استطالت رقدة الأمّة، ونالت منها قرونُ عاشَتْها في كابُوس الاستسلام والوهن والانْهزام. وانْخذلت الأمّة ـ أول الأمرـ حين تفرّقت في عقيدتها شيَعًا، وذهبت الفرق يُكفِّر بعضُها بعضًا، ضاربة عرض الحائط بالهدف التوحيدي الذي تأسّست عليه الشريعة ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(آلِ عِمْرَان:103).. وكان منهاج السنّة النبوية وانفساح مساحة القدوة والعمل بتطبيقاتها عامل ترابط وجمْع، لكن الحطة الروحية والتعصب المذهبي وضحالة الفكر وقصر النظر فشت في الأوساط، فحوّلت الوحدة تشرذمًا، والقوة وهنًا، والجمع بددًا، وانحدرت الذهنية الخاوية إلى الهاوية وباتت -ضلالاً- تحترف التكفير والتفسيق.

  يتّسم فكر الأستاذ “كولن” بأنه منهجي معطاء، يشتمل بفضل روحه القرآنية، على عناصر التجنيد والترشيد والتحدّي، ويستمدّ من شريعة الإسلام السمحة القواعد والقوانين التي تتأهّل بلا منازع لإقامة المدنية المرشدة

ثم انهزمت الأمّة تحت ضربات الأمّية والفقر والمرض، إذ إن دوران رَحَى الفتن يوقف عجَلة النماء، ويتلف المحاصيل، ويصيِّرُ الأرض بلقعا لا تُنبت إلا الشّوك والحسك. ثم زحفت القوى الأجنبية الحاقدة واحتلّت الديار، وقهر سادة الأمس، وصاروا في وضع الحطة، يدفعون الجِزْية عن يدٍ وهم صاغرون. تلك معالم مسيرة الانحطاط كما سجلها التاريخ على الأمة.

 باعثو الأمل

راهن باعثو الأمل على الانبعاث والغد السعيد وإعادة الأمور إلى نصابها كرةً أخرى.. رموز وعوا الدروس واستوعبوا العبر.. عُدَّتُهم وعتادهم في هذا الرهان، الإيمان بالله واليقين من أنهم هم الأمّة التي هيّأها الله لصنع الخيرات وتحقيق المكرمات.. شعارهم الخالد: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾(آلِ عِمْرَان:110).

ومما لا ريب فيه أن على رأس هؤلاء الرموز يقف اليوم الأستاذ كولن منارة فكرية تلهم الأمل واليقين في النجح، وتبثُّ الأضواء. لقد حاز الإكبار وانصاعت له الإرادات والرجال، بما تميزت به سيرته العصماء من تبتّل وثراء روحي وقرآنية، وما اتّسمت به مشاريعه وبرامجه النهضويّة من شمول ورشدانية. ولا أدلّ على ذلك من أن بعضَ قطاعاتِها قد آذن بالإثمار والإيناع.

من سمات فكر “كولن”

يتّسم فكر الأستاذ “كولن” بأنه منهجي معطاء. واشتمل بفضل روحه القرآنية، على عناصر التجنيد والترشيد والتحدّي، واستمدّ من شريعة الإسلام السمحة القواعد والقوانين التي تتأهّل بلا منازع لإقامة المدنية المرشدة، وتأطيرها وهيكلة توسعاتها المادّية والمعنوية، والسير بها في اتّجاه يخدم الإنسانية.. إنه فكر كوني أسس على التقوى، لا يفرّق بين الأجناس والأمم، ويتوخّى الخير والصلاح للعالمين.

أن الحضارة تدوم وتنبني بالفكر المتوازن المرتكز على دعامتي الروح والمادة، وإذا خلت الحضارة من الروحانية ضمر فيها معين الرحمانية، وانعطفت بالإنسان نحو الضلال، وانحبست به العجلة في دائرة الصغار والقصور، وباءت فتوحاته ومدنياته بالكساد والثبور. والحياة الفاضلة هي التي يقترن فيها الشكر بالذكر بالفكر، وإلاّ انحدرت بالمجتمعات إلى درك البهيمية وانعدام المثل.

مثلما أثبت الفكر القرآني في الماضي، سيثبت مستقبلا عبقريته في البناء وتحقيق الازدهار الذي لا يكبو ولا ينبو ما استقام الإنسان على الطريقة، واستمسك بالعروة الوثقى.

بناء صرح الفكر

على الإنسان أن يجعل في مقدمة أهدافه الحياتية بناءَ صرحِ فكره كي يكتمل إيمانه، فلا إيمان بلا تفكُّر وتأمُّل وتدبُّر. والفكر السليم فكر تتمازج فيه الدعامة الدنيوية والدعامة الأخروية على السواء، إذ خلق الله الآدميّين ليعبدوه وليعمروا الأرض والكون كي تتوطّد شروط الحمد وتزدهر رحاب المحامد. فالعمل الصالح عيْنُ العبادة لأنه تصديق للقلب. أما الزهد السلبي والتنصل من الواجبات، فمحظور في الشرع، ومجانف لروح العقيدة التي طفقت تقرن في المتن القرآني شرطَي الإيمان والعمل الصالح، قاعدةً لبلوغ درجة الامتثال والكمال.

والحال نفسها بالنسبة للمجتمعات، فهي مطالبة ببناء فكرها، وترقيته، وذلك يقتضيها أن تهتم بالارتكازين الروحي والمادي، الدنيوي والأخروي معًا، حتى لا تختلّ المسيرة التعميرية التي أناط الله أمرها بنا، لأن التعمير من منظور الإسلام هو الركن التطبيقي للعبادة.

————————————————————————————

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:53-55.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts