العلاقة بين الفرد و الدولة
سؤال: ما العلاقة بين الفرد والدولة في الإسلام؟ وما هي مكانة الفرد ووظيفته داخل الدولة؟
يدعي العالم الحديث والأنظمة الفكرية المعاصرة أنه لأول مرة في التاريخ تحول أو حُوّل الفرد إلى فاعل نشيط في السياسة في هذه الأيام. وترى هذه الأنظمة الفكرية المعاصرة أن الأفراد كانوا من قبل مقيّدين بما سمعوا ورأوا من آبائهم، وبما اقترحه فريقهم أو فئتهم
أو جماعتهم التي ينتمون إليها، فكأنهم سجنوا أنفسهم في حدود تصوراتهم. وبما أنه ليس من الممكن تغيير تصور الفريق أو الجماعة، فهذا التصور الضيق يُكوّن المصير الذي لا يتغير للأفراد. ولكن الأفراد بدؤوا أخيرًا في العصر الحديث تحرير أنفسهم من هذا السجن، ليحصلوا بذلك على شخصياتهم الفردية، فقبل العصر الحديث لم يكن الأفراد أحرارًا، ولا حتى أفرادًا للمجتمع.
وبالرغم من صحة هذه الأفكار حول الفردية لبعض الثقافات وبعض المناطق من العالم، إلا أنها لا تنطبق على كل الأديان والأفكار والمجتمعات.
ومن منظور التوحيد -وهو الركن الرئيس من أركان الإسلام- يستحيل الحصول على فردية غير مقيدة؛ لأن الإنسان إما منفلت متمرد على المعايير الأخلاقية لا يقبل شيئًا منها، أو أنه عبدٌ مستسلم لله وطائع لأوامره، وهذه العبودية تمنح الإنسان قوة لن ينحني بها أمام أي سلطة أو يضحي بأي قدر -ولو ضئيلًا- من حريته.
فعبد الله لا يمكن أن يستعبده أي شيء سواه تعالى، فلا تستطيع متعُ الحياة الدنيا أن تستعبده ولا التقاليد الفاسدة التي تجلب للفرد التعاسة وتسبب لروحه الشلل، ولا العلاقات المجتمعية التي تحاصر العقل الإنساني تستطيع ذلك، ولا اعتبارات المصالح الشخصية، ولا الطمع ولا الحرص على المزيد والمزيد من المكاسب المادية، التي تنسف الأخلاق. والعبد الحقيقي لله لا تستطيع أن تستعبده النـزعات الاستبدادية التي تعطي الأولوية للقوة فوق العقل والمنطق، ولا تستطيع الأخلاقُ الفاسدة كالحسد والكراهية والعبودية للشهوات الجسدية أن تقطع صلته بالله وتستعبده.
فالمسلم يكرر من 30 إلى 40 مرة على الأقل في اليوم الواحد قول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الفاتحة: 1/4) وبهذا يحطم القيود التي تقيد حريته وشخصيته، ويلجأ إلى قوة الله المطلقة، فهي الكافية له. والعبد الذي لا يحقق هذا الاعتماد على الله واللجوء إليه لا يمكن اعتباره قد حقق مهمة كونه إنسانًا مثاليًّا.
إلا أن الإسلام في الوقت الذي يطلب من الأفراد أن يكونوا أحرارًا غير معتمدين على أي شيء غير الله، فإنه أيضًا يقبل الأفراد كأعضاء في الأسرة والمجتمع والأمة وكل الإنسانية بناء على احتياجاتهم المتبادلة. فكل فرد يحتاج أن يعيش مع غيره من البشر ولا يمكن أن يستغني عنهم، وبهذا المعنى فإن المجتمع يصبح مثل الكائن الحي: الأعضاء فيه مترابطة وفي حاجة بعضها إلى بعض.
ومن المهم للغاية أن يقوم هذا الترابط والتعاون الذي تحتمه الضروريات والحاجيات وحتى التحسينيات (التكميليات) بوظيفة الصُّوبة الزجاجية التي تحمي الأفراد داخلها من القوى الظالمة، وتساعدهم على الوفاء باحتياجاتهم، كما تساعد في التنمية الشخصية والاجتماعية والتي ليس من السهولة تحقيقها بشكل فردي. وهذه هي النقطة التي نختلف فيها عن هؤلاء الذين يدّعون الحرية المطلقة للفرد؛ فهؤلاء المؤيدون للحرية المطلقة يتركون الفرد وحيدًا في “صحراء” الوجود، دون أي دعم ضد تلك القوى التي تتخفى لأَسْرِهم بحجة تحرير الفرد من روابط تقليدية معينة. وببقاء هذا الفرد خاضعًا لظلم المستبدين أو خاضعًا لظلم اجتماعي، فإنه بذلك يدفع ثمنًا مؤلمًا بفقده لحريته وكرامته باسم الفردية.
وينبغي هنا أن أوضح أن الإسلام -على عكس غيره من الأنظمة الدينية أو الأخرى شبه الدينية- لا يقيد معتنقيه باعتبارات غيبية فقط، ولا يكتفي بالكمال الروحي للفرد، والشعائر الدينية، والعبادات الفردية؛ فالإسلام -بالإضافة إلى التركيز على الاعتبارات الغيبية- يرسي القواعد التي تنظم حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والقانونية، وهو جاء بمبدأ التحذير من عصيان قواعده التي وضعها والمكافأةِ على الالتزام بها وبخاصة في الدار الآخرة. إن حصر الدين في الإيمان والشعائر الفردية يعني تفريق الدين وتبديده وإفراغه في إطار يخالف مراد الله، وفي نفس الوقت فإن هذا يسوق الأفراد إلى التردد فيما يتعلق بما يريدون ممارسته والعيش به، وكيف ومتى يمكن لهم ممارسته. ولن يكون من الصعب ادعاء أن هذا التفريق يمكن أن يسبب نوعًا من التشويش العقلي، فإذا لم يتمكن الأفراد من العيش بحرية حسب مبادئ دينهم، وإذا كان هناك بعض العوائق في طريقهم، فهذا يعني أنهم محرومون من حرية الاعتقاد وحرية الضمير. وفي تلك الحالة لا يمكن الحديث عن الحقوق والحريات الأساسية.
وحسبما يؤكد الإسلام فإن النبي r قد أسس ما يضمن سلامة الحياة الدنيا والآخرة لمعتنقيه حيث أرشدهم الى سلوك الطريق المستقيم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم. والدنيا والآخرة متلازمتان في رسالة النبي r، كما أن المسؤوليات الشخصية والاجتماعية تترابط مع بعضها البعض؛ فالصلاة والدعاء وذكر الله وحياة القلب والروح، والقضايا الاجتماعية والإدارية؛ كل هذا يمثل أبعادًا مختلفةً لوحدة واحدة. وبالإضافة إلى كل هذا فإن كل مسلم ينبغي أن يحترم حقوق الآخرين احترامَه لحقوق نفسه؛ وأن يكون حساسًا وواعيًا في الدفاع عن حقوق غيره حساسيتَه في الدفاع عن حقوق نفسه.
مفهوم الدولة في الإسلام
سؤال: ماذا يعني مفهوم “الدولة” في الإسلام؟ وما موقع “الدولة” في القرآن؟ كثير من المسلمين المعاصرين يتكلمون عن تأسيس دولة إسلامية مبنية على مبادئ الشريعة، فهل لكم أن تتفضلوا بإبداء وجهة نظركم في هذا الشأن؟
إن هؤلاء الذين يقومون بدراسات عن منظور الإسلام للدولة والسياسة ويبدون آراءهم في هذا المجال عادة ما يخلطون بين الإسلام الذي قدمه القرآن والسنة، والإسلام الذي حاول المسلمون أن يعبروا عنه من خلال تجاربهم التاريخية، الذي ينبني على مبادئ شرعية مستنبطة من الأدلة الشرعية، والإسلام الذي يعيشه المسلمون -بشكل أو بآخر- في العصر الحديث. وهم يخرجون في النهاية بقوالب وأشكال متنوعة للدولة كلها باسم الإسلام، وهذا يتم أحيانًا بالاستشهاد ببضع آيات قرآنية، أو بأحاديث قليلة منتقاة من أقوال النبي r أو أحيانًا أخرى باستخدام أفكار أو مقترحات لأحد المفكرين المعاصرين، ويأخذون على عاتقهم نقل أفكارهم إلى ساحة الواقع أو السياسة إذا سنحت لهم الفرصة.
وأنا لا أعني بهذا القول على الإطلاق أن الأحكام الإسلامية متحجرة لا مكان فيها للتفكير والآراء الجديدة؛ بل هناك مجال واسع لما ينبع من الاجتهاد والقياس، وفي هذا المجال لا يمكن غض الطرف عن إرادة الإنسان وجهده في استنباط الأحكام الدينية في إطار الأصول. وفي مثل هذه القضايا فإن أي شخص يقوم بالاجتهاد يلزم به نفسه فقط ولا يلزم الآخرين، وكون هذا الاجتهاد غير ملزم للآخرين هو أحد مبادئ الإسلام؛ فالإسلام لا يسمح لأي شخص أن يقول عن رأيه: “هذا هو الإسلام”، ويَعتبرُ مثل هذه المحاولات محاولات ضالة.
والآراء المقدَّمة باسم الدين إذا لم تكن نابعةً من القرآن والسنة فسوف ينتج عنها كمّ هائل من النظم بعدد هذه الآراء، فلا شرعية لها، فأي اقتراح لا يأخذ مرجعيته من الخبرات التاريخية للمسلمين -والتي عليها إجماع أغلبية المسلمين- لا يمكن أن يكون باقيًا ثابتًا، ولا يمكن أن يكون واقعيًّا وأن يرضي الناس إن لم يكن يلبي حاجات الناس مستندًا إلى المصادر الرئيسة للإسلام.
وبهذا فإن مفهوم الدولة سواء أكان مستمدًّا من مصادر الوحي الرئيسة أو من اجتهادات العلماء المبنية على هذه المصادر، فيمكن للمرء أن يسأل: “ما هو الفهم الإسلامي للدولة؟” ونجيب بأن الحكم والسلطان في الإسلام لله U، والقرآن يؤكد هذه النقطة في آيات عدة ويعلن أن الحكم والأمر لله وحده. يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (سورة الأحزاب: 33/36) وبذلك يعلن القرآن أن الحكم ليس لزعماء روحانيين معصومين، كما في بعض الحكومات الدينية، أو لأي مؤسسة دينية، فإن الإسلام يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (سورة الحجرات: 49/13) وبهذا فهو لا يعطي أي ميزة بناء على العائلة أو الطبقة أو العرق أو اللون أو الثروة أو السلطة والنفوذ، لكنه بدلًا من ذلك اهتم بالتقوى والجدارة والإخلاص والعدالة. لذلك لا توجد في الإسلام القائم على القرآن والسنة مَلَكية مطلقة أو ديمقراطية كلاسيكية غربية، كما لا توجد فيه ديكتاتورية أو شمولية. فالإدارة في الإسلام تعني عقدًا مشتركًا بين الحاكم والرعية، وتستمد شرعيتها من القانون وسيادته؛ وبهذا فإن القانون يصبح فوق الحاكم والرعية، وهو لله U، فلا يمكن تغييره أو اغتصابه. وتطبيق القانون يتم حسب أوامر الخالق سبحانه، وبالطريقة التي عبر عنها النبي r وطبقها. والإسلام لا يعد إدارةً تخالف القانون شرعيةً؛ وفي الإدارة الإسلامية يجب على من هم في موقع السلطة أن ينقادوا للقانون، مثلهم في ذلك مثل عامة الناس، فليس لهم أن ينتهكوا هذه المبادئ ولا أن يمارسوا شيئًا يخالفها، كما يجب على الرعية أن تعترف بالقانون، وإلا تعتبر باغية.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن كل ما ذكرناه آنفًا لا يعني أن السلطة التشريعية والمؤسسات التنفيذية ليس لها ما تقوم به؛ فالسلطة التشريعية والمؤسسات التنفيذية من المسموح لها دائما أن تقوم بسنّ القوانين، وهذا بناءً على الضروريات والحاجيات والمصالح المرسلة، في إطار الضوابط والمعايير العامة للشريعة وفيما يتعلق بالقضايا المحلية في المجتمع الإسلامي وعلاقته بالأمم الأخرى، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، يقوم المسلمون دائمًا بتطوير القوانين في هذه الشؤون؛ فكما يجب على أفراد المجتمع التزام “المبادئ العليا” للدين، كذلك يجب عليهم التزام القوانين التي سَنّها البشر؛ فالإسلام لا اعتراض له على القيام بالاجتهاد والاستنباط واستخراج الأحكام في تفسير مبادئ الشريعة.
ومصدر القانون في المجتمع الديمقراطي غير متحيز ولا يميز بين الأفراد، وهو يشجع على إنشاء بيئة مناسبة لتنمية حقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، وحماية حقوق الأقليات، ومشاركة الأفراد والمجتمع في مؤسسات صنع القرار، وهي الصفات التي تميز عالمنا الحديث. وينبغي أن يُسمح لجميع الأفراد بالتعبير عن أنفسهم بشرط عدم ممارسة أي ضغوط على الآخرين بأي وسيلة. وبالإضافة إلى ذلك ينبغي السماح للأفراد المنتمين للأقليات أن يعيشوا حسب معتقداتهم. وإذا تمت هذه التشريعات ضمن معايير القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، فالإسلام لا يعارض أيًّا من هذه التشريعات. ولا يستطيع أحد أن يتجاهل القيم العالمية التي قدمها القرآن والسنة فيما يتعلق بالحقوق المذكورة سابقًا، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال إثبات أن الإسلام عدو للديمقراطية ويعارضها.
وإذا قامت دولة -في الإطار السابق ذكره- بالسماح لمواطنيها بممارسة دينهم، وساندتهم في تفكيرهم وتعليمهم وممارستهم، فهذا النظام لا يُعتبر مضادًّا لما جاء به القرآن، وفي حالة وجود مثل هذه الدولة لا حاجة للسعي لإيجاد دولة بديلة. وتجب مراقبة النظام ومتابعته من قبل المشرعين والمؤسسات التنفيذية، فإذا لم تكن هناك حماية كافية لحقوق الإنسان -كما هو الحال في الكثير من الديمقراطيات النامية- فينبغي للمشرعين حينذاك أن يقوموا بإصلاح وتجديد وتنظيم النظام طبقًا للمبادئ العالمية للقانون. وإذا لم يُعتبر هذا التجديد شرعيًّا فإنه لا يُعتبر معارضًا للشريعة.
ومن المهم أن نشير إلى أن هناك الكثير من الذين يعتقدون أن “الشريعة” منحصرة في وجود نظام دولة مبني على الأحكام الدينية. وهم يتخذون موقفًا معاديًا للشريعة دون النظر إلى معنى الشريعة ومحتواها، والحال أن كلمة “الشريعة” هي -بطريقة ما- مرادفة لكلمة “الدين”، فإنها تشير إلى حياة دينية مؤسسة على أوامر الله U، وأقوال النبي r وأفعاله، وإجماع الأمة الإسلامية؛ والأحكام المرتبطة بإدارة الدولة فيها 5 % فقط، والـ95 % الباقية تتعلق بالأمور الأخرى مثل أركان الإيمان والإسلام والمبادئ الأخلاقية.
الإسلام والديمقراطية
سؤال: هل يمكن المواءمة بين الإسلام والديمقراطية؟ وكيف ترى مسألة انعدام الديمقراطية في العديد من الدول الإسلامية؟ وإلى أي حد يعد
هذا عيبًا؟
فيما يتعلق بقضية الإسلام والديمقراطية ينبغي أن نتذكر أن الإسلام دين رباني وسماوي، بينما الديمقراطية هي شكل من أشكال الحكومة أسَّسها البشر. والأهداف الأساسية للدين هي الإيمان والعبودية لله U ومعرفته والإحسان في عبادته. ويدعو القرآن البشر في المئات من الآيات إلى الإيمان وعبادة الحق ، كما يسأل الناس أن يعمقوا عبوديتهم لله تعالى بطريقة تمكنهم من إدراك مرتبة الإحسان والأخلاق الحميدة، فمما يؤكده القرآنُ دائمًا الإيمانُ والعمل الصالح، ثم أن يتصرف الإنسان كما لو أنه يرى اللهَ -لأنه إن لم يكن هو يراه فإنه سبحانه يراه- وأن يؤسس بينه وبين ربه علاقة قلبية وثيقة، ثم تتويجُ ذلك كله بالأخلاق الحميدة.
أما الديمقراطية فهي ليست نظامًا واضحًا من كل الزوايا مثل الإسلام، بل بإمكاننا أن نقول إنها مبهمة إلى حد كبير، إذ من النادر تقديمُها دون وصفها بشيء؛ ففي بعض الحالات توصف بمصطلح آخر مثل الاجتماعية أو الليبرالية أو المسيحية أو الراديكالية، وقد لا يَعتبر شكلٌ من أشكال الديمقراطية الأشكالَ الأخرى ديمقراطيةً.
ومع هذا فإن الديمقراطية كثيرًا ما تُذكر في وقتنا الحالي دون إضافة صفة أخرى إليها، مع تجاهل طبيعة الجمع لكلمة “ديمقراطيات”، وعند الحديث عن الدين يقوم الكثيرون بمقارنتها بالسياسة التي ما هي في الحقيقة إلا جانب من جوانب الدين.
وقد نتج عن هذا الإدراك اختلاف بين المفكرين المسلمين في قضية المواءمة بين الإسلام والديمقراطية، وإن كانت آراؤهم لا تعتبر متناقضة إلا أنها تختلف في جوانب هامة.
أحد هذه الآراء يقول: “إن الإسلام دين ونظام سياسي في الوقت نفسه، فهو ينظم كل مناحي الحياة، ينظم النواحي الخاصة بالفرد والأسرة، كما ينظم النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ومن هذه الزاوية فإن حصر الإسلام في الإيمان والعبادة هو تضييق لمجال تفاعله وتفسيره”. وقد تكونت تصورات كثيرة جديدة حول هذا المنظور، وأدت إلى النظر للإسلام كأنه أيديولوجية من بين عدة أيديولوجيات سياسية. وهذه النظرة مضادة لروح الإسلام تمامًا؛ فالإسلام يعزز من حكم القانون، ويرفض صراحة اضطهاد أي قطاع من المجتمع، ويهتم بآراء الأفراد في المسائل التي تقبل الاجتهاد.
وكان من الأفضل بكثير تنميةُ الديمقراطية بموازنة الإسلام بين المادة والروح وبين الدنيا والعقبى، وإثراؤُها بجعلها تقضي حاجات البشر الدنيوية والأخروية، إذ هو (أي الإنسان) خُلق للحياة الأبدية ولا يطمئن إلا بتوجُّهه إلى الله الباقي.
نعم، ففي العالم الإسلامي -وخاصة في بلدي تركيا- من المؤلم أن ترى بعضَ الذين يتحدثون باسم الإسلام وآخرين يتحدثون باسم الديمقراطية يشتركون في خطأ واحد، وهو الفهم القائل بأنه لا يمكن التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، بحجة أن دين الإسلام مبني على حكم الله، بينما الديمقراطية مبنية على رأي البشر. ومع هذا فإنني أرى أن هناك أمرًا يُغفل عنه، وهي أن سيادة الأمة لا تعني إنكارَ أن الحكم لله، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والجبابرة والمستبدين وتُعطى للجمهور، وهذا ما شهدته الإنسانيةُ في عهد الخلفاء الراشدين.
إن الله هو الحاكم على كل شيء في الكون لا ريب فيه، وأفكارنا وغاياتنا جميعها لا تتحقق إلا إذا أراد I. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أننا لا نملك إرادة أو رغبة أو اختيارًا؛ فكما كان البشر أحرارًا مخيَّرين في حياتهم الشخصية، فهم كذلك أحرار مخيَّرون في اختياراتهم الاجتماعية والسياسية من وجه؛ وهذا ينطبق على عصر السعادة، عهد النبي r وعلى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، ؛ فانتخاب الخليفة الأول سيدنا أبي بكر، كان مختلفًا عن انتخاب الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وكذلك كان انتخاب سيدنا عثمان مختلفًا عن انتخاب سيدنا عليٍّ الخليفةِ الرابع، ، والله أعلم بالصواب.
وبالإضافة إلى هذا فإن الديمقراطية ليست شكلًا ثابتًا للحكم ونظامًا لا يُنتقد، وبالنظر إلى مراحل تطورها يمكن للمرء أن يلاحظ أخطاء لحقتها التغييرات والتصويبات. وهناك عدة أشكال وصور للديمقراطية.
وبسبب هذه التغييرات في مراحل تطور الديمقراطية نظر البعض إلى هذا النظام ببعض التردد. واجتناب العالم الإسلامي الديمقراطيةَ ربما ينبع من هذا، غير أن لدى بعض الحكام أسبابًا أخرى لاجتنابهم لها.
العلاقة بين الإسلام والسياسة
سؤال: في وقت صار للإسلام السياسي فيه شعبية كبيرة ماذا تعتقدون فيما يتعلق بالعلاقة بين الإسلام والسياسة؟
من وجهة نظري فإن الناس يقعون في الإفراط أو التفريط فيما يتعلق بفهم العلاقة بين الإسلام والسياسة؛ فقال البعض إن دين الإسلام لا علاقة له بالسياسة، في حين يعتقد آخرون أن الإسلام هو السياسة نفسها، متجاهلين الجوانب المتنوعة والغنية لهذا الدين. ونحن نجد في القرآن آيات كثيرة متعلقة بالحكم والسياسة، ومثلها في سنة النبي r، كذلك نجد مصطلحات قرآنية مثل “أولو الأمر” و”الشورى” و”الحرب” و”الصلح” كلُّها تتعلق بالحكم والسياسية.
ومع هذا فإنه ليس من الممكن في الإسلام أن يحصر مفهوم الحكم والسياسة في نموذج واحد، على عكس مبادئ الإيمان وأركان الإسلام. ويعرض تاريخ الإسلام لنا -منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين- أشكالًا كثيرةً من نظم الإدارة والحكم، فمن لم يفهم ماهية الأمر ظن كلًّا من هذه الأشكال نظامًا منفصلًا، لأن في تفاصيل المسألة اختلافات كثيرة وإن لم يكن اختلاف كبير في الأصول. وينبغي أن أشير هنا إلى أن هذه الاختلافات وقعت في جوانب الدين المفتوحة للرأي والاجتهاد.
ومن أجل الوصول إلى فهم سليم ونتائج إيجابية في هذا الموضوع ينبغي لنا أن نرجع إلى المصدر الرئيس للإسلام، وهو القرآن والسنة، ولا شك أن للتجارب التاريخية أيضًا مرجعيتها.
وبالإضافة إلى الآيات القرآنية المتعلقة بعلاقة البشر مع الله نجد الكثير من الآيات الأخرى تقوم بتنظيم علاقات الإنسان مع الآخرين، وقد جاء كل من هذين الصنفين من الآيات من نبع إلهي واحد. والآيات التي تُذكّرنا بواجباتنا ومسؤولياتنا أمام الله تعالى تعبُّدية ومحفوظة كما جاءت وكما عمل بها النبي r وأصحابه. أما الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالصنف الآخر، والتي تركز على قواعد حياة البشر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فتشير إلى بعض العِلَل والحِكم والمصالح؛ فالآيات المتعلقة بالعدل واحترام الحقوق والصدق والشفقة والرحمة والقيام والشورى والعفة والعصمة وعدم خداع الآخرين… كل هذه الآيات تُعتبر أمثلة لهذا الصنف.
وهذا النوع من الآيات الموجهة نحو العلاقات الإنسانية إذا قرئت بتمعن وبشكل صحيح سوف تعطي المسلمين بعض الإشارات حول كيفية حل مشاكلهم المقبلة، فيتخذ بعض المفسرين والمجتهدين من هذا الصنف مرجعًا لتفسيراتهم وتحليلاتهم.
وهناك كثير من الموضوعات في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة أوكِل تفسيرُها وتفصيلها إلى الزمن؛ فلا نشاهد لها أوامر وتوصيات تفصيلية، أُجِّلت تفصيلات هذه الأمور إلى وقتها المناسب. ومن هنا اختلف تفسير الأوامر الإجمالية التي جاءت في السياسة والدولة وإدارة المجتمع. ويمكنكم إسناد هذا الاختلاف في الأشكال والصور إلى قاعدة “إن الزمان أفضل مفسر” أو إلى عالمية الإسلام دينِ “الحنيفية السمحة”. وقد خاطب القرآن مجموعات مختلفةً من الناس: من الأعراب إلى المتحضرين، ومن المجتمعات المتخلفة إلى الأمم التي بلغت ذروة التقدم، ومن العامة العشوائية إلى المجتمعات المستنيرة التي بلغت غاية التنظيم. لقد خاطب القرآن كل هذه المجموعات آخذًا في الاعتبار أفهامهم المختلفة، وآراءهم، وأفكارهم، وتقديراتهم، وحتى طرق حياتهم. فأحيانًا فَضَّل الإجمال والاختصار وتَرَك تفصيل وتفسير الموضوع الذي يتناوله للوقت المناسب وللعلماء المناسبين، وأحيانًا أخرى فضل التفصيل والتبيين، وهذا في “المُحْكَمات”.
وهذا أدى بالأمة في القسم الثاني (وهو المحكمات) إلى الاتفاق في الفهم والتطبيق -وإن استثنينا التأويلات الزائغة لبعض الفرق الضالة-، بينما القسم الأول تباينت فيه الآراء تبعًا لاختلاف الأزمنة والظروف وأحوال الدنيا. وقد انعكست هذه الاختلافات في المؤسسات القضائية والإدارية.
وليس من الفهم الصحيح للإسلام الادعاءُ بأن السياسة أصل جوهريّ من أصول الدين وأنها من بين أركانه الثابتة. ربما يسوق بعضَ الناس إلى مثل هذا النمط في التفكير وجهةُ نظرهم إلى السياسة ونظام الدولة وأشكال الحكم، أو آراؤُهم وحساسياتهم في الأمور الإسلامية، أو حصرُ تفكيرهم في الخبرة التاريخية فقط، أو اعتقادُهم بأن مشكلات المجتمعات الإسلامية لا يسهل حلها إلا من خلال السياسة والحكم. وكل هذه المداخل لها معناها داخل إطار سياقاتها، إلا أن الحقيقة ليست محصورة فيها.
ورغم أن المرء لا يمكنه تجاهل تأثيرات الحكم والإدارة في تنظيم العلاقات المجتمعية بين الأفراد والأسر والمجتمعات، إلا أن هذه التأثيرات تُعتبر قضايا ثانويةً في سُلّم القيم القرآنية؛ وهذا لأن القيم التي نسميها “الأمهات” مثل الإيمان والإسلام والإحسان والأخلاق الربانية، هذه الأمهات هي المرجعيات التي تشكل جوهر القضايا الإدارية والاقتصادية والسياسية.
إن القرآن ترجمةٌ أزلية للأوامر التكوينية، وتفسيرٌ لعالمي الغيب والشهادة، وشرح للأسماء الإلهية الحسنى التي تتجلى في السموات والأرض، ووصفة لعلاج المشاكل المتعددة في العالم الإسلامي، ودليل فريد لسعادة الدارين، ومنبع حكمة للإنسانية… فلا ينبغي أن يهبط هذا الكتاب العظيم إلى مستوى الخطاب السياسي، كما لا ينبغي أن يُعدّ كتابًا حول النظريات السياسية أو أشكال الدولة؛ إن اعتباره أداةً للخطاب السياسي يمثل استهانة كبيرة به، كما يمثل في نفس الوقت عقبة تمنع الناس من الاستفادة من هذا النبع العميق للرحمة الإلهية.
ولا شك في أن القرآن الكريم قادر، من خلال إثرائه للروح البشرية، على بث الإلهام للسياسيين الحكماء لمنع تحول السياسة إلى مقامرة أو مجرد لعبة شطرنج.
مؤسسة الخلافة في الإسلام
سؤال: بعد إلغاء الخلافة في تركيا نهضت حركات عديدة، وخاصة في الهند، من أجل استعادة هذه المؤسسة. فهل تعتقد في -ظل التطور السريع لعالمنا- أن الخلافة يمكن إقامتها من جديد، أم أنها مدينة فاضلة لا يمكن تحقيقها؟
أثناء إلغاء مؤسسة الخلافة كان هناك العديد من الآراء التي تم الإعلان عنها إما للخلافة أو عليها. فعالم الاجتماع التركي “ضياء كوك آلب” –في بداية أمره- وهؤلاء السالكون لخطّه الفكري كان لديهم وجهة النظر التالية: “إن مؤسسة الخلافة تتمتع بمكانة كبيرة بين المسلمين. وإذا لم توجد مثل هذه المؤسسة فإن العالم الإسلامي سوف يكون أشبه بمسبحة ليس لها مركز، وسوف تنفرط كل حبات العقد”. وهناك مفكرون مثل “سيد بَك” يعتقدون أن “الخلافة لها غاية حكيمة، وأنها مسألة وُكل أمرُها إلى الأمة، وأنها تنقاد لمتطلبات الزمن. فعندما مات النبي r لم يذكر أيَّ شيء لأصحابه بشأن الخلافة، ولا توجد أيّة آية في القرآن الكريم تتعلق بهذه القضية”.
ويركز “سيد بك” على الشورى والطاعة للحكام، كما ذُكر في القرآن، ويؤكد أهميتهما في الإدارة والسياسة. ويعتقد أن الخلافة الإسلامية قد انتهت بخلافة علي في السنة الثلاثين من الهجرة. ويستدل في هذا السياق بآراء بعض المجتهدين وعلماء الكلام، ويشير إلى تاريخية الخلافة يقول إن ما ينبغي فعله هو التركيز على غاية الخلافة وما قُصد منها، لا الخلافةِ نفسها؛ فعهد الخلافة قد انقضى عنده بعد الخلفاء الأربعة، والذين جاؤوا من بعدهم ليسوا خلفاء حقيقيين، وإنما خلفاء في الشكل.
فأُلغيت الخلافة بحكم البرلمان التركي التالي: “لقد تم عزل الخليفة، وتم إلغاء مؤسسة الخلافة، لأنها مندرجة تحت مفهوم ومعنى الحكومة والجمهورية”.
ويذكر “ابن خلدون” في مقدمته آراء ثلاثة فيما يتعلق بالخلافة؛ فالأول هو: أن الخلافة مؤسسة إلهية ضرورية، والثاني: أن وجودها مبني على الحاجات، والثالث: أنه لا حاجة للخلافة كما قال بذلك بعض الخوارج.
وهؤلاء الذين يعتقدون في عصرنا الحالي أنه لا حاجة للخلافة يقولون هذا بسبب ظهور الدول القومية وتطور أفكار الاستقلال، ولأن الخلافة قد فقدت تأثيرها.
ويؤمن آخرون بأن الخلافة ما زالت تحتفظ بحيويتها وتأثيرها؛ إذ هي وسيلة للوحدة بين المسلمين، كما أنها تيسر التعاون بين الدول الإسلامية من خلال تبادل المهارات والفرص، وأن بمصطلح دينيّ مثل الخلافة يمكن للجماهير أن تتجمع تحت رايته.
وإذا آل الأمر إلى هذا الحد فإنه قد يكون إحياء الخلافة غاية في الصعوبة، كما أن جعل المسلمين يقبلون بها قد يكون مستحيلًا. ومن جهة أخرى فإن نظرة العالم المعاصر لمثل هذه المبادرة من الأهمية بمكان ويجب أن تؤخذ في الاعتبار. ومن المفيد أن ننظر إلى مفهوم الخلافة وحركات إحياء الخلافة في ضوء الأفكار والملاحظات السابق ذكرها.
نهضة العالم الإسلامي
سؤال: يربط العديد من الكتاب في الولايات المتحدة والغرب تطور الغرب بـ”عصر النهضة (Renaissance)”، فهل من الممكن نهضة في العالم الإسلامي؟ أو هل هي ضرورية؟ ماذا تعتقد فيما يتعلق بهذه القضية؟
النهضة تمثل ميلادًا جديدًا كما تمثل إحياء ويقظة. ويقول البعض إن النهضة كانت تمثل حركةً لإحياء القيم التقليدية والروحية للعصور القديمة، أو أنها تمثل تيارًا يدعو إلى العودة إلى المنابع الرئيسة وإعادة قراءتها وتقويمها. ويعتقد البعض أيضًا أن تركيز هذه الحركة كان على القيم السياسية والقضائية والأخلاقية الخاصة بالعصور القديمة من خلال التركيز على الكتابات الكلاسيكية في مجال الفكر، والتركيز على الصوفية الأسطورية. فإذا كانت النهضة هي كل هذه الأشياء فلا نستطيع أن نقبل كل هذه الجوانب، مع أن بعضها جدير بالثناء.
وإذا كانت النهضة -كما يرى البعض- تعني مرحلة الفردية التي تمثلت في الثورة التي تزعّمها فلاسفة مثل “جوول ميشيليه” ضد هيمنة السلطات الدينية والزعماء الروحانيين، وتم فهمها باعتبارها مؤيدة للحرية والنقد ومضادة للدين بشكل كامل وخطير باسم الفردية، والتي يُرجعها البعض لإيطاليا ويربطها بفلاسفة مثل “دانتي” و”جيوتو دي بوندوني” فإنه يستحيل أن نراها في صالح الإنسانية وفائدتها، ولا يمكن أن نقبلها على صورتها هذه.
وثمة تفسير آخر لا نستطيع أن نقبله وهو أن بعض المفكرين الذين كانوا مرتبكين نتيجة للفكر المشوش في الغرب قد اعتنقوا فلسفة “الإنسانية” في شكل متطرف، وتسببوا في اختلال آخر في الفكر.
أما إذا كانت النهضة تعني إعادة اكتشاف للقيم الإنسانية المفقودة… وتوجُّهَ البشر نحو الأخلاق والقيم العالمية الإنسانية… ومساءلةَ الديكتاتورية وإنهاءَ حكم الحكام المستبدين، والعملَ من أجل مجتمع ديمقراطي… ورعايةَ الإنجازات العظيمة في الفنون الجميلة… وقراءةَ الآيات التكوينية التي أُهملت ونُسيت لوقت طويل قراءة دقيقة… وانتشارَ عشقِ الحقيقة والرغبةِ في البحث وحبِّ المعرفة.. والتعبيرَ عن ضرورية الدين وفقًا لفهم هذا القرن الذي نعيش فيه، وبأسلوب جديد وطريقة جديدة… إذا كانت النهضة تعني كل ما ذكرنا فقد حقق الإسلام نهضة مثلها بأروع شكل في قرنيه الثالث والرابع، وقدَّم للنهضة الغربية نموذجًا مثاليًّا.
إننا نؤيد بكل إخلاص نهضة مثل هذه ولن نزال، إننا نبحث عن انبعاث ونهضة للعقل والقلب والروح والتفكير. أما حصاد ثمرات تلك الجهود والمساعي فمن المتعذر أن نحدد له وقتًا من الآن، فلكل شيء وقت مناسب، وسوف ننتظر ونرى، وكما يُقال: “قبل أن تطلع الشمس، أكنت تدري ماذا وراء هذا الظلام الدامس؟”
سبب قلة المفكرين العظماء في العالم الإسلامي
سؤال: لقد ظل العالم الإسلامي لعدة قرون دون إنجاب عدد من المفكرين العظماء؛ فما السبب في ذلك؟ وهل من الممكن إعادة ولادات فكرية؟ وهل من الممكن جبر هذا الكسر؟
إن الأمر يعتمد على ماذا نقصد بالمفكرين، فهناك من يسمَّون مفكرين يعتقدون أن الوجود مصدره الفكر، ويعطون الأولوية للعقل دون الحدس والشعور والإرادة… ففقدُهم لا يعدّ خسارة. إنما نعده خسارة هو فقدُ أولئك الذين يتمتعون بدراية لوجودهم، ويقدرون على قراءة الوجود وفهمِه بشكل صحيح؛ إنها لخسارة كبيرة للعالم الإسلامي أن يفتقر إلى المفكرين الواعين بالعصر الذي يعيشون فيه، والمستعدين لبحثه ومساءلته والتعبير عما يعرفونه دون تردد، ومما يؤسف له أن العالم الإسلامي يفتقر إلى مثل هؤلاء المفكرين المستنيرين.
وهنا ينبغي لي أن أقوم بشرح بعض القضايا:
أولًا: هذا الجمود في التطور ليس قاصرًا على العالم الإسلامي، فهناك العديد من الأمم عبر التاريخ كان ماضيها مشرقًا جدًّا وحاضرها باهتًا، بل كأنه مصير جميع الأمم؛ فالتاريخ يعيد نفسه، وهذا مصير أكثر الحضارات والأمم المختلفة؛ وهو أشبه بنار متوهجة مصيرُها الانطفاءُ، أو بأشياء يصيبها الصدأ والبِلى، أو بإنسان يولد ويكبر ثم يموت… لا بد من تجديد مستمر للأمم والحضارات لإطالة حياتها، لكن هذا سيكون مكلّفًا للغاية.
ثانيًا: هناك ثلاثة أصول للروح الإسلامية، وإهمال أي من هذه الأصول يؤدي إلى شلل القوى المحركة للأصلين الآخرين، ويمكن تلخيص هذه الأصول كما يلي:
1– تفسير العلوم الدينية المستقاة من القرآن والسنة بما يتوافق مع فهم العصر كما كان الحال في الفترة الأولى للإسلام أو حقبة التدوين.
2– قراءة الكتاب الكبير الذي يأتي من صفتي الله “القدرة والإرادة” وهو الكون والقوانين الإلهية الموجودة في الطبيعة، كقراءة القرآن الذي يأتي من صفة الله “الكلام”.
3– الحفاظ على التوازن بين المادة والمعنى، والجسد والروح، والدنيا والعقبى، والطبيعة وما وراء الطبيعة.
ففي عالم أُهمل فيه العقل، وجُنب القلب، وأُخمدت نار حب الحقيقة، وانطفأ لهب الشوق للمعرفة، لا يمكن الحديث عن النخبة والمفكرين.
ثالثًا: لقد شهد العالم الإسلامي عهدًا عظيمًا من التنوير مثل ذلك الذي نشهده في الغرب الحديث. لمثل تلك الفترة إيجابيات، لكن عند إهمال القوى المحركة الحيوية تظهر النواقص والسلبيات. فقد يؤدي الثراء المادي إلى التكاسل والرخاوة، وقد يسبب النظام الصارم نمطيةً عمياء لا يُنتبه إليها، كما تسبب الانتصارات والنجاحات الشغفَ بالحياة وإلى حب الحياة والشغف بها والتمتع بملذاتها لدرجة البهيمية، وفي بيئة بئيسة بهذا الشكل لا يمكن للمفكر أن يظهر.
رابعًا: إن العلوم الوضعية الحديثة من حيث الأساس والمنهج ليست من نتائج بحث وتجربة وتحليل العلماء المسلمين، بل تعتمد تلك العلوم في أيامنا هذه على الفلسفة الوضعية والمذاهب الطبيعية والعقلية بالمعنى الغربي؛ ففي مجال العلوم تجري البحوث والدراسات تحت سيطرة النظرة الغربية، وسيستمر هذا إلى أن ينشأ عباقرة جدد في العالم الإسلامي ليعيدوا تفسير الوجود والخلق وليحللوهما وفق معاييرهم الذاتية ويعيدوا بناءه من جديد.
الاجتهاد في الإسلام
سؤال: ظل موضوع الاجتهاد محل نقاش لفترة طويلة في العالم الإسلامي. البعض رأى أن باب الاجتهاد قد أُغلق مما أدى بالطبع إلى ركود في التفكير، فما هي معايير استخدام منهج الاجتهاد؟
كلمة “اجتهاد” تعني لغةً: “بذل غاية الجهد في الوصول إلى أمر من الأمور”، واصطلاحًا تعني: “بذل الفقيه وسعه في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية”. والشخص الذي يقوم بهذا العمل يسمى “مجتهدًا”، والمسألة التي يتم بذل هذه الجهود فيها تسمى “مُجتهدًا فيها”.
وللاجتهاد شرطان أساسيان:
أولًا: ينبغي للشخص أن يكون عالمًا بالأدلة المتعلقة بالأحكام الشرعية.
ثانيًا: ينبغي أن يقوم بالاجتهاد هؤلاء الذين يملكون القدرة على النفاذ إلى روح الأدلة من خلال ذكائهم ومَلَكتهم الفقهية، وأي اجتهاد يصدر عن شخص مؤهل ويصادف مَحلَّه الصحيح يعتبر به، وإلا فلا.
وعلاوةً على ذلك فإن الاجتهاد لا يقتصر على القياس فقط، فهو قد يتم من خلال القياس وأيضًا من خلال الدلالات والإشارات والتلميحات الموجودة في النصوص الشرعية. ومن الممكن أيضًا استنباط الأحكام الشرعية من الوجوه اللغوية للقرآن والسنة، بما في ذلك من استخدام البلاغة العربية والأساليب البيانية والصور الأدبية.
إن الإسلام هو الدين الخاتم وهو دين عالمي؛ ولذلك فهو خلاصة حلول مشكلات البشر في جميع الأزمنة والأمكنة، والقياس والاجتهاد وسيلة لاستنباط حلول غير محدودة من نصوص محدودة.
وقد بدأ هذا العمل المبارك في زمن النبي r وتطور بعده خاصة في القرنين الثالث والرابع تحت أسماء الاجتهاد والرأي والاستدلال والقياس والاستنباط، وبقي حيًّا لارتباطه بمعايشة النظام الفعال وهو الإسلام، وكان مثمرًا بدرجة كبيرة.
لكن هذه الثقافة الشرعية الغنية الأصيلة -التي ينفرد بها العالم الإسلامي- أخذت في الذبول لأسباب مثل: إقصاء نظام الإسلام النشط عن الحياة، وغياب العقول النشطة، ونقص الأرواح الملهَمة، ونقص المفكرين المتميزين العارفين بالقرآن والسنة، وأن يحلّ محلَّهم من يفتقرون إلى العقل والذكاء الكافي والعلمِ بالقرآن والسنة، والبعيدون كل البعد عن الإلهام… فحلّ التقليد والحفظ والنقل محلَّ مؤسسة الاجتهاد الخصبة.
وأنا أستطيع أن أرى عدة أسباب تُعلِّل فقْد روح الاجتهاد أولًا وإغلاقَ بابه آخرًا، أورد بعضًا منها وهي: الاضطهاد السياسي، والصراعات الداخلية، وسوء استخدام مؤسسة الاجتهاد من قِبَل فِرَق ضالة، والاكتفاء بما قام به المجتهدون القدماء العظام، والعمى الذي سببه النظام الرتيب القائم، ومنعُ المؤمنين المؤهلين للقيام بالاجتهاد لما يتمتعون به من ذكاء وقدرات عند منع من يسيء استخدام الاجتهاد…
أجل، من العلماء من يميلون إلى إغلاقه لئلا يفسَّر الدين وفقًا للهوى، ولئلا يوضع الهوى موضع الهدى؛ إلا أن هذا الباب لم يُغلقه أحد، بل هو انغلق بنفسه في وجه غير المؤهلين. وطالما أن المجتمع لا يملك العلماء الأكفاء الذين يستطيعون الاجتهاد فلا يمكن تجاهل حجة الذين يعارضون الاجتهاد.
واليوم يفكر الناس عادة في الحياة الدنيا، وتشوشت أفكارهم وقلوبهم كثيرًا، وأُقصيت عقولهم عن الأمور الروحية، فليس الدين والتدين هما القضيتين الأساسيتين للناس بعكس حال المسلمين الأوائل، فالكثيرون لا يهتمون بالقضايا الإسلامية ويتجاهلون أساسيات الدين، بل ويشكّون في أركان الإيمان والإسلام، لقد أصبح الدين خرابًا والإيمان ترابًا -كما قال الشاعر محمد عاكف-، والكثير منهم لا يبذل أي جهد لكي يعيش حياته داخل إطار الإسلام… في ظل مثل هذه الظروف يتعذر استخدام هذا الجانب الفعال للإسلام -وهو الاجتهاد- بشكل صحيح.
ولكن على الرغم مما ذُكر فهناك نهضة كبيرة للدين والتدين في العالم الإسلامي اليوم، ونرجو من الله أن يؤدي هذا التطورُ إلى ظهور مؤهلين لفتح باب الاجتهاد في المستقبل القريب.
وأعتقد أنه عندما يحين الوقت المناسب سوف تؤسس هذه الروح المتدفقة والفكر المبدع لجناتِ اجتهادٍ ومجالسَ شورى تتكون
من متخصصين في مجالاتهم يحملون إحساسًا عاليًا بالمسؤولية، وأرجو -من خلال هذا اللقاء- أن تملأ تلك المجموعات الفراغ الموجود منذ أن فُقد روح الاجتهاد. علينا أن نواصل خلط هذا العجين بالإيمان والإسلام والإحسان، فسنرى ماذا يقدر لنا ربنا تبارك وتعالى.
مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي
سؤال: إن العلاقة بين الرجل والمرأة في الإسلام هي أحد الموضوعات الخلافية التي تناقش في عصرنا هذا، كيف ترون مكانة المرأة في المجتمع؟
يدعو القرآن الناس إلى إقامة حياة أسرية، كما يشير إلى حِكَم وفوائد كثيرة للزواج، يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ (سورة النساء: 4/3-4).
ويقول: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (سورة النساء: 4/24).
ويقول: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ (سورة النحل: 16/72).
ويقول I: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة الروم: 30/21).
وينظر القرآن للزواج باعتباره ارتباطًا جادًّا من جانب الزوج والزوجة؛ فهو عهد وميثاق بينهما، حيث يقول الله U: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (سورة النساء: 4/20-21).
ويتحدث عن حقوق الزوج والزوجة، ويقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (سورة البقرة: 2/228).
ويقول: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (سورة البقرة: 2/233).
ويقول في آية أخرى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ (سورة النساء: 4/4).
وفي أخرى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ (سورة الطلاق: 65/7).
وبالإضافة إلى ذلك يؤكد القرآن الكريم كثيرًا على “المعروف” وعلى أن الزوجين لا بد وأن يعامل بعضهما بعضًا بالحسنى، حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (سورة النساء: 4/19).
ومن أجل الحفاظ على روابط الزواج يضع القرآن المسؤولية الكبرى على عاتق الزوج، ويضع جزءًا منها على المجتمع في حالة الخلاف بين الزوجين، وينظر إلى الطلاق -الذي يبغضه الله- كحلّ أخير عندما يصبح الصلح مستحيلًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ (سورة الطلاق: 65/1-2).
ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِّن وُّجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ (سورة الطلاق: 65/6-7).
وبذلك فالقرآن كما كان في كل موضوع -وبالإضافة إلى تذكير الزوجين بواجباتهما نحو بعضهما البعض- يؤكد على المبادئ الرئيسة للأخلاق الإنسانية، ويدعو الأفراد إلى أن يتقوا الله ويستقيموا في معاملة بعضهم البعض. ويُعد هذا الجو من الاحترام المتبادل لازمًا لاستمرار العلاقات الإنسانية والشرعية، وذلك لأن مؤسسة كمؤسسة الزواج تتصف بجانب فريد من الخصوصية ولذلك يصعب التحكم فيها من الخارج، وفي حقيقة الأمر، إن اللجوء إلى قاض أو حكم مشروع في حالة الخلاف بين الزوجين، لكن القضية الأساس هي منع المشكلات من البداية أو حلها وقت ظهورها، وهذا يتعلق بشكل كبير بالشخصية والأخلاق وميزات الطرفين. فإنه من الصعوبة بمكان الإبقاء على توافق الحياة الزوجية من خلال النظم والقوانين والأفكار الفلسفية، لو كانت القلوب تفقد الإيمان بالله U والشعورَ بالنقد الذاتي واحترام الناس.
والقرآن يلفت الأنظار في كثير من المواضع على الجو الدافئ للبيت: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة الروم: 30/21).
أما بالنسبة لحقوق المرأة بالمعنى العام فإنني على قناعة كاملة بأن الإسلام لديه أشياء كثيرة سيقولها للعالم أجمع في هذا الموضوع، وربما أن حق الحديث الوحيد في هذا الموضوع مكفول له هو فحسب. إذ لم يكن الحديث عما يسمى حقوق المرأة أمرًا ممكنًا في المجتمع الغربي حتى وقت قريب. أما في يومنا الحاضر فإن ثمة شذوذًا وإفراطات متنوعة يتم الدخول فيها، ويبدو الأمر وكأنه رد فعل موجه ضد الأزمنة السالفة. والواقع أن كل هذه الأمور تبقى أمرًا نظريًّا فحسب. فكم امرأة ترأس دولة في العالم؟ وفي كم دولة في العالم تتولى امرأة وظيفة في مراتب الجيش العليا؟ تُرى هل تمثلُ في البرلمانات النساءُ اللائي يساوين الرجال في تعداد السكان تمثيلًا ملائمًا لنسبهم المئوية؟ كم امرأة تتبوأ مكانها بين القادة الروحانيين في العالم؟ ويمكننا أن نضيف إلى هذه المجالات القضاء، والحياة المدنية، ومنظمات الأمن، وأجهزة الاستخبارات أيضًا.
هناك متحمسون للغاية في الغرب يقولون ينبغي أن يكون الأمر كذلك، لم نصادف قط وجود أمثال هؤلاء في عالمنا الإسلامي. ويتحدث عالم الاجتماع الفرنسي “بوتول غاستون (Bouthaul Gaston)” عن أن النساء لا يستطعن القيام ببعض القضايا الصعبة بسبب جوانبهن النفسية ونظمهن المنطقية الخاصة، وأن بعض المواضيع، مثل الحرب، ستظل كما هي عليه من شأن الرجال أيضًا في الأيام القابلة. وهو يرى أنه من الخطأ أيضًا التسوية بين الرجال والنساء في الأمور السياسية. والحاصل أنه يركز على البنية البدنية للمرأة، ويوصي ببعض الأشياء وفقًا لذلك، وعدد من يفكرون مثله في الغرب ليس قليلًا.
إن التعبير عن الأشياء التي وضعها الإسلام من أجل البشرية عن طريق ربطها بالنِسَبِ ليس منهجًا صحيحًا؛ إلا أنه لا شك في أن الحديث عن بعض المواضيع بطريق المقارنة يكون أكثر توضيحًا، وتنويرًا:
فقد كانت المرأة في الديانات الهندية القديمة مخلوقًا دنسًا ضعيفَ الإرادة محتقرًا. والحقيقة أن بوذا لم يكن يقبل النساء في دينه في أول الأمر. كما أن القانون في ذلك العصر لم يكن يعطي المرأة أية حقوق على الإطلاق. وكان العرف العبراني يبيحُ للأب أن يبيع ابنته، كما كان من المستحيل فيه تمامًا أن ترث الفتاة إن كان لها أخ. أما في اليونان القديم فقد كان يمكن نقل المرأة للغير. وكما لم تكن المرأة تُعتبر إنسانًا في الصين، ولا تمنح اسمًا تنادى به. وكانت المرأة في اليهودية والمسيحية -اللتين تعرضتا للتحريف في بعض جوانبهما- تعتبر مرتكب أول ذنب لأن السيدة حواء أغوت آدم ، وكانت السبب في أكله من الشجرة المحرمة. كما لا ننسى أنه لم يُؤذن للمرأة في دولة غربية متحضرة بأن تمس الإنجيل قبل القرن السادس عشر.
أما في آسيا فلم يكن الوضع مختلفًا عن هذا؛ إذ كان الرجل يستطيع الزواج بأي عدد من النساء إن كانت لديه القدرة المادية، وكانوا يرون زواج الأولاد بزوجات آبائهم دون الأم الأصلية أمرًا لا حرج فيه.
وفي الجزيرة العربية أيضًا كان وضع المرأة يفطُر القلوب. فكانت تتبادلها الأيدي وكأنها متاع أو غنيمة، وكانت الفتيات في بعض القبائل يُوأَدنَ بسبب ضيق العيش وبعض الأسباب الأخرى، وكانت تتعرض لأنواع وأنواع من التحقير طوال حياتها إذا ما كُتب لها أن تعيش. وذلك لأن الزنا كان مساويًا لما هو عليه الحال في عصرنا؛ والألاعيب البذيئة التي تلعب على المرأة كانت قد بلغت مستوى قد يصيب الناس الذين لم يفقدوا معنى الحياء بالجنون.
إن الإسلام واجه كل هذه السلبيات وقضى عليها، فخاطب النساء والرجال على حد سواء ورفع المرأة إلى منزلة مباركة جديدة.
فقد كانت النساء مجرد أشياء يملكها الرجال، لكن الإسلام رفعهن لدرجة أن جعل الجنة تحت أقدامهن، فلم يكن أحدٌ سيستطيع بعد ذلك إكراهَ هذا المخلوق الرقيق على الزنا أو البغاء أو الفُحش، أو معاملتَها على أنها من متاعه، أو اتهامَها في عرضها: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِين﴾ (سورة النور: 24/4-7).
وقد أصبح للبنات بعد الإسلام شأن، فلم يعدن يُعاملن باحتقار كما كُنّ في السابق، وأصبح قتلهن حرامًا؛ حيث أعلن القرآن ذلك، كما يقول تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (سورة الأنعام: 6/151).
ويقول U: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلٍَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ (سورة الإسراء: 17/31).
فاختلاف المرأة جسديًّا لا يبرر احتقارها.
وفي قصة بدء خلق الإنسان التي يذكرها القرآن خُلق سيدنا آدم أولًا ثم خُلقت زوجته حواء من نفس واحدة، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (سورة البقرة: 2/189)، وبهذا يذكّرنا التصوير القرآني بأن الرجل والمرأة كلاهما بشر، فهما كيانان يكمل بعضهما البعض، ويرجع الفرق بينهما إلى أهداف معينة وليس إلى أسباب وجوديّة، أما الآيات القرآنية التي تشير إلى أن الرجال يفضُلون النساءَ فإن ذلك يشير إلى أدوار معينة. يذكّرنا ربُّنا تبارك وتعالى بأن بين النوعين فروقًا في القابليات، وأن الانتماء إلى نوع معين لا ينبغي أن يكون سببًا للشكوى، فليس هناك فرق على الإطلاق فيما يتعلق بعلاقة كل منهما مع الله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا
مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (سورة النساء: 4/32).
ويقول: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (سورة النساء: 4/34).
ويقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (سورة الجاثية: 45/15).
إذًا فليس هناك أي فرق بين النساء والرجال فيما يتعلق ببشرية كل من هذين النوعين والعلاقات الإنسانية مع الله، فهم سواء في حقوقهم وواجباتهم، فالمرأة تتساوى مع الرجل في حقها في حرية الدين، وحرية التعبير، وحقها في حياة كريمة، وحريتها المالية. ومن حقوق المرأة أيضًا: المساواة مع الرجل أمام القانون والمعاملة العادلة والزواج وبناء الأسرة والحياة الخاصة والخصوصية والحماية. والإسلام يضمن للمرأة ممتلكاتها وحياتها وكرامتها تمامًا مثل الرجل، ومن ينتهك أيًّا من هذه الحقوق فله عقوبة قاسية.
نعم، فالمرأة حرة ومستقلة أمام القانون، لا تمنعها أنوثتها أو تبطل أيًّا من حقوقها القانونية، فإذا انتُهكت حقوقها يحق لها أن تلجأ إلى العدالة تمامًا مثل الرجل، وإذا أخذ شخص أي شيء من ممتلكاتها ظلمًا فلها كل الحق في المطالبة به.
وبما أنه توجد بعض الصفات التي تميز الرجال والنساء فقد شرع الإسلام بعض القوانين: فالنساء -على سبيل المثال- يُعفَوْن من بعض المهام مثل الخدمة العسكرية والخروج للحرب وأداء الواجبات المالية للأسرة ولنفسها… إلخ.
أما بالنسبة لمسألة حصول المرأة على نصف نصيب الرجل من الميراث؛ فمن الواضح -إضافة إلى ما ذُكر أعلاه- أن المرأة أقل نفقة بالنسبة للرجل لأنها لا تتحمل أعباء الحياة المختلفة باعتبار أوضاعها الخاصة. ولذا فقد تساوى غُنمها مع غرمها بأخذها نصف الحق من بعض الثروات من الميراث. وإذا أضيف إلى هذا أن حُكم الإسلام هذا يزيل نظر العائلة إلى المرأة على أنها إنسان يَذهبُ بثروتها -أي العائلةِ- إلى الغرباء فسوف تتبين معقولية ومنطقية هذا التقسيم وأفضليتها.
أما بالنسبة للشهادة فقد يقول الله تعالى في القرآن: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ (سورة البقرة: 2/282)، غير أنه ليس من المقبول استنتاج أي معنى من هذه الآية يشير إلى أفضلية الرجال على النساء في الإنسانية والقيمة، فالقضية الأساسية هنا هي تحقيق العدالة، والأمر يتعلق بأمور مثل النسيان والخطأ والشفقة والرحمة التي خُلقت النساء عليها؛ وإن لم تُراعَ هذه الجوانب من المرأة بحجة المساواة فلا يمكن تحقيق العدالة وإحقاق الحق.
وهذا الأمر ليس قاصرًا على النساء، فقد تُرفض شهادة الرجال من الأعراب مثلًا عندما غلب على الظن أن قبول شهادتهم يمنع تحقيق العدالة. إن قضية الشهادة تتصل بالحياة الاجتماعية، وقد يصعب انخراط الشهداء في جميع قطاعات الحياة الاجتماعية -وحتى اليوم-، فبعض الرجال والنساء لا يشهدون جوانب عديدة من حياة الناس.
وحكمُ الآية المذكورة متعلقٌ بالشهادة الشفهية فيما يتعلق بالحقوق المالية والديون، أما فيما عدا ذلك فيقول بعض الفقهاء أن شهادة المرأة كتابةً -إذا كانت هناك حاجة لها- تُقبل تمامًا مثل شهادة الرجل.
حل المشاكل الأسرية في ظل الإسلام
سؤال: لقد وصلت الأسرة مرحلة الانهيار تقريبًا في الغرب في يومنا الحاضر. وفي عام 1950م بلغت نسبة الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية 10%، بينما ارتفعت تلك النسبة لتصل 50% في عام 1995م. أما في الوقت الراهن فتظهر الإحصاءات أنها بلغت 65%. فهل ثمة وصفة طبية يقدمها الإسلام للغرب في هذا الشأن؟
الجواب: الغرب والشرق كلاهما يعيشان اليوم أزمة روحية وأخلاقية. فالجميع يشتاق اليوم لعالم مثالي تسود فيه العفة، ويُقدر فيه الشرف، وتكون فيه الأسرة بمثابة مأوى يُشع دفئًا وسرورًا.
وإن كان الوضع الذي نعيشه في أيامنا هذه يصدر عن نمط اللباس الموجود في المجتمع الذي يفتن الناس، وتحوُّلِ الشهوة إلى قضية تشغل بال الأفراد دائمًا، ودفعِ الناس لحياة بهيمية، وتشجيع الأمور النفسانية باسم الحرية الشخصية… وجب على رجال الفكر والعلم في عصرنا أن يراجعوا كل معاييرهم مرةً أخرى.
فالله تعالى يقول في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة النور: 24/19)، ويقول أيضًا في السورة ذاتها: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ (سورة النور: 24/30-31) وهو بهذا يُصدِر مرسومًا يقطع به سلوك طريق تؤدي إلى التحلل والتدني.
وفي مجتمع تشكل بهذه النظم تثق المرأة بزوجها، كما يثق الزوج بامرأته. حيث يفكر كل واحد في المعية التي ستكون في الآخرة، وبالتالي يتحمل الآخر ويصبر عليه. ومن ثم يهتم الناس إلى جانب اهتمامهم بجمال الصورة وحسن الهندام بأن يكونوا أهلًا للعفة والثقة والشرف، ويسعون لإعطاء إرادتهم حقها، ويحاولون أن يسيطروا على رغباتهم الجسمانية والبدنية. وإلا فإن العش ينهدم، ويفقد المجتمع السلام والطمأنينة إذا ما عاش كل شخص وفقًا لهواه، وتصرف دون مساءلة. ولو أن كل واحد طمع في الآخر، وفكر في رغباته الجسمانية فحسب؛ فإنهم يهدمون البيوت والأعشاش ويقوضون السعادة الأسرية لهم ولغيرهم، ويتسببون في حدوث نتائج غير إنسانية.
لقد لهث الإنسان دائمًا منذ أمسه وحتى يومه وراء كثير من الأفكار المختلفة، وأفنى عمره في كثير من الأمور المستحيلة. آه، ماذا عساه أن يصغي إلى تلك الرسالة الإلهية الأخيرة؟ من يدري، لو أصغى لربّما نبع تغييرٌ من روحه وانتشر فيما حوله سيُشعِر به في كل مكان مع مرور الزمان، وسيرى الإنسانُ كل شيء مختلفًا في ظل هذا ويقيّمه بشكل مختلف، ويفهم كلمات الضمير والنفس؛ ويتوحد عقله وقلبه في النقطة نفسها، ويُسمَع في أعماق قلبه صوتُ تلك القيم الإنسانية السامية دائمًا.
ولم يتمكن الناس من التخلص من قمع كل أنواع الرغبات النفسية والجسمانية ولم يبلغوا طمأنينة القلب إلا عندما توجهوا إلى الله وحده. أجل، لقد لوحظ وشوهد كثيرًا أن تأثيرات النفس والهوى والقوى الشيطانية قد تحطمت -وإن كان ذلك بنِسَبٍ معينة- بفضل سيطرة تلك القوة السامية على المشاعر الإنسانية، واستطاعت أن تقهر كل شيء. ناهيك عن أن الإسلام لم يحرم ما يلبي رغبات الإنسان البدنية والجسمانية واحتياجاته مطلقًا؛ لكنه رأى أن الملذات والمتع التي تدور في نطاق دائرة الشرع كافية للمزاج الإنساني، وأوصى بعدم الخوض في الملذات والمتع غير المشروعة التي تمتلئ القطرة الواحدة منها بأطنان من الآلام.
الإسلام وقضية الإرهاب
سؤال: العلاقة بين الإسلام والإرهاب من المسائل التي حولها نقاش كبير في وقتنا الحاضر، هل يمكن أن نعد الإرهاب طريقة من طرق الكفاح؟ وما هو البديل الإسلامي للإرهاب في الكفاح؟
لا يُعرف الإسلام اليوم حق المعرفة، ينبغي للمسلمين أن يصرحوا دائمًا: “لا إرهاب في الإسلام”. فلا يجوز أن يقوم أي شخص بقتل إنسان آخر، ولا أن يمس أي شخص إنسانًا بريئًا، حتى في وقت الحرب، ولا يمكن لأحد أن يجوّز هذا الأمر. ولا يجوز لأحد أن يكون انتحاريًّا يندفع وسط الحشود وقد ربط متفجرات حول جسمه؛ فهذا غير مسموح به في ديننا بغضّ النظر عن دين هؤلاء المستهدفين. وحتى في حالة الحرب -والتي يصعب فيها الحفاظ على التوازنات- لا يسمح الإسلام بهذا؛ فالإسلام يقول: “لا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له”.
لم يقل هذا الكلام مرة واحدة فقط ولكنه تكرر مرات ومرات عبر التاريخ، فما قاله سيدنا النبي محمد r، وما قاله سيدنا أبو بكر، وما قاله سيدنا عمر هو نفس ما قاله بعد ذلك بِقرونٍ صلاح الدين الأيوبي وآلْب أرسلان وقِليج أرسلان. وبعدها قال السلطان محمد الفاتح نفس الكلام مرة أخرى، وبذلك أصبحت مدينة القسطنطينية -التي كانت تحكمها الفوضى- إسطنبول، فلم يتعرض اليونانيون بعد ذلك للأرمن بأذًى، ولم يتعرض الأرمن لليونانيين بأذًى، ولم يؤذِ المسلمون أيًّا من الملل الأخرى. وكانت في البطريركية صورة لمحمد الفاتح علقوها على الحائط طواعية. يروي التاريخ لنا أن السلطان استدعى البطريرك وأعطاه المفاتيح، فاحترموه. إن الإسلام لا يُفهم اليوم على الوجه الصحيح؛ فهو يحترم دائمًا الأفكار المختلفة.
إن الإسلام دين حق ينبغي أن يُمارس بصدق، ولا يجوز في سبيله استخدامُ طُرق باطلة، فكما يجب أن تكون الغاية شرعية يجب كذلك أن تكون جميع الوسائل المستخدمة للوصول إليها أيضًا شرعية. فلا يستطيع الإنسان الوصول للجنة عن طريق قتل إنسان، فالمسلم لا يستطيع أن يقول: “لِأقتُلْ هذا الشخص فأدخُل الجنة”. إن رضا الله لا يُنال بقتل الناس، إن الهدف الرئيس للمسلم هو الفوز برضا الله I، وتبليغ دين الله إلى جميع أنحاء العالم.
لقد فقد بعض الشباب المحبَطون قيمهم الروحية، والبعض يستغل هؤلاء الشباب ويعطونهم حفنة من الدولارات أو يزيفون وعيهم فيحولونهم إلى إنسان آليّ، بعد القيام بتخدير عقولهم. لقد أصبح هذا أحد موضوعات الساعة هذه الأيام والذي يمكن قراءته في الصحافة العامة، فقد أوذي هؤلاء الشباب إيذاءً شديدًا لدرجة أنه يمكن استغلالهم، لقد تم استخدامهم كقَتَلة تحت دعوى بعض المثُل أو الأهداف المجنونة وأُجبروا على قتل الناس. إن بعض الأشخاص من ذوي العقول المليئة بالشر يريدون تحقيق أهداف معينة من خلال استغلال هؤلاء الشباب.
نعم، إن قتل إنسان شيء في منتهى الفظاعة، قال الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (سورة المائدة: 5/32) وبما أن هذا مبدأ أساسي في الدين فينبغي إذًا أن يُدرّس في المدارس.
المؤمن الحق لا يرهب الناس متعمدًا. فمن المستحيل أن يكون المسلم الحق إرهابيًّا. والإرهاب الذي يُعزى إلى المسلمين حتى اليوم نُفّذ أحيانًا بتزعم بعض الأنفس الغرة -وعددهم قليل جدًّا- التي لم تهضم الإسلام هضمًا جيدًا بكل دقائقه، وأحيانًا بواسطة إثارة مشاعر الشباب إثارة مفرطة، وأحيانًا بواسطة عناصر ورجال القوى العظمى الذين يَظهرون بمظهر المسلمين، وأحيانًا أخرى بواسطة الجموع الدموية التي تعرضت مشاعرها الإنسانية ومشاعر الخوف لديها للكبت والضغط باستخدام أنواع مختلفة من الأدوية والمخدرات.
والواقع أن الإرهاب عملية معقدة، ولذلك فإن تحليله يبدو أمرًا صعبًا ليس سهلًا. ومهما كان الأمر صعبًا فلا بد من الوقوف عليه بسبب قبح ماهيته، وبسبب عزوه إلى المسلمين أيضًا، ولا بد أن تتحرك الأجهزة الإدارية، والمخابراتية، ولا بد من تحديد المتسببين فيه، والنضال ضده بواسطة استراتيجيات عالمية.
وإلا فإن الأمر سيتحول إلى دُوامة لا يمكن الخروج منها خروجًا كاملًا بسبب بعض الأمور كالمعلومة الناقصة، والتقييم الخاطئ، وخلق بعض الأجهزة الاستخبارية الإرهابَ بصورة مخططة كما أشرنا إليه سابقًا، وسوف تتعرض بعض الحضارات، وبعض الأمم، وبعض التنظيمات المدنية للتهديد الدائم. وقد قُيّمت القضايا بعد 11 سبتمبر هكذا. وفي هذه الفترة التي عاشت فيها جموعٌ جنونَ العظمة، جُعل تحريكُ وإثارةُ بعض بؤر الإرهاب والتلاعبُ بالمشاعر والحس العام وسيلةً للإرهاب وبشكل يزداد تدريجيًّا كل يوم.
لو كان ثمة إخلاص في مقاومة الإرهاب لوُضع تشخيص له تحت مظلة حلف الناتو والأمم المتحدة، ولجرى البحث بعد التشخيص
عن سبل العلاج. لكن الأمر لم يتم على هذا النحو وأُظهرَ جميع المسلمين -تصريحًا وتلميحًا- على أنهم إرهابيون، والواقع أن بعض المسلمين المخدوعين أو ممن تزيّوا بملابس المسلمين الذين يعملون لصالح بعض الأجهزة الاستخباراتية شاركوا في الأعمال الإرهابية؛ شاركوا ولكن القضية لم تكن على الإطلاق كما زعمها من يهاجمون المسلمين هجومًا شديدًا. فمعظم الادعاءات ملفقة، ونتاج خيال، وأجزاء في صورة مقدمة للعبة كبيرة يُراد تنفيذها في جميع أنحاء العالم.
وإنني أرى أن المسلمين، حتى وإن كانوا متأخرين من ناحية العلم والتقنية، إلا أنهم ليسوا سافلين وسفهاء لدرجة أنهم يشتغلون بأمور دنيئة على هذا النحو. فمعظمهم أنقياء لدرجة أن عقولهم لن تعي مخططات تلك الأجهزة الكبرى التي تلعب في الساحة الدولية. والسبب الأصلي وراء الإرهاب هو المصالح والمنافع الدنيوية، ودائمًا ما كانت تلك الأسباب هي التي تقف وراء لعبة الشطرنج الكبرى الموجودة في العالم. وكان الأمر يتكثف على الدين حين يتم تجاهل تلك الأسباب الأصلية.
لقد تشكل العديد من المجموعات الساخطة في الجغرافية الإسلامية بسبب مشاكل مثل صراعات المصالح والاحتكاكات الحزبية والممارسات غير الديمقراطية، وانتهاك حقوق الإنسان… ومعظمُهم من أولئك الناس عديمي الخبرة، والمعرفة، الأغرار الذين يقعون بسهولة في ألاعيب الأجهزة الاستخباراتية. إذ يمضي بعضُ تلك الأجهزة قُدُمًا نحو هدفه باستخدامهم.
هذا بالإضافة إلى أن منظمات فوق الدول، سرية منها وعلنية، تثير الاضطرابات في العالم دائمًا نظرًا لأنها بَنَتْ خُططها على التخريب، فتشغل الجميع بشيء ما، وبهذا تتمكن من توسيع مجالات تحركاتها وفعالياتها.
كما أن تأثير الكيل بمكيالين في لعبة الإرهاب كبير جدًّا؛ إذ يبدو الأمر على هذا النحو في بعض الدول، إذ اللاعبون الرئيسون في السياسة العالمية يتحدثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعيش بحرية؛ إلا أنهم بكل أريحية يعارضون هذه القيم التي يدافعون عنها إذا ما كانت مصالحهم تقتضي تصرفهم على هذا النحو، كما أنهم يرفعون قدر من يريدون رفعه ويحطّون قدر من يريدون حطّه حتى وإن استلزم ذلك استخدام القوة الغاشمة. ومواقف السياسيين العالميين التي لا تأبه بشيء في كثير من قضايا العالم التي نعتبرها نحن جرحًا يدمي كل يوم؛ كقضية كشمير وفلسطين على سبيل المثال، دليل واضح على هذا.
وإذا لم يتم النظر في هذه القضايا، فإن تم القضاء على بعض الأمور التي تُقدَّم وكأنها أسباب الإرهاب، سوف يبقى وجود ذلك الفعل الملعون باسم ولقب آخرَين، حتى وإن قضي عليها بعناية ودراية غير عادية. بيد أن من يستغلون فرصة تحميل كل هذه السلبيات للدين، ولا سيما للدين الإسلامي، ومن يتصرفون بهذه النوعية من التصرفات التي تقتضيها مصالحهم مع أنهم يبدون مرتبطين بالدين لم يروا هذا الأمر البدهي في أي وقت قط، ولن يروه أبدًا.
ولا شك أنه من المفيد هنا أن نتحدث عن الخوف من الإسلام (إسلاموفوبيا) الموجود منذ زمن قديم ويراد له أن يعيش ويدوم. فهذا المرض النفسي الذي يعود في أحد جذوره إلى وقت قديم جدًّا في قطاع من العالم، والذي يصرَّح به أحيانًا ويشار إليه أخرى قد تجدد مرة ثانية في ظل بعض الحوادث الإرهابية الكبيرة، وجُعل مشكلة كبيرة للإنسانية. فهذا المرض الذي كان يسود قديمًا في المنطقة الواقعة شمال العالم الإسلامي أو كان يُراد له أن يسود حُوِّل إلى”جنون العظمة العالمي” من الشرق إلى الغرب. والأغرب من هذا أيضًا أن هناك بعضًا من حكام العالم الإسلامي بدوا في الوقت الراهن وكأنهم يصدقون هذه الكذبة العظمى.
والواقع أن هذا الأمر ليس إلا مِن صنع عالَم حاقد على الإسلام يقوم بتقديم آرائه واعتباراته القديمة في إطار جديد. فكثير من الأمم التي انقطع صوتها منذ زمن بعيد عندما بدأت تسعى، بعد تفكك الاتحاد الشيوعي، كي تعمل لنفسها بعض الأشياء تعود بها إلى أصلها من جديد، كفاها أن تنفخ الرماد الذي كان يستر فكر الشمال الغادر هذا الذي قد غطي بالرماد مؤقتًا. ومهما اختلفت الخطابات إلا أن النيات واحدة. وأظن أن ثمة مجموعة من الخطابات الحديثة التي ظهرت تخدع البعض، مثل: “النظام العالمي الجديد” و”الحرية” و”الديمقراطية”. تبوأت هذه الخطابات الجديدة مكان الخطابات التحريضية التي كانت تمارس في العصور الوسطى، وكان يبدو أنها لن تُعرقَلَ إلى أن تقول العالَمُ لها “قف”.
Leave a Reply