فتح الله كولن.. ملكة إيمانية ونزعة إنسانية

“فتح الله كولن”، مفكر تركي معاصر؛ رفيع الفكر، وَضَّاء الروح، سامي الضمير، يقظ الفؤاد، مَوَّار الذكاء، خصب العطاء، ذو روحية دينية عميقة وواسعة، غير تقليدية ولا نمطية… ترتفع مصعدة حتى تلامس أصفى ما في سماوات التصوف من نقاء، ثمَّ تعود لتتسلق أعلى درجات الفكر، وأسمى ما وصل إليه العقل عن علاقة الإنسان بالكون والطبيعة والحياة.

الأمة التي تخاف تبعات وجودها أمة لا تستحق أنْ توجد، لأنها تظلُّ منكفئة على نفسها، تستذكر الخوالي من أيامها، دون محاولة منها للإضافة والتجديد

ملكة الإيمان مأواه

وهو كذلك ذو ملكة إيمانية تملك عليه أقطار نفسه، وجوانب فكره، تجدها ظاهرة واضحة الظهور في كتاباته إذا كتب، وفي أقواله إذا قال، أو تحدث أو وعظ… إننا نستطيع أنْ نتخيله مجردًا من كثير من خلائقه، ولكن يستحيل علينا أَنْ نتخيله مسلوبًا من ملكته الإيمانية، لأنها جزء من نفسه، وقطعة من كيانه، وشطر من قلبه، وفلذة من فلذات روحه، مفطور عليها، ومولود بها، تصحبه ويصحبها.. إذا حزبه أمر، ونزلت به النوازل، وادلهمتْ عليه الخطوب، آوى إليها، وبها اعتصم؛ فإِذا به رابط الجأش، واسع الصبر، قوي الاحتمال، مع إمعان نظر، وعِظَم ثقة، وطيب نفس، وبسمة أسف وأسى.. ركين لا تهزه العواصف، ولا توهنه الأزمات.. عنه يأخذ الآخرون العزائم، فيشدُّ عضدهم، ويزيد من صلابة إراداتهم.

النزعة الإنسانية

إنَّه إنساني النـزعة، يحب الإنسانَ من حيث كونه إنسانًا، ويشفق عليه، ويخدمه، ويبكيه مُرَّ البكاء، ويسعى للتخفيف من آلامه وأحزانه، ويَدُلُّهُ على مناحي عظمته الغائبة عنه، ويربأ به أن يعادي نفسه، ويحطم ذاته، ويشتت شمل فكره.

فتح الله كولن إنساني النـزعة، يحب الإنسانَ من حيث كونه إنسانًا.

تلازم المنقول والمعقول

الأستاذ “كولن” وَقَّافٌ عند “النَّص الديني”، لا يغادره حتى يشبعه درسًا وتفسيرًا وتأويلاً… المنقول والمعقول عنده متلازمان، يقيس الغائب على الشاهد، والمعنوي على الحِسِّي، وما وراء العالم على شبيهه ومثاله من العالم نفسه… إنَّه يَمُدُّ الإنسانَ بمَجَسَّات جديدة، يَتَحَسَّسُ بها حقائق الأشياء في ذاته، وذات الكون والحياة، وهذا الذي نقوله نلمسه في أكبر كتبه وأصغرها على حدٍّ سواء… فقد كان يعالج قضايا غاية في التعقيد، وغاية في الانحراف، غير أَنَّ انفعاله لم يؤثر على اتّزانه العقلي، وعلى ركانة قلمه، ومع ذلك لم يمنعه من انحدار دمعه الذي يحمل من الإشفاق والرثاء للإنسان ما تحمله قطرات البحار من ثراء شجي، وحزن أسيف، على غرقاها من بني البشر.

 

المصدر: من كتاب “الضاربون في الأرض”

Leave a Reply

Your email address will not be published.