أجنحة وصال منافذ الروح

منافذ روح شهامة الأبطال لا تعود بالتمني، وإنما بالكدح والجهد والتخلي عن أنانية الذات والمال والولد.. فما أن توفرت الإرادة، حتى عقدت همم الرجال للإنجاز، وأبوا إلا أن يسهروا على سقاية ورعاية ثمارهم.. فبنَوْا مسارح همة للمّ شمل العواطف الجياشة، ولمس قلوب العطشى التي أوشكت أن تجف وتتصحر، فتم سقيها بروح من النفحات الربانية، كؤوسا بعد كؤوس.. عاد الفارس المقدام، ليحرك بلغة العشق التي تطير بأجنحة أمل الوصال عالم القلوب، من أدناها إلى أقصاها، ويحولها إلى بساتين وحدائق وزهور، تزيل برائحتها العطرة، غربة وصدأ القلوب.

توسعت مساحات البساتين سيدتي، ولكن كما تعلمين، فالمواسم تأتي بالصقيع والحشرات والجراد المدمر لرونق جمالية الحقول.. وأنّى للفارس أن يطهر الحقول وينقي جذور أغصنتها من الأمراض والأوبئة والدمار، من دون استعمال مبيدات كيميائية فاعلة؟! أنى له أن يسير بمفرده بين جداول الحقول ليحمي الأزهار من غصون الشوك البرية؟!

إن الجهل بطرق الزارعة -أستاذتي- أول داء يفتك بالقمح والزرع.. والفقر ثاني داء يفسد نشوة صبر الفلاح على بلوغ موسم الحصاد.. والاختلاف، ثالث داء يعصف بالفلاح والوسيط والمستهلك فيهلك الزرع والأرض والعباد…

نعم، كيف يمكن القضاء على هذه الجراثيم الثلاثة، والتي تشكل بجمعها في مكان واحد، نظام حياة صحية لميكروبات وجراثيم غير مرئية تتحول إلى أوبئة وطاعون، يهلك النسل والعباد؟!

كنت أتابع بشغف كطفلة تُنقَل إلى عالم الخيال في قصص الخرافات.. ملحماتٌ تاريخية بطولية تجسدت على أرض واقع بلد تركيا.. أتساءل بصوت عال مع نفسي: صحيح يا مريم، كل داء له دواء، وعقد مفتاح قلب الداء المعرفة.

فالمعرفة نور يضيء عالم الفكر ويشفيه من داء الجهل المرفق بأعراض الظلمات والفراغ والخمول والاتكال.. وبالعلم يُشفَى الإنسان من وهن الروح، وموت العقل، ومزاجية النفس… بالمعرفة تُحَلّ عُقد ُالفقير ليعيش فطرة الحياة الكريمة التي فطره الله عليها، وكرمه بها في حياته ومماته، فيسعى بما تيسر، ويرتب نظام مسلكه، فيبدأ بمقاولة صغرى وكبرى إلى أن ينتهي إلى معرفة سر عالم مقاولة المقاولات.. وبالمعرفة تُحَلّ عُقدُ الفرقة والاختلاف؛ فالإنسان عدو ما يجهل، وكلما ازداد نصيبه من الجهل تزايدت لديه القدرة على الصراع، والانفعال والاستئساد.. وحدود جغرافيته المعرفية محصورة في أخمص قدميه، ووجهته وجهة حصان العربة، النصيحة عنده سب، والشتيمة عنده فخر، الحوار عنده عار، والصراع عنده فضيلة، التفكر عنده نقيصة، والإقصاء وإشعال الفتن عنده شهامة.

بالعلم تنبعث الحِكم.. وتسري رسائل النور في الأرواح وتتواصل مع القلوب كما تتناغم حركة الصلاة الجماعية.. بالعلم تُهذَّب النفوس، وتسيح العقول في عالم مؤسسات حوار أديان وثقافات وحضارات أزمنة الماضي والحاضر، لترتشف بماء كوثر المستقبل، تحت ظلال خضرة التلال الزمردية.. تتجول في عالم الزمان والمكان، وتنتقل من حقل معرفي لآخر، وهي ترتشف من نواة الأزهار عسلا سائغا للشاربين.. عساها تشفي به داء الجهل والفقر والفرقة…

*           *           *

إن طوفان الأضواء التي تفجرت من ينابيع فوران أصحاب الأرض الخصبة الطرية بلغ أرجاء المعمورة، من خلال منافذ ذلك المرصد الصغير، الذي بدأ بسُلْفة من أب الأباء، في منهج التولي والهمة، تفجرت ينابيعه، فخاطبت الجبال والتلال والهضاب والسهول من البلقان إلى جورجيا إلى السودان فتانْزانيا…

نعم سيدة مريم، دقت ساعة الفتح، وببركة سُلفة أحد التجّار المحسنين، شيدت أسوار حظيرة المعرفة لتركز مسامير أقلام الوجود… فكان نصيبنا وافرا من رؤوس أقلام مرجانية جئنا من أقصى المغرب لنسجل بمدادها، أجمل العبارات وأرق الكلمات في ليالي عيد رأس سنة ميلادية.. أعياد أطلقنا فيها شعلة الاحتفال الممتدة نحو السماء.. ووهبنا مشاعرنا زينة نتذوق بها سر طعم براعم المدارس الفتحية.

 

نسيم القهوة

انتابتني نشوة الحكي الملحماتي لبطولات وفخر وعزة فرساننا، وكدت أنسى تناول فطوري.. كان إبراهيم من حين لآخر يعيد انسياب مشاعري بإشعاع ضوء الصور التي كان يلتقطها لنا مع الحضور. ما أطيب معدن هذا الشاب الفتي الذي حولنا بدفء عواطفه، وطيبة معدنه، من غرباء المكان إلى أصحاب الأوطان، فجعل بصوره التي التقطها لنا من كل باقة حزن لوحة جمال، ومحبة ودفء وإخلاص…

كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف، والبرنامج مكثف، لكن أشواقنا الممتدة نحو استلهام المزيد من لذة الوصال الروحي المشبع بعرفان المعرفة، أنستنا مرور الوقت كالبرق الخاطف.

في قاعة استقبال مكتب العميد السيد “محمد محيط”، كنا نتقدم أنا والأستاذ حنين عميد الكلية بالمغرب، وكأننا في سباق مع رائحة القهوة وهي تنتشر لتعطر بنسيمها مزاجي المثقل بالسفر عبر محطات قطار المعرفة التاريخية.

أدب وخلق السيد العميد “محمد محيط ” يجعلك تشعر فور السلام عليه، أنه إنسان طيب النفس، حسن الخلق، صافي السريرة. طريقة حديثه المتواضعة، ضحكته الفطرية ببراءة الأطفال، كل حركاته وسكناته توحي بأنه رجل متواضع ومن أهل الله، على غير عادة الكثير من المسؤولين الذين يتقمصون شخصية “الببع أو البوعو” (الشبح الذي يخيف الأطفال في الثقافة المغربية).

وبهذه الخصال الخلقية الحميدة، اجتمع كرم المحيط مع هدوء المتوسط، ليحملا معا همّ مسؤولية تلاقح المعارف بالخير والإحسان، فكلاهما يجمع بين عبء المسؤولية وحسن قيم أهل العلم والصلاح.

كان العميد حنين يتابع باهتمام طرق مناهج التسيير الإداري وبرامج البحث العلمي في هذه المؤسسة، بينما كنت أستمع وأنا أستنشق رائحة القهوة التركية التي أعشقها بولع وألتمس من ارتشاف كأسها الأول أن ينتشي مزاجي، ويهدّأ فيض خيوط أحلام يقظتي. استغربت مقاومة الأستاذ حنين لعبق نسيم رائحة القهوة التركية. ربما كانت رائحة طعم المعرفة أقوى تأثيرا على مزاجه، فارتشف منها كؤوس المعارف، ونسائم عطر مميزة من المحطات التاريخية، لهذا الصرح المعرفي الهام.

سألته بلطف أن يمد يده نحو الفنجان المغري، برائحة شرابه، وبعطر نكهة مذاق حبات قهوته التركية. انتهز انشغال السيد “محيط” بترتيب عدة عرض شريط وثائقي عن الجامعة، ليرتشف أخيرا رشفة من فنجانه البارد الذي ودع في صمت رائحة نسيم بهاراته الزكية. وبلغة غير منطوقة للسامعين حكت عيناه نشوة الاستمتاع بنكهات أخرى من نسائم التألق المعرفي والتربوي.. عطر الحديث عن المرافق والمختبرات العلمية.. نشوة الاستمتاع بمؤهلات الإمكانيات الضخمة التي جُهِّزت بها مرافق المؤسسة، خاصة قسم النانوتكنولوجي الذي استوقفه كثيرا بموارد ميزانية أبحاثه الضخمة التي تعود بالملايير على إدارة الجامعة.. وبلغة منطوقة تابع حديثه، قائلا:

– أستاذة مريم.. دعيني أحكي لك قصة عن القهوة، وحكمة الاعتناء بالجوهر لا المظهر.. ذات يوم التقى أستاذ عجوز بتلاميذه، بعد مرور زمن طويل من تخرجهم وحصولهم على مناصب راقية، في مسارهم العملي والمادي والاجتماعي.. وبعد الاستمتاع بمقابلته من جديد، والإطراء على جهوده في التوجيه والترشيد المعرفي، بدأ العديد منهم يتأفف من ضغوط العمل، ومتاعب الحياة التي تسبب لهم الكثير من التوتر.. غاب الأستاذ عنهم قليلا، ثم عاد يحمل إبريقا كبيرا من القهوة ومعه أكواب من كل شكل ولون، أكواب صينية فاخرة.. أكواب بلاستيك.. أكواب زجاج عادي… دعاهم ليتفضلوا وليصب كل واحد منكم لنفسه القهوة.. عندما بات كل واحد من الخريجين ممسكا بكوبه، نطق الأستاذ مجددا بعد صمت طويل: “هل لاحظتم أن الأكواب الجميلة فقط، هي التي وقع عليها اختياركم، وأنكم تجنّبتم الأكواب العادية؟” انتبه كل إلى كوبه، فلاحظوا أنهم اختاروا الأجمل مظهرا، وكانوا يعلمون أن من وراء الاختبار حكمة، في الوقت الذي عقب فيه أحدهم قائلا: “طبيعي أن يتطلع الواحد منا إلى ما هو أفضل؟”، فأجاب الحكيم: “هذا -يا بني- ما يسبب لكم القلق والتوتر.. ما كنتم بحاجة إليه في هذه الجلسة، هو طعم القهوة، وليس الكوب. ولكنكم تهافتم على الأكواب الجميلة الثمينة، وفي لحظة تأمل كنت أراقب أنّ كل واحد منكم يتطلع إلى الأكواب التي في أيدي الآخرين. فلو كانت الحياة هي “القهوة” فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الأكواب.. بينما هي مجرد أدوات ومواعين تحوي الحياة ونوعية الحياة. القهوة تبقى بنكهة القهوة لا تتغير، وكذلك هو العلم والمعارف.. وعندما نركز فقط على الكوب، فإننا نضيع فرصة الاستمتاع بالقهوة”.. كذلك -أستاذة مريم- عندما نهتم بوعاء بناء الأقسام، دون العقول، فإننا نضيع الاستمتاع بنكهة توظيف المعارف.

ودّعتُ أساتذة جامعة الفاتح، وأنا أبحر بخيالي في سر حكمة الأستاذ حنين، وأحيي ملكة النحل التي جمعت هذه الطاقات من جموع فصائل نحل مختلفة، لتنسج خلايا متناسقة، تصب فيها لؤلؤة جواهر عسلها.

 

معطفي البرتقالي وسر أعياد الموسم

عند مخرج الباب الرئيسي للجامعة، علقت أملي على حلم العودة إلى فضاء هذا الصرح يوما ما، للبوح بأسرار جمعتها ذات يوم من مصادر أهل الراية والدراية والخبرة والفراسة والحكمة في بساتين حقول الفتح النورانية.

البارحة كان حجر الأساس ثقيلا، والفكرة نطفة في أحشاء قرية “كُرُوجُك” بـ”أرضروم”، والقرية بساط تبغ أصفر، والحقول حولها الجنود إلى بساتين مارقة.. البارحة ذكّرتني برواية عودة الفرسان، كيف كانت الأُسر تهجر قبل الفجر زمن القهر؟ وكيف كانت أضواء المارقين تهدي براءة طفل صغير نحو حقول البساتين الخضراء؟

الجو في الخارج كان دافئا، لدرجة أنني لم أتمكن من لبس معطفي البرتقالي. ترى ما الذي جعلني أختار هذا اللون؟ وأنا من كنت أجهز ليلة سفري معطفا أسود قد يتحمل معي برودة شتاء تركيا. اليوم فقط علمت سر انجذاب نفسي في آخر لحظة نحو اللون البرتقالي.

روحي كانت في رؤياها ليلة سفري لإسطنبول، تترنح في تناغم تام مع لحن مراسيم أعياد مواسم جني ثمار الفتح المعرفية. فواكه بألوان برتقالية وردية بنفسجية، أبت ألوانها الزهية إلا أن ترغمني صباحا لاختيار اللون المناسب لحضور مراسيم تلك الأعياد.

السائق الأنيق عبد القادر أبِي، يتابع الحديث مع زياد دون أن يسأله عن خط التوجه للزيارة المقبلة.. يوجه مقود حافلته يمينا ويسارا نحو دروب حدائق المعرفة وبساتين صحبة الإخلاص والمحبة. لا يريد جزاءا ولا شكورا من أحد تعويضا عما يؤدّيه من وظيفة خدمته القدسية.. كنت أتأمل في نور وجهه المضيء وهو في سن ما فوق الستين.. أجادله في نفسه عن معنى القيمة المادية.. فأسمع أنين تسبيح روحه وهي تجيبني قائلة: “طلب الأجر -يا سيدتي- في وظيفة الخدمة يجرح التبليغ، ويذهب صفاء الإخلاص والصدق.. أتدرين لماذا؟” يتابع مسبحا بحمده: “لأنه حالما يتكدر الصدقُ والإخلاص تتلاشى قوة التأثير التي نطق بها لسان أنين الأنبياء: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الشُّعَرَاء:109).”

باستحياء أحاول الاعتذار لمن لا يشكو ألم العياء:

– أتْعبناك معنا يا زياد بن طارق الفتح، وفتح طارق زياد.. أتعبناكِ معنا يا أمّ سداد وأنت من تتنقلين بالطفل الملاك جمال، تسلميه مرة لحضن عمته أو خالته، تُجاهدين نفسك وأنت في حالةِ عشقٍ، لتملئي فؤادك الفارغ في عودة طريقك من رحلة نداء الروح..

أم سداد:

– أستغفر الله أستاذة مريم، أستغفر الله.. لا تقولي هذا الكلام. أنتم أهلنا وأحبابنا، ونحن نشرف بالسهر على راحتكم وسعادتكم بعيوننا..

تقولها وهي تشفق بلهفة المحب لحبيبه عن صوت زياد رفيق رحلة عمرها، ولسانه يتثاقل من تأثير وقع ترجمة المعاني الخدماتية التركية، بلغة عربية فصيحة سليمة راقية تطوي مسافات قلوب المحيطين به ومنطقة عقولهم.

قلعة مدائن الهمّة وبوح القلم

بدت من بعيد شامخة، كأنها قلعة صلاح الدين التي وصفتها كتب التاريخ.. ظهرت بمظهر مهيب وكأنه لم يمر على تشييدها شهور.. كانت البناية ممتدة الأفق، زجاجها بلوري متلألئ، بلمعان من يشرفون على صيانته وتلميعه، ينسجم في تناغم مع بريق نجوم السماء الصافية.. بدأت شرفات طوابقها الزجاجية الفخمة تلوح لنا من تلّة علوية فوق جسر الطريق السيار، ونحن نعرج شمالا لنحط رحالنا في ساحة مدخلها الرئيسي.

وقفتُ أمام لافتة كبيرة في مدخل المؤسسة، أمعن النظر في بؤبؤ عيني من خلال زجاج نظارتي الشمسية، فرأيت أشياء لا ترى كل يوم، واستحضرت شريط محنة الفقيه مستعرضة إياه في ثوان، حيث حرقة الفراق وألم البعد عن القرية والبيت والأصحاب. حققت أستاذي بحرقة آلامك، زمان وصل الوصال.. ومازلت تبحث عن من تمنحه جلال صمتك وما تريد.. تبحث عن شيء يشبهك أو يشير إلى سر من أسرار عزمك وقوة إرادتك.. يذكر بزمان رقة صوتك ويستحضر حكمة صمتك في كل ما تريد.. تبحث عن أشيائك التي تركتها أمانة في شريط سجل ذاكرتهم.. تبحث عمن تلوّنت عيناه بشيء من حزن عينيك.. ملت روح المحبين من مطاردة غيابك أو حضورك، لم تعد عدسات الزمان تسد مكان بيتك المهجور في زمان محنة ما بعد الوصال…

يا سلام، ما أجمل المدخل.. وما أرقى هذه المؤسسة بتصاميم هندسة بنايتها، ومساحات حدائقها، ونسقية جمالية طوابقها..

نموذجية بتميز أناقة مديرها وأساتذتها، أناقة في الهندام، نسقية في تمازج الألوان، رقي في آداب حسن الضيافة والاستقبال.. فسبحان من سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين! وسبحان من ألهم فارس الفتح لتوجيه أبنائه من الزمر، نحو الريادة والتميز والرقي، وما كان عن الأناقة وعشق جمالية التناسق من الغافلين!.

كان المدير يستقبلنا، رفقة أستاذ اللغة الإنجليزية ليترجم لنا مناهج التدريس المعمول بها في هذا الصرح العلمي الضخم. والغريب أنني منذ بدأت زيارة المؤسسات، وأنا ألتقي بالعنصر الشاب في عملية الإصلاح والتجديد التربوي، لم أصادف ولو مرة مسؤولا يقترب من سن التقاعد، كما هو الشأن في مقامات الضفة المتوسطية.

كان العرض يتحدث بلغة المسكوت عن مستوى الفكر واستشراف تطوير إستراتيجية التعليم، وارتقاء مراتب توليد الفعل في المجتمع.. وبلغة المنطوق يوضح لنا المدير إمكانية تحقيق مشاركة الأطر التعليمية في تطوير مناهج التعليم.

في “مدارس الفتح”، يحدد دور المدير في الإشراف على نجاح برنامج المؤسسة، وتطوير آليات التدريس وفق منهج التشاور والتداول مع “هيئة الزمر”. والزمر هي هيئة الصفوة، أو نخبة النخبة من الأساتذة في كافة التخصصات.. إنه المكان الذي تمر منه القوافل بعد أيام من المسير الذي لا يتوقف، لعزف لحن المعرفة بعد غروب طويل. هم في الأغلب أناس كثيرو السفر، ينزلون بالبقاع التي حلّ بها الجوع والقحط، فيسهرون على إطعامهم وتعليمهم، يلتزمون بأمر ربهم بتفعيل حركية القلم.. القلم الذي أمرنا الله بحمله لمحاربة الجهل. القلم لسان البصر.. القلم بستان أشجار أغصانه المعارف والعلوم.. القلم بحر لؤلؤ جواهره الحكمة.. القلم سفير العقل الإنساني عبر الأزمان..

ترى يا مريم، هل أحسنت أمّتي التعلّم بالقلم؟!.

أسئلة كنت أحاول استحضار بعد مسافة الإجابة عنها، حين باغتني أحمد مطر بجواب قصيدته “قلم الرصاص”:

“جس الطبيب خافقي، وقال لي:

هل هنا الألم؟

قلت له: نعم..

فشق بالشرط جيب معطفي،

وأخرج القلم؟

هز الطبيب رأسه ومال وابتسم،

وقال لي:

ليس سوى قلم..

فقلت: لا يا سيدي،

هذا يدٌ وفم،

رصاصةٌ ودم،

وتهمةٌ سافرةٌ،

تمشي بلا قدم!”.

 

رؤيا أختي زكية.. رسالة وصندوق.. قلم ومفتاح

عدت إلى نزل باران، حيث نور فاطمة.. قلمي يسجل خواطر ما أرتشفه من عسل الحقول المعرفية التي أجوبها طوال اليوم، لم أحدث نور فاطمة كثيرا.

كنت أرغب في الكتابة فقط. طلبت من فاطمة أن تنزل معي إلى مكتبها، فهي المديرة، وأنا أحتاج الاشتغال بالحاسوب، أراجع رسائل طلابي، وأطمئنّ على عائلتي.

في تلك الليلة حصلت أشياء غريبة.. بدأتُ بالاتصال الذي تلقّيته من السفير الأندونيسي بهولندا “يونس أفندي حبيبي”، أخو الرئيس الأندونيسي الأسبق “بحر الدين يوسف حبيبي”.. وقد تعرفت عليه في مؤتمر الطلاب الأندونيسين بالمغرب، وقد كان -رحمة الله عليه- يستأنس كثيرا برأيي في إجاباته على الإعلام الغربي، خاصة في قضية الفيلم الذي أنتجه فيلدز الهولندي عن الرسول …

كلّمني ليلتها المرحوم “يونس أفندي”، وبصوت يرتعش غضبا.. أخبرني بأنه خرج لتوّه من لقاء تلفزيوني واجه فيه هذا المتعصب، بقوله للهولنديين:

– محمد رسولنا -صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن به مليار وسبعمئة مليون مسلم، فكيف يكذب هذا الهولندي، هذا العدد الضخم من المؤمنين بسماحة دعوته، ليصدق نفسه؟!.

أجبته:

– صدقت أيها البطل.

المرحوم السفير يونس أفندي:

– أتدرين يا مريم.. إن شاء الله لن أسكت له.. وسأناضل في كل القنوات الهولندية لمواجهته… وحين يطبق الرئيس الأندونيسي ما استسمحته فيه ساعتها سأكون بطلا.

باستغراب سألته: وماذا طلبت منه…؟

السفير يونس أفندي، بصوت مضطرب:

– طلبت منه أن يلغي زيارته المرتقبة غدا إلى هولندا، ردّا على نشر هذا الفيلم المسيء للرسول  ولمقدساتنا.

أجبته فورا:

– والله أحسن ما فعلت، أهنّئك لغيرتك على الإسلام وقضاياه..

ولأنني كنت أحدثه بالإنجليزية، فهمت فاطمة معنى الكلام، فطلبت منّي باستحياء أن أسمح لها بشكره بالأندونيسية، فهي كانت أَبْلاَ متولية بالعلم في أندونيسيا وعمرها لا يزيد عن 19 سنة.. وعاشت مشرفة في مدارس الفتح بجاكارتا لمدة خمس سنوات. كانت فاطمة تحكي معه في المكتب، بينما كنت أسترجع قصص هذا البطل مع قول الحق.

يونس أفندي، كان مدرسة في الحكمة بالنسبة لي، قال لي ذات يوم:

– يا مريم، مهما ارتقينا في مناصبنا، واستقوينا بنفوذنا، تبقى فطرة التوحيد حاضرة في نفوسنا، تحتاج بعض الأحيان للمْسة صغيرة كي تحركها. أنا -يا مريم- كنت قائدا في البحرية الأندونيسية، أنا من أنشأت أساطيلها منذ نهاية الخمسينات. بعدها تقلدت مناصب عالية في البلد إلى أن عيّنت سفيرا في هولندا. في بداية فترة تقلدي للمنصب الجديد، كثرت الدعوات والزيارات والمجاملات لدرجة جعلتني أتكاسل معها على الصلاة.. فلا أحضر الصلاة، مع موظفي السفارة، ولا أحضر صلوات الجمعة في المساجد. بعد شهر جاءتني سكرتيرة صغيرة السنّ، نحيفة الجسم، قيل لي إنها كانت نصرانية ثم أسلمت. كلما حضر موعد للصلاة، إلا وتعمّدت الدخول للوضوء في مكتبي. يوم، ويومان، وثلاثة، إلى وصل يوم الجمعة، فجاءتني المكتب ووقفت، استجمعتْ كل قواها، وقالت: “أيها السفير، أنت تمثل 240 مليون مسلم في هولندا، ألا تستحيي أن تترك صلاة الجمعة، وتتلهى عنها بمواعيد في مكتبك؟!”

يقول السيد السفير يونس حبيبي أفندي رحمة الله عليه:

– ما كادت تنهي حديثها، حتى كنت أزأر كالأسد، وكرجة زلزال مدوي، كنت أصرخ بأعلى صوتي: “أخرجوا هذه المصيبة من مكتبي.. لا أريد رؤية وجهها بعد اليوم هنا.. هذه الموظفة وقحة، وتستحق الطرد من السكرتاريا ككل”.. خرجت الفتاة مذعورة، ودموعها على وجنتيها الصغيرتين، وخرج معها الجموع من موظفي السفارة يهدّؤون من روعها.

يقول المرحوم السفير:

– ما خلوت بنفسي بضعة دقائق، حتى احمرّ وجهي، واعتصر العرق من على جبيني، وناداني هاتف روحي، مستفزا تصرفي الحقير: “فأنا المسلم أبًا عن جد، تعظني وتنهاني مسلمة جديدة لم يمر على إسلامها أكثر من شهر.. إيه يا ابن الأبطال المجاهدين، يا ابن بيت العلم والورع.. أثّاقلتْ يدُك لتنزع حذاءك وتركع لسيّدك وخالقك وولي نعمتك؟! ارتفع شأنك ولم تعد ترضى ببيوت الله إقامة لك، بعد إقامات واستقبالات قصور ملوك هولندا!؟ أنت من استقويت بمنصبك، بعث لك المولى أضعف خلقه، لتوجهك نحو الصلاح والسداد”.

يقول:

– رفعت يدي لخالقي، وتضرّعت مستغفرا طالبا العفو والقبول.. نزعت حذائي، وتوضأت بدموعي. صليت ركعتي شكر في مكتبي، وطلبت سائقي لإيصالي لأقرب مسجد حتى ألحق صلاة الجمعة مع المصلين.

فاطمة نور ما زالت تحدث السفير الأندونيسي رحمة الله عليه، الذي أخبرها في نهاية اتصاله بأن الرئيس وافق على طلبه ورجع من المطار لاغيًا موعد العشاء مع الملكة الهولندية، مما أثار حينها ضجة إعلامية هزت أرجاء هولندا.

كنت مستبشرة بهذا الخبر، حين رنّ هاتفي مرة أخرى، فوجدت رقم أختي “زكيّة” من المغرب، تسألني وتطمئن على أحوالي في تركيا. أثناء حديثها قالت لي:

– يا مريم، قولي “خيرا وسلاما”.

قلت:

– خيرا وسلاما زكية.

زكية:

– حلمت بك يا مريم بالأمس وكأننا في غابة واسعة ممتدّة الأغصان والأشجار.. كلّنا كان مستلقيًا بجانب نهر صغير ممتد على طول الغابة، وكأننا في نزهة عائلية، وأنت تبحثين عن شيء. سألتك: “عما تبحثين يا مريم؟”، فقلت لي: “أبحث عن رسالتي التي كتبتها لأستاذي فتح الله”.. فأجبتك أنت لم تكتبي رسالة للأستاذ، وإنما أنا التي كتبتُها… وتوصّلتُ برد من هذا العالم الفذ المتواضع.. دعيك يا مريم الآن من الرسالة واستمتعي قليلا بوقتك معنا”. واصلتِ بحثك ولم تلتفتي إلى نصيحتي. كنتِ متأكدة من وجود رسالة ضاعت منك بين أمتعة النزهة.. فإذا بنا نسمع صوت صهيل فرس أبيض يمتطيه رجل طويل يسارع الرياح كالبرق متوجها نحونا. انفزعتُ وانفزع معي كل من كان حولي. نزل الرجل وهو يحضن صندوقا متلالئًا بالصدف وفي يده مفتاح وقلَم.. ألقى علينا جميعا تحية السلام، وتوجّه نحوك، ثم قال: “ما تبحثين عنه يا مريم معي في هذا الصندوق”.. رفعك بيده اليمنى فوق الحصان، وكالسهم انطلقتما وغبتما عن أنظارنا. صرختُ بأعلى صوتي: “مريم، مريم”.. وكلما ازداد صراخي، ازداد سكون صهيل الفرس. فصحوتُ وأنا أردّد إسمك “مريم مريم”، والعرَق يتصبّب من على جبيني.

قلت لها:

– عساه خيرا إن شاء الله.. أختي زكية لا تقلقي.. الفرس الأبيض خير، والقلم والرسالة والصندوق كلها إشارات دالّة على الخير.. لا تنزعجي رجاء، فأنا بخير ومع أهل الخير في بلد الخير تركيا.

*           *           *

الساعة متأخرة.. طلبتُ من فاطمة المغادرة وتركي أشتغل. فاطمة كانت متعبة في تلك الليلة، ومع ذلك أبت إلا أن تنتظرني عند باحة استقبال المكتب.

بدأت في كتابة أجوبة لطلابي عبر الإيميل، ثم وقفت لهنيهة أفكر، وكأن رؤية ومنام أختي أوحى لي بإشارة إرسال رسالة للأستاذ. ولم لا؟

واجب علينا أن نشكر هذا الرجل الذي ضحّى بعمره وبوقته وسعادته في سبيل تنوير عقول جيل القرن الواحد والعشرين بمنهج حضاري فاعل وبناء. لم لا أخطّ كلمة شكر لهذا المفكر الذي استطاع بإصرار قلمه السيال أن يوصل هذا الخير العميم إلى أرجاء تركيا والعالم بأسره، حتى أصبح الأوربيون والأمريكيون يعقدون المؤتمرات دراسة لعمق فكره ومنهجه الحضاري؟!

القلم في يدي.. ولكنه لم يسعفني في خط السطر الأول من هذه الرسالة.. فكرت كثيرا في أسرار القلم.. كيف يعلن عصيانه إن توقف عالم الأفكار.. وكيف يخضع بمداده وينساب، إن نحن رتبنا وهندسنا له عبارات الأفكار.

فالقلم حين نسخّره في إزالة الانحراف المتكلس المتراكم عبر عصور جيولوجية عديدة، ونوظفه في المعرفة، يوجه شوكة مداده نحونا، ويدفعنا نحو البحث عن اكتشاف أنفسنا من جديد، والعثور على ذواتنا، وإثارة إرادة تفعيل جهد متواصل، وهمّة أصيلة، وصبر غير نافد، وأمل حيوي، وإرادة صلبة، وتأنٍّ بعد تأنٍّ لزمن طويل؛ حتى نخرج درر أسرار وحكم الدنيا بالقلم، هكذا قال لنا ربّ العزة والجلال: ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العَلَق:5).

فبالقلم نستشعر التعقل، ونكتشف أسرار الكون والإنسان والحياة، وكأنها نغم مسبوك من أصوات متنوعة بسنفونية واحدة تعبر عن ألوان موسيقية، أو نقش مركزي تحيط به نقوش أخرى، وكلها روابط تشدّنا نحو المركز.

وبالقراءة يحمل الإنسان العقل والفكر إلى تفهم هذه الأسرار، بمعانٍ ومحتويات وحكم لا تحصى، فيسجّلها برسائله كتابا لمنظومة حِكم غير متناهية. القراءة أثر فنّي يعكس ملايين الألوان للعلوم الكونية والربانية، فيغرق العيون ببريقه وتلألئه، وبرؤية فنّه المبهرة.

القلم حامل رسالة الفكر والحركية.. به ننطلق لننقش على قماش روحنا ومعنانا زخارف متنوعة تناسب أذواقنا وأعرافنا وحضارتنا.. القلم خط في الحياة ممتدّ على مدى فصولها لإعداد مهندسي العقل وعمال الفكر.. أضاء بمداده قناديل تشع ضياء.

في تلك الليلة لا أدري ما استشعرته من نشوة في الاستمتاع بصفات القلم. وفجأة أعدت النظر في قلمي.. تأملت فيه كثيرا، وقررت البدء في خطاب للأستاذ فتح الله كُولن.

لا أدري من أين أبدأ وإلى أين أنتهي يا أستاذي فتح الله؟ يا من في محبة المولى بذلتَ روحك وهواك! فأهل المحبة بالمحبوب قد شغلوا، لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها.. لا أعلم كيف أخطّ رسالة لمن هاجر في البلدان حين سباه هوى المولى وبات بأوجاع حبه يتقلب.. لا أعلم كيف أخاطب

مَن لو كان له قلبان لعاش بواحد، وترك قلبًا في حب المولى يُعذَّب.. ما عساي أقول لمن هام على الكون من وجد ومن طرب، وما استقال به ربع ولا طلل…

من إزمير بيت الربيع قد سارت عزائمه، وفي خيام حمى المحبوب قد نزل. ما عساي أكتب يا أستاذي، والقلم يخبرني قبل سيل مداده قائلا:

– هنيئا لك يا مريم بشرف خط رسالة لمن تنسم مدادي عطر نسيم شرف وصال الأحبة.

فقلت له:

– نعم هم الأحبة، صوتهم ناداني عبر الزمان والمكان، فانحنيتُ إجلالا ووقارا لسماع ندائهم. كيف لا، وهم عن خدمة الصمد المحبوب ما غفلوا. فسبحان من خصّهم بالقرب حين قضوا في حبّه وحب عباده، وعلى مقصودهم حصلوا.

إن ميلادك كان مفخرة للأمّة، وبشائر وصال المحبة بين أهل الخدمة.. فيوم الاحتفال بعقيقتك -يا سيدي- كان ليلة ميلادي.. ومن زمن ابتهاج مناسبات أعياد الميلاد في أماكن مختلفة وبأزمنة متباعدة، كنتَ هناك بروحك الفانية في محبة الله تطلّ على مواليد من أقصى شمال المغرب. من إزمير إلى تطوان، إلى موقع رباط المجاهد سيدي طلحة الدريج الأنصاري، رفيق دربك ودرب فرسان التوحيد في توحد القبلة لتبارك له مولد حفيدته، ولتبعث في مهد روحها أمل حلم “عودة الفرسان” قبل أن تفتح أعينها على الدنيا، وتكحل مقلتها برؤية فضاءات المحبّة وصفاء العشق الإلهي… فحمدًا لله ربّي وخالقي ومولاي على كرم جودك وعطفك.. يا من هو خلَق فسوّى، وقدّر فهدى!. يا من لحق في كل شيء علْمه!. يا سرور العارفين، ويا أنيس المريدين، ويا من بذكره تزهو النفوس وتسعد!..

أستاذي فتح الله.. أبعث لك هذه الرسالة بمناسبة يوم ميلادك. لأنّك من الذين قضوا عمرهم في الإخلاص والوفاء والاهتمام بالعلم والمعرفة، لدرجة إيثار مشاعرك وعواطفك الإنسانية من أجل إحيائنا. وأستسمحك -أستاذي- في تجاوز لغة المجاملات، لأقول لك إنه من حقّنا عليك أن نشاركك الفرح ونُسعِدك، ونَسعَد معك.. لأنك تجاوزت طاقتك الذاتية التي تنتسب إليها، وحولتنا إلى مركز محوري لطاقة قوة الأجيال الماضية والحاضرة والمستقبلية.. وكما سمحتَ لمحبتك وعلمك باختراق أرواحنا وعقولنا، نسعد اليوم -إن سمحت لنا- باختراق حدود البحار التي تعزلنا عنك، لنلف لك أرواحنا في وديعة مأمونة، ونجعلها هديتك في يوم عيد ميلادك. فإن كان للناس في كل عام عيد، فإن لنا بك وبفكرك وعلمك في كل يوم عيد…

أنا -يا أستاذي- لستُ ممن أؤمن باحتفالات أعياد الميلاد، لكن أصدقك القول إن أخبرتك بأنني ربما أنساه لكثرة انشغالي في هموم أمتي، ولكن عندما تأتيني رسالة تهنّئني من طالب درسته أو طالبة، تكون بلْسما لي، وأحسّ بأن البنوة تطرق فؤادي الفارغ، فأسعد بالسير في درب الأمّهات اللواتي يحتفظن في صدورهن بحيوية الفكر ومشاعر القضية وعزم حسن التربية والرقي… وكما قرأت لك، ينبغي أن يكون كل جهد وهمّة، كل قطرة دمعة بعد الآن، شفاء لجروحنا التي بدت مستعصية على الدواء، وضياء للمستقبل الذي يبدو مظلما في عيون البعض من أبناء جيلنا.

ولذلك يحق لنا أن نترقب نسيجًا مباركا بألوان الغد السعيد غزلته بمغازل صوف أفكار الخير والمحبة، ونقشته بنقوش المعرفة، بعدما لقحته بأمصال الوقاية المستخرجة من مختبرات أرواح الأبطال المتّقدة بحماس القلوب، والمتجدّدة بتجدد الزمان والمكان.

*           *           *

إلى هنا توقفتُ، وتوقف معي قلمي، اشتد نعاسي، واستسلمت لنداء النوم.. فاليوم كان مملوءا باللقاءات العلمية والزيارات للمؤسسات. لم أشعر إلا وأنا أسترخي برأسي فوق مكتب فاطمة نور، في غفوة منامي التي امتدت لبضع دقائق.. رأيتُ حارس إقامتي في الرباط يرنّ علي في شقتي، ويخبرني أن ضيوفا يريدون مقابلتي.. فطلبت منه أن يوصلهم للشقة ريثما تتأهب العائلة لاستقبالهم. سألته:

– هل هم من عائلتي؟.

فأجابني:

– لا سيدتي، هم غرباء، وكلامهم غريب.

قلت له:

– كلامهم غريب؟! ماذا تقصد؟

فأجابني:

– نعم، يتكلمون بلغة لا هي فرنسية، ولاهي عربية.

والدي:

– طيب، خيرًا إن شاء الله… ربما هم العائلة من سوس. أنا سأنزل لاصطحابهم للبيت..

بعد أقلّ من خمس دقائق كان الكلّ جاهزا لاستقبال الضيوف في الصالون.. لم أصدّق عيوني حين رأيتُ أول الوافدين “زياد” قائد الرحلة النورانية، ومعه الأستاذ مصطفى، والأستاذ جمال، يرافقها إبراهيم المصور.. وهو يحمل صندوقا كبيرا مزخرفًا بالصدف الإسطنبولي والنقش العثماني الأصيل… كل الوجوه تبتسم.. يبادرني الأستاذ “زياد” قائلا:

– مرحبا أستاذتي مريم.. جئناك بالبشرى.. جئناك بردّ الأستاذ فتح الله عن رسالتك مع هدية صندوق بداخله قلمه الخاص مع مفتاح اختارهم الأستاذ خصّيصا لك.

أجبت في اندهاش:

– أي رسالة تقصدون؟!

أنا فعلا بدأت أخطّ رسالة للأستاذ.. لكن لم أتممها بعد؟!

الأستاذ مصطفى:

– لا سيدتي مريم.. رسالتك أنهيتها، ووصلت للأستاذ.. فكانت بلسما له في عزلته.. وأدخلتِ السرور إلى قلبه… فبعث لك بالردّ معنا في هذا الصندوق، ووضع لك فيه مع الرسالة مفتاحًا وقلمه الذي خط به العديد من مقالاته.

– يا الله، ما أكرمك!. صندوق وقلم الأستاذ؟!

فتحوا الصندوق، بينما كنت أرتجف في منامي من شدة فرحتي، بالمفاجأة…

الأستاذ فتح الله توّج رأسي بسطور أشاع نور مدادها في قلبي قبل أن يرتجف بها لساني وقلبي وجوارحي… كنت أقرأها وأنا أسمع همس صوته الحاني… يتلو عليّ ما لم أستحقّه من جود كرم مشاعر نبيلة وصادقة، كانت تلامس روحي ويرتجف لها قلبي قبل أن تصل إلى ذهني… كانت السطور معطّرة بمسك أدعية من نسيم ورد وياسمين.

 

الزمر.. مقاولات هندسة الأفكار

من فيض مشاعر رسالة الأستاذ فتح الله أيقظتني فاطمة نور، فأدركت أنني نمت فوق رسالتي التي وجدتُها مبللة بالدموع.. توجهت كطفلة فرحة بهدية العيد لغرفتي، فاستلقيت فوق سريري، ولم أستفق إلا صباح اليوم التالي، حيث الموعد مع الزمر.

لم أكن أعلم شيئًا عن الزمر إلا ما تلوته من الذكر الحكيم عن مصطلح “الزمر”. كنت أحاول التحكم في سير قدمي، حتى لا أسبق بخطواتي السيد مدير مدارس النجاح المتأني في مشيه، وأحاول استدراك ما يقول:

– أستاذة مريم، الحديث عن حل المشكلات التعليمية في مدارسنا لا ينطلق من استيراد مقررات معلبة جاهزة للاستهلاك، وإنما ينبثق من معاني آيات قرآنية؛ فـ”منهج الزمر” سيدتي، مستلهم من مفهوم قرآني، وفي الرياضيات والجبر التجريدي، هناك نظرية الزمر الإنجليزية (Group Theory) وهي فرع من الرياضيات يهتم بدراسة الزمر وخواصها. الزمرة أستاذة، تعني “مجموعة” أو “جماعة مشتركة في صفة أو عدة صفات”. ولكي تشكل مجموعة ما زمرةً يجب تحقق عدة شروط: الاشتراك في المنطلق والأهداف، لتحريك وتفعيل هندسة مشاريع الأفكار في كافة التخصصات.. لجان هيئة الزمرة تجتمع أسبوعيًّا، للبحث في المشكلات التعليمية، وتنجز الخطط والبرامج الضرورية الكفيلة بتنمية مهارات وكفايات الطلاب.

كنت أنظر إلى إشارات حركات السيد المدير، وهو يشرح برامج أعلام أهل الخبرة والاختصاص في فنّ هندسة البرامج التعليمية، وتأثيث فضاءات مناهج وطرق التدريس، وأنا أقرأ بسرعة أوراق تاريخ أرباب القلم، من أعلام علماء الإسلام الذين خلّدوا بمداد مخطوطاتهم، تنوعا في دائرة مناهج العلوم، وحل المعضلات الفكرية والاقتصادية لمجتمعاتهم.

إن دنيا رجل الفكر في عالم الزمرة، لا بداية لها ولا نهاية لها.. شعارها التميز والتفرد. تميز بأصدق القرارات وأخلص التوجيهات، لتكتمل المكتسبات عبر جسور الاحتضان الأسري والتبنّي التربوي، في قوالب العقل المنظم لسير المنهج.

المدير:

– إن التعليم في منهجنا -سيدتي- هو واجب خدماتي.. فالفكر المنظم لبرامجنا هو فكر ينطلق من فرضيات التساؤل عن مشروع بناء الإنسان الهادف الإيجابي وتفعيل إحساس قيمة شعوره بمسؤولية البحث عن حقيقة ثلاثية العلاقة بين “الذات” و”الله” و”المجتمع”، في لسان كل شيء، وفي كل مكان. فالفكر -يا أستاذتي الكريمة- وكما استلهمناه من أستاذنا، هو ما يتآلف مع العالم، ويمزق قوالب العقل الضيقة ليفيض بمخرجاته خارج حدود الزمان والمكان.. يتحرر من الأوهام المنسلة إلى أغوار الروح، فيوائم الحقائق التي لا تزيغ ولا تضل.. الفكر -كما أوضح الأستاذ فتح الله- هو تفريغ داخل الإنسان من أجل أن يتسع المكان للتجارب الميتافيزيقية في أعماق داخله، ليرتقي نحو مدارج الفكر المتحرك الفعال.. هذا هو منهجنا ودربنا وسر تميزنا. نحن لا نجثوا أمام برامج موهومة، ولا نجدد العهد مع مناهج تعليمية مزيفة مستوردة جاهزة للاستعمال!.

نعم سيدي، الحقّ معك.. أقولها وأنا أردد مع نفسي: “هذا هو سبيل دعاة تبليغ الرسالة.. ترك المقامات والمناصب الدنيوية.. الاستغناء عن المآرب الذاتية.. استبدال الأوراق المالية بقطع ماسات تربوية.. البعد عن بيع الوهم في دكاكين صنع المناهج التعليمية”…

 

وصية حكيم… زمن غياب الفعل

وقفتُ لهنيهة قصيرة قبل أن أستقل الحافلة.. ألوح بيدي.. أجدّد شكري لمن حملوني عبر رحلة نورانية إلى عالم حقيقي المكان، أسطوري الزمان… أشكرهم وأنا أردد وصية كلّفني بحملها الأستاذ فتح الله، ليلة رؤيا نداء الروح.. ليلة سر فضاءات عوالم سماء الخامس.. وما أدراك ما سر هيبة الفضاء؟! إنه المكان الذي يتربع على عرشه فارس المعرفة ومجدد القرن.. هناك حيث تنزل على الرؤوس الشهب بالفلك، وتحمل الأسفار، وتملأ خزائن حافظة الإنسان بمئات الكتب والمؤلفات… في تلك الليلة أوصاني الأستاذ فتح الله قائلا:

– يا مريم، يا حفيدة الأنصاري عبادة بن الصامت، طلحة الدريج الأنصاري.. أوصلي سلامي لأبناء وأحفاد يوسف بن تاشفين وطارق بن زياد وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار ومالك بن نبي الذي أحببته كثيرا، وأوصيهم بأن يعيشوا أعزاء كرماء، مستغنين دائما، أنصار الكلمة.. فمناصب الدنيا زائلة، وتأثير الكلمة قوي ثابت. احذروا الأنانية في المجادلة.. ابتعدوا عن المراء والعناد.. استعملوا العقل والمنطق والبلاغة، والفصاحة، مع ما يناسب بيان الحكمة. فكما أن التبليغ والإرشاد وظيفة، فإن معرفة فنّ التبليغ وظيفة أسمى.. إن الانشغال بمظاهر الجيل الحاضر وبملابسه وأغانيه ومسلسلاته وملاحقة فيسبوكه، بدلا من ترشيده وضمد جروحه، يدفعه للنفور والهروب من تحقيق سعادة الإنسان الأبدية…

قولي لهم يا مريم: من لم يقرأ علوم الحياة لا يخفق قلبه بحاجيات الشباب.. والمفكر هو البطل الذي يدرك عصره ويستهين بتفاهات الدنيا كلها.. وكما أن إعطاء الدواء قبل تشخيص المرض خطأ بيّن، كذلك القيام بالتدواي، قبل تشخيص المرض خطأ بيّن.. إن هذا الجيل المفتون بشاشات سلب الروح، لا يشبعه أي فكر مزخرف مزركش ما لم نرعاه، ما لم نرشده تربويا وعلميا وروحيا ومعرفيا… أخبريهم بأن علاج أزمة اضطراب جيلنا الحاضر بالحلول المالية دون تأهيلهم، هو الغفلة بعينها.

فالجيل الحاضر والمقبل هم شعلة التوقد الدائم في دم الشعوب والأمم.. هم دواء يفتت حصى عَفَنَ الزمن المتراكم على جمود العقول وشلل الأرواح.. احترموا عقولهم، فهي تزخر بمعين فائض من شلالات ينابيع الحياة، وتفجرات الأفكار.. استرشدوا بأفكارهم، فهي تتعاقب في منابع براكين أدمغتهم حدّ الانفجار.. اعطوهم فرصة لتتفجرمعارفهم بينابيع الخير، وتتوزع إبداعاتها على جداول سفوح البساتين المخضرة.. لا تمنعوهم من التفكير، لأن أفكارهم الفتية إن لم تتحول إلى شواهد حياتية متميزة ومرجعيات فكرية فاعلة، ستموت وتتدحرج من قمم الجبال على السفوح اليابسة، فتضمر النار في سهولها، وتلتهب اخضرار أغصانها ونباتها… حافظوا على شبابنا من الإحباط واليأس وزرع عدوى الشلل العقلي، والاتكال والموات الفكري…

أنت يا مريم، كنت تجوبين عوالم مختلفة من الدنيا، تحاضرين وتشاركين في المؤتمرات، أتيح لك أثناء وجودك بتلك البلدان زيارة أبنائي في مدارس المستقبل، بإندونيسيا وأمريكا وفرنسا وبلجيكا، والمغرب وألمانيا وماليزيا.. ووجدتهم في سعي دؤوب، وبحثٍ جادٍ للوصول إلى قلب عقل الأمة.. طاقات شابة، أودعت في مدارس وجامعات المستقبل، أمانة كل ما في أرواحها من أسرار مقدّسة، وكل ما في عقولها من أفكار واعدة…

جددي لهم وصيّتك -يا مريم- التي أوصيتهم بها ذات يوم في جامعة الفاتح حين قلت لهم: “أفكار الأستاذ فتح الله ملهمة القدرات الإدراكية، محفزة على بعث الإنسان الجديد.. قراءاته المستقبلية مجددا للقرن الواحد والعشرين رسمت لكم معالم طريق نهضة حضارية، تتلمسون سبلها من بين عشرات الطرق.. فلا تحفظوها عن ظهر قلب حبا في شخص مجددها، وإنما حاولوا استيعابها.. اقرؤوا ما بين سطورها.. دقّقوا في رسائلها الحاضرة والمستقبلية… لأن الحفظ من دون فهم قد يوديها ويحبسها عند جسر العبور..

القرآن ذاته -وهو كلام الله المقدس- لما حفظناه في الصدور، من غير فهم وإدراك، يتمْناه وهجرنا معانيه، أوقفنا امتداد نوره الفياض، عبر جسور عوالم الدنيا… يا ابنتي مريم، أوصي الشباب المجدد، بأننا في حاجة إلى إصلاحات؛ فالشباب المجدد في قلق دائم زمن الثورات. قولي لهم بأن الإصلاح لن يأتي من غير اللحاق بثورة الروح والفكر، ثورة التعلم، محاربة أمية تأهيل القدرات الذاتية، بالإرادة بالفعل بالإنجاز..

فاللغة الثورية الحقيقية، تبدأ مع تغيير عنصر الخمول في الذات، والتأهب بسلاح العلم والمعارف والتحصيل.. هذه الثورة هي التي على الشباب المجدّدين اكتشافها يومًا بعد يوم.. عندما ينشقّ فجر ثورة الذات، تنطلق أصوات التفعيل والعطاء، مذوية تشد خيالكم، تحت سحر أحاسيس غامضة، لتطير بكم في جو روحاني نحو أعماق الإخلاص في الإنجاز.

كنت أتلو هذه الوصية وصوتي يرتجف، ويئنّ بحنين حكمة الكلمات، التي تبعث قشعريرة في الجسد.. مشاعري مفعمة بروح وصال تبليغ وصية الأستاذ فتح الله كولن. عشتُ سحر لذّة وصال فكري وروحي في الرؤيا.. ارتشفت من ينابيع حكمها الفياضة.. تلبست أحوالي…

فكلّ ما شاهدتُه، وكلّ ما سمعته، وكل ما أحسست به، سجلته في رسالة أرسلتها في رؤياي تلك الليلة مع هدهد نداء الروح، ليخترق بها أنفاس رائحة تلك الحكم النقية، ويلقي إلى الحكيم السلام مع السمع، مبلّغا إياه أنني استنشقتها بعشق امتلأ به صدري، وأن نديم الوصية سيجمل حياة من أرسلت إليهم بتلونات عديدة.

إن سر الكلمة ينطق بجمالية، لفظ عباراتها الرقيقة، الناعمة كالحرير، والدافئة بالمحبّة دفء عش الطير، والمملوء بالحيوية كما يريدها جيل القرن، جيل مجتمع المعرفة، جيل القرن الواحد والعشرين… سر معانيها يمثل مخزون صفاء المشاعر وراحة الوجود والاطمئنان، وغاية العمران، ومغامرة المبادرة والجاهزية، وجذور تطور المعاني لبناء نهضة حضارتنا.

في رحلة الانتظار لعوالم الأمل، تزاحمت صرخات الصمت، بعد جهد الرواد الذين ربطوا حياتهم بإحياء نفوس الآخرين.. أطل علينا صوت مفكر، فتح لنا أبواب عالم رؤى المستقبل بلغة الفعل التي أنزلها من الكتاب المبين، وسار بها متجولا في القرى والأحياء والمدن، إلى أن همست بصواب هذا الفكر. ربط التنظيرَ بالواقع، فعبرت إلى منافذ القلوب وأعماق شواطئ المشاعر.. مشاعر عبّرت عنها رائعة سيد العارفين أبو مدين الغوث في مطلعها:

ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا

هم السلاطين والسداد والأمرا

فاصحبهموا وتأدب في مجالسهم

وخل حظك مهما خلفوك ورا

واستغنم الوقت واحضر دائما معهم

واعلم بأن الرضا يخص من حضرا

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل

لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

ولا تَرَ العيب إلا فيك معتقدًا

عيبًا بدا بيِّنًا لكنه استترا

وحط رأسك واستغفر بلا سبب

وقف على قدم الإنصاف معتذرا

إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم

وجه اعتذارك عما فيك منك جرى

وقل عبيدكموا أولى بصفحكموا

فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم

فلا تخف دركا منهم ولا ضررا

وبالتغني على الإخوان جد أبدًا

حسًّا ومعنى وغض الطرف إن عثرا

وقَدِّمِ الجِدّ وانهض عند خدمته

عساه يرضى وحاذر أن تكن ضجرا

ففي رضاه رضا الباري وطاعته

يرضى عليك فكن من تركه حذرا

واعلم بأن طريقا لقوم دارسة

وحال من يدعيها اليوم كيف ترى

متى أراهم وأنى لي برؤيتهم

أو تسمع الأذن مني عنهموا خبرا

قوم كرام السجايا حيث ماجلسوا

يبقى المكان على آثارهم عطرا

يهدي التصوف من أخلاقهم طرفا

حسن التآلف منهم راقني نظرا

هم أهل ودي وأحبابي الذين هموا

ممن يجر ذيول العز مفتخرا

 

على مشارف تل العرايس

عند بلوغي آخر بيت في القصيدة سألني الأستاذ زياد، وكأنه كان يختلس سر معانيها من خلجات أنفاسي وهمسي:

– أستاذتي، سمعتِ بتلّ العرايس، الموقع السياحي الشهير في إسطنبول؟

قلت:

– لا، سمعت عن جزر الأميرات، هل هي نفسها تلّ العرايس؟

زياد:

– تل العرايس من أروع المناطق، ذات التميز الطبيعي الخلاب بشرفتها وإطلالتها على البوسفور.. سُمّيت بـ”تلّة العرايس”، لأنها محط زيارة كل العرسان الجدد. تل العرايس نالت حظها الوافر من مداد شعراء تركيا، فهي كالمرأة الفاتنة تستحق أن تطرى ويتغزل المرء بجمالها.

فعلاً كان المنظر أكثر من رائع، وكانت المنطقة فاتنة. مربعات الأشجار ومساكب الأزهار المحيطة بجوانبها، تبرز نفسها نحو الضياء الممتد نحو الشمس الساحرة بأشعّتها الذهبية.. الأغصان بدت ناظرة بإشراق الظهر.. الطيور المغردة تطرب الآذان وترفرف بأجنحتها الصغيرة على ارتفاع منخفض.

نزلت من الحافلة، وبدأت أستنشق ريح سعادة المكان.. الجو صاف، وطبيعة الفضاء كلها تتنفس بسلامة النية والمحبة والإخلاص. كان بهو المنتجع السياحي الذي نقصده نقيًّا، ملأ صوته بألحان هبوب ريح التلّة.. ريح تسمع بصوتها جبال الضفّة الأوروبية الشاهقة، لتشعرها بالعزيمة وقوة الإرادة.

الهواء النقي يتنفسه الإنسان، فيخرج بالأوكسجين سموم همّه وآلامه.. يحفر تموجات داخلية في روحه، فيشعره بالدفء والأمان والقوة والصبر ومواجهة هموم الحياة.

كنت أحسب أننا وصلنا للمحطة السياحية، في هذه الرحلة العلمية النورانية.. فالمكان يوحي بجولة استجمامية التل الشامخ الذي يطل على كل أرجاء مدينة إسطنبول الساحرة، اسم “العرايس” يوهم بأن المحطة سياحية بامتياز.. الهواء النقي والطبيعة الخلابة.. المركب السياحي الضخم الذي نتوجه نحوه، مساحات خضراء شاسعة.

فيلات متفرقة، تتخللها ساحة رياضية واسعة. المسجد الكبير المحيط بالمنتجع.. الحافلات المصفوفة في انتظام أمام مدخل المنتجع. سألت زياد:

– هذا المنتجع مشهور في منطقة تلّ العرايس؟

زياد:

– سيدتي هذا ليس منتجعًا، وإنما هي مجموعة مدارس؟

أجيب:

– مدارس؟! وفي تل العرايس؟!

زياد:

– نعم سيدتي، هي مدارس وفي تل العرايس، أغلى منطقة سياحية بإسطنبول؟

أتساءل:

– مدارس في أغلى وأرقى موقع سياحي في إسطنبول؟

زياد:

– نعم سيدتي. لا تستغربي كثيرا، فأنا سأقصّ عليك قصة هذه المدراس. هذه مجموعة فيلاّت صمّم بناءها رجل ثري، وجهزها في أفخم مواقع العاصمة، بعدما أنفق عليها أموالا، ترقى بمستواه ومستوى أبنائه الاجتماعي والاقتصادي في البلد.. بعدما أكمل بناءها وصيانة حدائقها، وأصبحت جاهزة للسكن، وضع أساسات مسجد فخم مجاور لمركب الفيلات. تغيرت رؤيته لهذا المشروع السكني، فحوله إلى مشروع علمي، وأهدى مفاتيحه إلى أهل الدراية، وبهمّة بالغة السموّ وعد القائمين على مجموعة المدارس التي وهبها في سبيل العلم والمعرفة، بأنه لا يريد ذكر اسمه للناس، وأنّ قدَماه لن تطأ هذه المؤسسة، بعد تسليمه مفاتيحها.

أسأل:

– ولماذا كل هذا أستاذ زياد؟

زياد:

– أراد ذلك سيدتي، حتى لا ينْتابه أيّ غرور، أو يزين له الشيطان الاستمتاع، لغة الشكر والاطراء في حقه، فيمحى أجر صدقته الجارية..

كنا نتوجه نحو قسم مديرية المؤسسة، بإحدى المساكن، وهو المسكن المرقّم برقم “1”. شرفته واسعة ممتدة الجذور، ذكّرتني بشرفة دار الأرقم بن الأرقم.. نوافذه متنامية الإشعاع في منابت الحياة، تنفخ طلتها نسيمًا ينعش أوصال الأرواح الميتة، لتتحول إلى حياةٍ تشعر النفوس بالأذواق الرحيبة لغاية الوجود.

يتابع زياد، وهو يداعب الطفل “جمال” بلغة حنان تركية تحتضن لقاح طفولته:

– أستاذتي، هذا الرجل هو من صنْف “حفنة المجانين” التي تضرّع بها الأستاذ فتح الله، سائلا المولى U أن يرزقه صحبتهم.. هذا الرجل من أولئك “الأبطال المجهولين” و”صروح الروح” المتحركة على ساق وقدمين، الذين يسبقون للأمام أبدا، ويظهرون في الخلف دائما.. الذين يعيشون حياة مَن يترك ذكرى لطيفة للأجيال، ولكنهم يجتهدون في تحقيق متعة عناق الموت ليسمعوا في قبورهم الناس وهم يرددون: “مات مسكين، فتهنأ أرواحهم”.. هذا الرجل -يا سيدتي- بطل مجهول، لا يريد الإفصاح عن عنوانه ولا التعريف باسمه، قدم مفاتيح هذا المركّب الفخم في سبيل بناء فكر الإنسان، أوقف في سبيل خدمة إنسانية وكرامة الإنسان. هذا الصرح الذي لا يقدّر سعره بثمن، في منطقة راقية وسياحية لخمس نجوم.. ورحل بعيدا متوعدا أن لا تطأ قدماه شارع هذا المكان، حتى لا تغترّ نفسه وتزكي منافذ أعماق ضميرها يوما باستحسان صنيع العمل.

 

منافذ الخير شلالات.. تبحث عن جداول انسيابها

بلداننا الإسلامية، فيها أعداد من أمثال هذا الرجل، وجدت منها في الخليج، إندونيسيا، وماليزيا، وبلدي الذي أعشقه المغرب. فكرم أهله من المحسنين فياض، تشهد به مساجد عامرة، شيّدت من غير ذكر أسماء، تجهيزات مستشفيات، دور أيتام وعجزة، مؤسسات خيرية، جمعيات مجتمع مدني…

المغاربة شعب كريم، مضياف.. قلوبهم خيرة مفطورة بفطرة تراب الأرض.. أراضيهم فلاحية، وارتباطهم بالتراب يحيي في أرواحهم نبت حب الزرع الطيب.. أموالهم جاهزة للعطاء.. الضيف إن حضر، استلف الفقير من البقال، لإكرام ضيافته، فما بالك بالغني إن طرقت بابه؟ كذلك هي شيم أهل مصر والشام والحجاز والسودان والخليج والمغرب العربي وعمان، بل هي شيم المسلمين في كل بقاع الدنيا، كرم جود وعطاء…

الخير في أمّتنا كثير، وأهل الاحسان يحتاجون فقط تغيير مسلك عطاءاتهم من الاستثمار في بناء الجدران الخيرية إلى التوجه قليلا نحو الاستثمار في بناء العقول ودعم مراكز البحث العلمي. يا ليت قومي من مسلمي العرب والأمازيغ والعجم، يعلمون بسرّ تلّ العرايس الذي تحول من مشروع سياحي، إلى مشروع علمي!. يا ليتهم يشاهدونه فتفور مشاعرهم بالعبادة والطاعة، وتتدفق معها أحاسيس القابلية في الاستمتاع بالعيش مع الشعور بمسؤوليات معرفية أخرى.. يا ليت أموالهم ترتقي إلى ذروة البحث عن النجباء والأذكياء، والاستثمار في مواهبهم ومهاراتهم بمشروع “اقرأ.. تعلّم.. ابحث.. ادرس.. طور.. جدد.. استشرف المستقبل”.. ساعتها ستكون استثماراتهم قد احتضنت كل شيء، وأطلّت بأسهمها وشركاتها ومقاولاتها على الوجود بأكمله.

آه يا زمن الأبطال من أغنياء مستقبل الغد.. يا من بدبيب تحرككم الصغير ينمو كيان علمي وصرح معرفي كبير.. يا من باستثماركم في بناء الانسان تنسجون نسيجًا مباركا بألوان الغد السعيد.. تنقشون مقاولات أفكار صغيرةٍ تكبر بتشييد طوابق أفكار خير المستقبل، فتنتجون عقول أجيال محظوظة في الزمن الحاضر.. توشحون صدورها بميداليات الفوز والتألق في ميادين السباق الحضاري العالمي…

كنت أسأل عن سر سعي خطى فارس القرن الواحد والعشرين، نحو إدامة حيوية عواطف الهمم الجياشة، والأحاسيس المنسجمة في إيقاد جذوة الحماس، باتحاد العقل والقلب، وتهيئتها لمواكبة شروط الزمان والمكان..

ونحن ننحدر أسفل تلّ العرايس، في اتجاه أكاديمية البحوث والعلوم، كنت أجيب في صمت عن سؤالي: “نعم يا مريم.. إنه سر مكنون لمن يعيش تحت وطأة يوم، يسأل فيه عن عدد أنفاسه.. إنه درب الأنبياء والصدّيقين والأولياء والشهداء الأبرار. فيا حسرة من يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.. يا حسرة الحسرة على من يقولون ما لا يفعلون.. إنّ مَن لا يراقب مشاعره وتصوراته لا يمكنه أن يحرر سجون الأرواح ومساكنها..

كان المدخل مزيّنا بلوحات فنّية لرموز أبراج مخزون بنات أفكار، هذا الصرح الأكاديمي البحثي العلمي: “برج”، “دفينة”، شَهْدَمار”، “إِيشِيق”، “أكاديميا”، “قايْناق”، “كُولْ يُورْدُو”، “خزينة”، “لاَيْت” للنّشر، مجلة “يَنِي أُومِيد” الدينية، مجلة “يَغْمُور” الأدبية، مجلة “كُونْجَا” للأطفال، مجلة “فونتين” الإنجليزية، “سُتُونْ”، مجلة “حراء” العربية، دار “النيل”..

سألت الأستاذ “جمال” مدير المعهد:

– كيف تمكّنتم من جمع كل هذه المجلاّت العلمية، ودور النشر تحت مؤسسة واحدة؟

الأستاذ جمال:

– اسم المؤسسة يوحد مسارها، والعمل الذي ينسلخ عن المجهود الجماعي يخرج بحلّة غير منسجمة وغير موحدة الأهداف. المثقف إنسان علم ومعرفة، وموقفه في الإنتاج المعرفي لأفكاره ينبغي أن يساير التوجه الحضاري العام لمجتمعه وعصره.. من شيدوا أول لبنة في هذا المعهد -أستاذة مريم- هم أناس تحرقوا في سبيل إحياء لغة الحراك الثقافي، وتفعيل قدرات الإرادة الذاتية، تعاهدوا على أن يملأوا النهر بقطرات منتظمة من شلالات المعرفة، فغرسوا بذرة شجرة أرز صغيرة، وأحاطوها بالعناية والسقاية والرعاية، إلى أن كبرت وامتدت أغصانها عبر أرجاء العالم.. استطاعوا لبعدهم عن لغة قداسة الذات الـ”أنا”.. أن يشيدوا صرح ثروة معرفية متلونة الاختصاصات والعلوم.. فنالوا التوفيق من رب العالمين بما صدقوا وأخلصوا..

 

في رحاب حراء

التجول في أروقة مكتبة الـ”أكاديميا” للبحوث والعلوم والانترنت، يوحي براحة امتداد فكري عميق.. من أرجائها انطلقنا نحو ممر طويل، ليوصلنا إلى مجلّة حراء… باحث مغربي يجلس فوق كرسي بباب المكتب، ملامحه مغربية، ترددت في سؤاله، سبقني بالوقوف وإلقاء التحية:

– أهلا أهلا أستاذة مريم..

سألته:

– هل تعرفني؟

قال:

– طبعا أعرفك، حضرتُ لك ندوة، سنة 2010 تحت عنوان “الإسلام من هنا وهناك”، كنتِ تتحدثين عن مستقبل الجيل الجديد في البناء الحضاري.

أجبته:

– صحيح، كان هذا في الرباط، حيث اجتمعنا مع نخبة مفكرين من حول العالم.. وماذا عنك، ماذا تفعل هنا في مكتب مجلة حراء بإسطنبول؟

سعيد الباحث المغربي:

– جئت لتعلّم اللغة التركية، وهي تقدم هنا مجّانا لمدة سنة كاملة.

أعقب:

– معنى هذا أنك تريد إتمام دراستك بتركيا؟

سعيد:

– صحيح أستاذة مريم، أنا طالب باحث، أكمل الدكتوراه.. وموضوع بحثي “العلاقات التركية المغربية”.. جئت قاصدا تركيا، بحثا عن المراجع والوثائق التاريخية.

ودّعته وأنا أدعو له بالتوفيق والسداد.. فهذا المشروع العلمي نحتاجه حقيقة في استشراف أبعاد هذه العلاقة المستقبلية.

تابعت سيري نحو مكتب مجلة حراء التركية العربية. الأستاذ زياد -وبابتهاج الأطفال ليلة العيد- يجوب بنا أرجاء حراء، بيت العرب المعرفي والعرفاني.

“حراء” الصادرة عن مجموعة “قَايْنَاق” للنشر، يرأسها الأستاذ نوزاد صواش.. بالصدفة وفي زاوية من قسم مطبعة حراء وقفت أمام مهندس البرامج، وهو يرتب ويصنف محور العدد الذي شاركت به تحت عنوان “سؤال العلاقة مع الآخر”. فالرجل لا يعرف العربية، ولا يعرف مَن أكون، لكن شاءت الأقدار أن أزوره في مكتبه وهو يصمم لوضع صورة معبرة تتناسق مع محور بحثي.. فرشح المفتاح، كرمز لإكسير حياة المجددين.. وضع المصمم الفني صورة لمفتاح في راحة يد، وكأن حدسه أخبره بأنني سأحصل بعد حين من الزمن على مفتاح صندوق وقلم فتح الله بفضل من الله ونصر.

إشارة المعنى هنا وصلتني.. فدعوت في نفسي قائلة: “إلهي، أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك، وأنت الجواد بالعطاء من قبل الواقفين بباب رحمتك.. إلهي، إني أسألك بكتابك المبارك، وبجميع ما فيه من لطائف الأسرار، أن تجعل حبك وحب رسولك أحب إليّ من نفسي وأهلي، وأن تحيي قلبي بنور المعرفة، وأن تنوّر فؤادي بضياء الهمة”.

حان موعد صلاة العصر، فاستأذنت في السماح لي بالصلاة.. كان نصيبي وافرا من حظ إقامة الصلاة في حراء، اسم موضع نزول الوحي. حراء جبل النور، وحق له أن يسمى كذلك. فالجبل نور، واتصال وحي السماء بالأرض نور، وخير خلق الله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام نور، والتفكر في ملكوت الله بحثا عن الحق نور، وأول آيات الفرقان نور حقّ وبيان للناس… على هذا الجبل كانت لحظة من أجلّ وأعظم لحظات التاريخ، إن لم تكن أجلها وأعظمها على الإطلاق… لحظة نزول الوحى لأول مرة بفرض العلم والتعلم، بأمر القراءة ﴿اقْرَأْ﴾.

حراء المجلة العربية الأولى في تركيا.. حراء التي أبت إلا أن تحل ضيفة كريمة بغنى هداياها العرفانية والأدبية والعلمية على كل بيت عربي من طنجة إلى القاهرة فعمان فالسودان فسوريا فلبنان فالجزائر فالخليج، إلى كافة أرجاء العالم العربي.. حراء تسعى -جادة- لبناء جسور التواصل والتلاقح الثقافي والفكري والحضاري بين الشعوب، تعزيزا للعلاقات التركية العربية.. حراء قَيْنَاق تهذيب الأرواح، نسج خيوط نور رسائل المحبة النورانية تحت ظلال الأحاسيس.. حراء فتح الله لإقليم النور العربي بلسان عربي، حوصر منذ عام 1924 ليتسع بإعلامه العلمي والإنساني في أرجاء واسعة من جزر التصورات.. حراء كما قال عنها مدير هندسة أفكارها “هي جسر ممتدّ لمحاورة بين أسرار النفس البشرية، وآفاق الكون الشاسعة”.. حراء جسر تركيا العربية، الممتد نحو آفاق رفع راية الإسلام، بكلمة الشهادة العربية: فالتركي والإندونيسي والهندي والأمازيغي والأعجمي حين يردّدها إعلانا عن توحيده بلغة القرآن، يردد “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله”.. والمآذن من حول العالم حين تعلن نداء الرحمن، لا تعلنه بلهجات أقوامها، وإنما ترفع تكبيرة الأذان باللغة العربية: “الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله”.

نعم إنها حراء… محراب اعتكاف العالم الناسك، المسبّح بحمد ربه، المتدبّر في ملكوته.. محراب قُدّر لي من أقصى شمال المغرب أن ألبّي فيه نداء الأذان التركي “حي على الصلاة، حي على الفلاح”، لأصلي فيه صلاة العصر.. فاستقر في محراب دعائي بلوغ اليقين في سجل دفتر عزم أبناء الخدمة…

*           *           *

كانت عودتنا إلى الحافلة مغمورة بسعادة عواطف عميقة تتلاطم في جوانبنا، لتنتشلنا إلى عالم سحريٍّ يبعث رجفة في سواحل قلوبنا ويجدّد أمَلنا في صرخة إحياء عوالم القلم المكتومة.

تركنا مقام المعاني في تجديد ربط صفوة المعاني، ونحن نربط الماضي بالحاضر لنستعيد ذكريات أمجاد بناة التاريخ وفرسان التغيير والإصلاح.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.