطيرة علي حد تعبير الأستاذ كولن، برغم وجود القبح بجانب الحسن والشر بجانب الشر لكن المسلم يرى من ناحيته التي قدم لها، ويترتب علي تلك النظرة سرعة الإجابة وتحرير الشائكات للوصول إلي عالم مثالي رباني، وهو بذلك مطلوب منه التعمير المرجو لاستحقاق الخلافة والأخذ بأسباب ذلك من علم ومعرفة، ولذا جاء العنوان التالي تحت اسم (حب العلم والمعرفة والبحث العلمي) وهو نتيجة حتمية لما سبق بيانه وطريق من طرق الوصول إلي تلك النظرة العميقة، فإن هذا مما يعضض الإيمان ويرسخ المعتقد في الله سبحانه كما جاء في قوله تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فعلم شرعي وعلم تجريبي لما عمل عليه تفوق أهل الإسلام حقيقة لما كانت الأمم في الجهل تتخبط فملكوا الغالي والنفيس من تجارب وأدوات تقدم ورقي وحضارة، وهذا من خلال نظرتهم وحبهم وشغلهم على العلم والتعلم، وعكس ذلك جهل يطفح على البلاد والعباد عنتًا وشدة، بل أحزان كثيرة وقلوب متوعكة من هذا المرض الخبيث، وأسفاً أقول إن مرض الجهالة هو الذي أوصل بنا وبأمتنا إلى ما نحن فيه، بالتأكيد أننا نطالب بعمل قائم وتجارب مدروسة ولكننا نطالب أكثر بتزكية للقلوب وتربية للنفوس وخلط ذلك بهذه التجارب العلمية وضخها بمضخة الإيمان، فلا نريد فلسفات مادية محضة تجعل القوي يأكل الضعيف، ولسنا نريد رهبنة روحية تقتل الجسد ولا تعرف للمادة حقها، وهذا لابد أن يعلمه الطفل في مهده فيتربى على ذلك، ولذا كان العنوان التالي (عالم الطفولة القابل للتشكل بكل الأشكال)، والناظر للعنوان يعلم علم اليقين أن المقصود تكوين الأطفال تكوينًا علميًّا فكريًّا ثقافيًّا حقيقيًّا، يجعلهم قادة المستقبل رفعة للبلاد والعباد من خلال أخلاقنا وقيمنا الحقيقية، والإنسان لا يمكن له أن يحدد في أي وقت انتهت تلك المرحلة من حياته بل تظل معه إلى أن يتوارى في تراب القبر، وهذا يعد(وجهة نظر) عند الأستاذ كولن، يظن البعض في هذا المقال القول بوحدة الوجود، وهذا غير صحيح بل هو تعبير عن لمسة ذوق وسمو روح فإن الإنسان لما يتربى قلبه وينضج جنانه ينظر حوله فيرى الكون بمظاهره تتجلى فيه عظيم الصنعة وجمال البارئ فكل شئ يدل علي أنه الواحد، وهذا يحتاج دائمًا لشخص قد عقل وإنسان قد فهم وهو يتأتى من خلال حوارته مع نفسه ولذا جاء المقال التالي (حوار مع النفس) وفيه موعظة للنفس وإشعال لفتيل الحماسة لإعمار الكون، هذا الفتيل هو في حد ذاته وسيلة لتدفئة الروح والجسد، وينتج للنفس إشراقة تقول أن العلم التجريبي قد يجر إلى قوة، هذه القوة قد تجر أصحابها إلى التجبر والطغيان، وعلى حد تعبير الأستاذ( جنون القوة)، وهو عنوان ما يأتي تحته يكون بمثابة إضاءة على العالم الذي نعيشه والحياة التي نحياها من طغيان قوة يستطيع أصحابها تدمير معتقدات ويقلبون الحقائق ويزورون التاريخ بل يمحون حضارات بضغطة زر من جهاز صغير، حقًاً هي الدنيا التي نحن فيها الآن عصر العولمة، ومن بعد فينادي على أمته بأخذ مكانها الحقيقي بالريادة والتقدم مرة أخرى وعدم تأخرها في أخر صفوف الأمم.

إن هذا الكتاب بمثابة صدمات إفاقة لقلوب الأمة وعلى رأسها الشباب وخصوصًا أهل الثقافة والاطلاع ومن يعول عليهم بأمر الإصلاح والتجديد وعندها يذَّكر فتنفعه الذكرى.

ثم يأتي عنوان آخر هو في شكل تذكرة ختامية للكتاب ودعوة لهذه الأمة بالإفاقة وشحذ لهمة الأهل لعدم الموت قبل الموت، فالأمم كالأفراد تبذر بذرة صغيرة فتكبر في تربتها، فتنمو ثم تذبل فتموت وتدخل التربة مرة ثانية، الطريق معروف والسبيل بائن والخشوع لله سيد والخضوع له إمام، ثم يختتم الكلام بقول الأستاذ كولن ( فهم هكذا كانوا، ونحن الآن على ما نحن فيه عليه، وإن لم تكن إفاقتنا من رقدتنا منوطة بصوت الصور فمن المحتمل أنه سيأتي يوم ننبعث فيه من جديد ..).

إلى هنا انتهى الكتاب وسكتت الأنفاس وبقى الصمت الفكري مسيطر وتمت الموعظة وبانت الفكرة، وكانت هذه تجربتي مع الكتاب والذي لم تستغرق قراءتي له سوى الثلاث في المرة الأولى، ثم المذاكرة التامة على مدى أكثر من أسبوع محاولاً أن أستخرج بعض الدرر، وأن استقصي بعض الأنفاس، مجمعاً المناسبة بين العناوين الداخلية والربط بينها وبين العنوان الرئيس (أنفاس القلب) فظهرت الوحدة وتجلى المراد، والله من وراء القصد ، والحمد لله رب العالمين .