إشباع العين لا السمع
عالمنا اليوم في حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى وقفة للتأمل، بل في حاجة إلى وقفات تأملية وتفكُّرية كثيرة، وإلى تدبر عميق في حال إنساننا ومآله، وإلى تشريح نفَّاذ عبر مسبار التعقل والحكمة، بغية تشخيص حقيقة الداء العضال الذي أصاب روح الإنسان فينا في مقتل، حتى ليكاد الجميع يجمع على أن الفوضى والتنازع والفرقة والصراع هي العملة السائدة في كل مكان، فأينما وليت ستواجهك الفتن والخوف والحزن والقهر والموت وقد جثا بكلكله على القلوب وعلى الأرواح، فصارت عاجزة عن تقديم وجه يسهم في إيجاد السبيل إلى مخرج من هذه الورطة الكبيرة ويحد من استفحال الجرح الغائر.
العالم اليوم في حاجة لأن ينصت لصوت العقل والحكمة، ولصوت قادر على النظر إلى ما يجري حولنا من مقام يتيح رؤية كل شيء، واستيعاب كل ما يجري برؤية أخرى ومنطق مختلف، لأنه استطاع رصد مقدمات الأزمة وحذر منها ومن الانخراط فيها، بل وكان قادرا على توقع طبيعة النتائج التي ستسفر عنها ودعا إلى تغليب صوت العقل والحكمة وعدم الانجرار إلى دوامة الفوضى لأن دخولها أيسر بكثير من الخروج منها. إن حال من في قرار دوامة الفوضى لا يتيح لمن انخرط في الفتنة بالمرة أن يصف لنفسه العلاج ويتصور الحلول، لكن هناك من اختار بوعي الابتعاد عن رياح الفوضى، وأعد العدة الفكرية والمنهجية والروحية لمرحلة ما بعد الإعصار، كالطبيب المعالج الذي يقف عند أبواب بناء تلتهمه النيران يمد كل من يخرج منه بجرعات هواء نقية وصافية تعيد له توازنه وتمسح عن عينيه غشاوة دخان الفوضى.
العالم اليوم في حاجة لأن ينصت لصوت العقل والحكمة، ولصوت قادر على النظر إلى ما يجري حولنا من مقام يتيح رؤية كل شيء، واستيعاب كل ما يجري برؤية أخرى ومنطق مختلف
لا أحد يجزم متى سيتوقف الإعصار، ومتى سيعلم من انخرط في الفوضى أو تسبب فيها وزرع الوهم بأنه لن يحصد إلا المآسي والويلات والثبور والتيه وبأنه يجب أن يرفع يده عن مصير الإنسان، لكن من لم تتلوث يداه ونأى بنفسه بوعي عن ذلك كله واختار بأن يكون منارة تشتعل عندما يخبو ضوء المنارات الأخرى، إن ظلت واقفة، لفي مستطاعه أن يكون مرشدا وموجها حصيفا، في زمن قل فيه المرشدون الذين يجعلون من الحكمة منهجهم.
من وسط هذا الركام تهبُّ نسمة “نسمات” منبرًا للتأمل الفكري والمنهجي والأكاديمي في فكر الخدمة، وفكر المفكر فتح الله كولن، منبرًا موجِّها لمن يريد تجديد رحلة التجديد والإصلاح والإقبال على الحياة بروح مفعمة بالأمل والثقة في الذات وفي رصيدها الديني والتاريخي والحضاري والثقافي. فكل من أشاد بفكر فتح الله كولن وبما قدمته الخدمة من منجز يبرز الوجه المشرق للإسلام من علماء ومفكرين ومثقفين، لم تكن أقلامهم وأقوالهم مأجورة، بل كانت تعبيرا عن ذلك الهاتف الداخلي المتطلع إلى رؤية الانبعاث الحضاري وقد صار فعلا وليس مجرد قول، لقد رأى هؤلاء كلهم أن تنزيل الأفكار وتطلعات الإصلاح أمر ممكن وليس مستحيلا، و أدركوا مع ذلك كله أن هناك همة رجل نذر حياته كلها لرؤية روح الدين وقد تحولت إلى منجز، فاكتشفوا الرجل مرة من خلال ما أنجز في مجالات كثيرة في التربية وفي الإعلام والعمل المدني وغيره، واكتشفوه من خلال مؤلفاته الكثيرة، التي لم تترك مجالا من المجالات المتصلة بالإنسان إلا ورصدته بوعي وذهنية متقدمة جدا كأنها آتية من المستقبل، واكتشفوه مرة ثالثة عندما اجتمع من اجتمع على تشويه صورته فما غير مواقفه وظل صامدا يرد هجمات الخصوم بالحكمة والتعقل، ولم يبهت لون خطابه كما بهت لون خطاب خصومه.
تريد نسمات أن تكون منبرا فكريا أكاديميا يقدم من خلاله كل من استوعب فلسفة الخدمة واستوعب رؤية فتح الله كولن في مجال الإصلاح والانبعاث، لتكون مُعينا لمن يريد مراجعة منهجه ومواقفه وتصوراته خلال هذه المرحلة الحرجة التي يمر منها إنساننا، وخلال المرحلة المقبلة، ولتكون مَعينا لمن يريد إشباع العين والرؤية بالمنجز، لا إشباع السمع فحسب وبالله التوفيق.
Leave a Reply