أما قبل
من أهم ما يميز المفكر ويدل على عمق رؤيته وصلابتها، هو بنية المفاهيم التي يوظّفها في مقاربة كل ما يتناوله من قضايا، وما يدرسه ويحلله من أفكار، إذ كلما كانت هذه المفاهيم واضحة في جهازها الوصفي، وفي لغتها التفسيرية، كان ذلك دليلاً على وضوح الرؤية، وعلى تجذِّرها في شخصية المفكر الذي تصدر عنه، بل هي شخصية المفكر نفسه عندما تلامسها وتقترب منها تتعرف كثيرًا على المفكر.
وهذا حال المفكر التركي فتح الله كولن، الذي استطاع أن يبني منظومة فكرية متكاملة ومنسجمة، على مدى رحلة فكرية وحركية طويلة، امتدت ما يزيد على أربعين سنة، الأمر الذي يجعل من منظومته الفكرية، منظومة قادرة على مخاطبة كل الأذهان من مختلف الفئات والمستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية، بل يجعل منها منظومة يسهل استيعاب مراميها الآنية والمستقبلية، وتقبل التفعيل والتنزيل.
لقد ظل الفكر الإصلاحي في العالم العربي على الأقل، بمختلف مشاربه الفكرية والأيديولوجية على مدى مائة سنة ويزيد، عاجزًا عن إيجاد الخيوط الواصلة بين الفكر في مثاليته وبين واقعية الواقع، أي عاجزًا عن إيجاد تلك الوصفة التي تقبل التنزيل الواقعي.
وظل الفكر الإصلاحي مفتقرًا إلى مخططات عملية وواقعية تراعي خصوصيات الحاضر وتستهدف المستقبل، مع ما يستلزمه ذلك من الصبر الطويل وعدم استعجال النتائج، بل يمكن القول إن مشاريع الإصلاح في العالم العربي كانت مشاريع تُقدِّم نفسها على أنها هي البلسم الذي يشفي كل الأمراض، وتخيَّلت النتائج نظريًّا وحبرًا على ورق، بل بَنَت الحضارةَ وسيطرت على العالم وهي لم تبرح بعد مهدها الورقي، ويمكن القول بأنها ظلّت مجرد مغامرة أدبية يَصنع أبطالها المستحيل، وعلَّة ذلك هو عدم استحضار الشروط الواقعية التي يتحكَّم فيها السياسي والتاريخي والتحوُّلات الاجتماعية والثقافية وصراع المصالح، وغيرها.
ويضاف إلى هذه الملاحظة أن أغلب مشاريع الإصلاح لم يجد واضعوها أنفسهم ملزمين بالإشراف والعمل على تنزيل ما نظَّروه من أفكار ونظريات ورُؤى، فكانت محاولاتهم نوعًا من الترف الفكري الذي يأتيه المصلِح باعتباره صاحبَ فكْرٍ عالِم تتحدَّد وظيفته في مجرد التنظير والتفكير، وعلى الآخرين تلقّي هذا الفكر والتعلَّق به والعمل على تنزيله، وقد صنع هذا الإحساس موانع بين المفكِّر وعموم أفراد المجتمع ممن لا ينتمون إلى الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها المفكر نفسه، وكما لم يكن هناك أي تواصل فكري بين المثقف أو المصلِح وجماعات العوام إلا في حالات نادرة، كذلك لم يحرص بعض مفكري الإصلاح على الانفتاح على بعضهم بعضًا من أجل رؤى متكاملة ومتجانسة؛ إذ ظل كل واحد منهم في بُرجه العاجي يرفض التنازل عن أنانيته وعن مركزيته الفكرية.
لم يجد واضعو أغلب مشاريع الإصلاح أنفسهم ملزمين بالإِشراف والعمل على تنزيل ما نظروه من أفكار ورؤى، فكانت محاولاتهم نوعًا من الترف الفكري.
وَعَى الإنسان العربي على الخصوص وإنسان العالم الإسلامي على وجه العموم منذ مدة طويلة أسئلة النهضة وتعمق كثيرًا في إثارتها وفي مناقشة إشكالاتها، واستطاع في إطار ذلك كله أن يضع يده على أسبابٍ كثيرة اعتبرها عاملاً مباشرًا في تأخّر العالم الإسلامي، فتعدَّّدت الرُّؤى والأفكار التي فسَّرت أسباب الأزمة وإشكالاتها، وكان هذا الأمر عاملاً من عوامل احتدام الجدل بين مختلف مشارب المثقفين والمفكرين، وانتقل هذا الجدل إلى أشكالٍ من الصراع المذهبي والفكري والأيديولوجي، وإذا كان هناك شيء نجح فيه هذا الصراع فهو وضع حواجز بين عالم الفكر وعالم الفعل، وتقسيم المجتمع الواحد في ظل هذا الواقع إلى فئتين:
1- فئة النخبة أو الأقليَّة المثقَّفة والعالمة.
2- فئة واسعة من العامة الغارقة في همومها اليومية، والعاجزة عن استيعاب حقيقة وجودها ودورها في تفعيل المجتمع.
وقد كان من نتائج هذا الواقع البائس المر أنْ ظل جزء من العالم الإسلامي وخاصة العالم العربي على مدى مائة سنة، يلوك جدل خطابٍ يتوهم أنه سيحقق الإصلاح والنهضة، ولكنَّ الشيء القليل من تلك الأحلام هو الذي تحقق.
الإسلام السياسي وجدل النهضة
كان التيار الإسلامي أحد أهم التيارات التي نشَّطت جدَل النهضة ونقاشها، بل يمكن القول بأنه كان طرفًا بارزًا في هذا الجدل، إلى درجة أن صار هو مركز هذا الجدل، ولكن بإلقاء نظرة على أهم نتائج هذا الزخم الطويل سنجد أن أهم ما ترك من أثر هو تقليصه للمنظومة الإسلامية إلى مجرد خطاب سياسوي، وخطاب محكوم بالأيديولوجي، بل إن خطاب النهضة والإصلاح قد اختُزل في دائرة واحدة هي الدائرة السياسية، وكأن كل المشاكل والإشكالات التي عانى منها العالم العربي على مدى عقودٍ طويلة وأجيال، كانت مجرد مشاكل سياسية وقضايا مرتبطة بالحكم والسلطة، ولذلك ساد الاعتقاد لدى عدد واسع من مثقفي التيارات الفكرية المنطلقة من خلفيات إسلامية وعدد من الجماعات الإسلامية أن قضية الحكم والدخول إلى عالَم السياسة هو سبيل كل إصلاح، وغطَّت هذه الاقتناعات على مساعي تيارات أخرى ألغت السياسي والحكم من قاموس رؤيتها، معتبرة وضع أسس الانطلاق الحضاري الحقيقي من تربية وتعليم وتوحيد للرؤية وصقلها هو السبيل المثالي المؤدي إلى كل نهضة وإصلاح.
غطَّت مثل هذه الأفكار والمواقف أعين المثقف عن رؤية ما يجري حوله، ففي الوقت الذي كان فيه العالَم المعاصر يجري ويركض في ظل هذا المثقف حبيسَ خطابٍ مثاليٍّ وحبيس خطاب يمدح المنظومة التي ينطلق منها وكأنه يعيش مغامرة خيالية، متوهمًا نفسه بطلاً أسطوريًّا من الماضي، أو شاعرًا يمدح ذاته ويهجو معارضيه ومخالفيه، لم يخل الخطاب الإصلاحي من نبرات داعية إلى الاهتمام بقيم الإسلام وروحانيته، ومن دعوات إلى الاهتمام بالجوانب التربوية والسلوكية، والعناية بروحانية المجتمع على أساس كونها المدخل إلى تغيير حقيقي، لكن مع كل ذلك ظل هذا الخطاب محصورًا في حيز الخطاب لا يكاد يغادره، ولذلك لم تستطع مختلف التيارات الإصلاحية إعادة إنتاج نفسها في صورة أو في أشكال مراعية لخصوصية العصر وتحولاته السريعة، واقتصرت في أحسن الأحوال على بكاء حزين على ما آلت إليه الحال، وإلى مجرد تطلع إلى الوصفة السحرية التي تُخلِّص الأمة من ورطتها الوجودية.
تركيا والمثقف العربي
حتى وقت قريب كان مثقفو العالم الإسلامي لا يكادون يعرفون الشيء الكثير عن مجهودات بعضهم البعض، وهذه الحال تنطبق على العالم العربي مع تركيا، فحتى حدود الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن الواقع التركي معروفًا بكل تفاصيله لدى المثقف العربي، إذ كان المجتمع التركي بالنسبة للمثقف العربي هو ما تنقله وسائل الإعلام عن الحالة السياسية التي كان العسكر يؤدون فيها الدور البارز، وأمَّا ما كان يجري داخل المجتمع من تحولات ثقافية فقد كانت شبه مجهولة بالنسبة للمثقف العربي. وبغض النظر عن الأسباب التي خلقت القطيعة بين العالم العربي وتركيا، فقد ظلّت تركيا بالنسبة للمثقف العربي عالَمًا مجهولاً لا يَعرف عنه المثقف العربي سوى معلومات قليلة يغلب عليها اتجاهٌ فكري واحد هو الاتجاه العلماني، وانحصرت معرفة المثقف العربي بالتيار الإسلامي بمختلف توجّهاته على نشاط تيار نجم الدين أربكان السياسي فحسب، إذ كانت نجاحات ومعارك وإخفاقات هذا التيار محطَّ اهتمام المثقف العربي وخاصة المثقف الإسلامي، الذي كان يرى بأن النموذج الأربكاني ينبغي الاحتذاء به، والانفتاح على منهجه نظرًا لأنه استطاع إثبات وجوده في واقع علماني، قد يُعتبر إلى اليوم من أقوى الأنظمة كراهية للدين وخاصة للإسلام. وليس جُزافًا أن نقول: إن هذا التيار قد أسهم إلى حد بعيد في صعود تيارات الإسلام السياسي، وطَبع العمل الإسلامي بصفة عامة بطابع أيديولوجي يتوخَّى الوصول إلى الحكم.
ولا ينبغي فهم هذا الأمر على أن التيارات الإسلامية في العالم العربي لم توجد إلا في ضوء ما تحقق على يد التيار الأربكاني في تركيا، بل إن المقصود أن التيارات الإسلامية في العالم العربي باعتبارها حركات اجتماعية منبثقة في الغالب من خيارات مجتمعية، أوجدت نمطًا تفكيريًّا محدّدًا يتلخَّص في الرجوع إلى الأصول، ورَبْط الإنسان المسلم بهويته الثقافية والدينية حسب ما تصرح به أدبيات هذه التيارات نفسها، وبالتالي فهي تستمد مشروعية وجودها من خلال ذلك، لكننا لا ننكر أن نجاحات أربكان السياسية قد ألْهبت حماس هذه التيارات، وزادتها يقينًا في كون العمل السياسي هو السبيل الأقرب إلى تحقيق مرامي الإصلاح والتغيير.
كان التيار الإسلامي أحد أهم التيارات التي نشَّطت جدل النهضة ونقاشها، بل يمكن القول بأنه كان طرفًا بارزًا في هذا الجدل، إلى درجة أن صار هو مركز هذا الجدل.
ومن الراجح أن الظروف الخاصة التي مرَّ بها العالم العربي من خلال تسلُّط أنظمة هجينة، كانت تمنع على هذه الحركات حق التواجد السياسي، ولذلك شكَّل تكوين أجنحة السياسة لبعض هذه الحركات نوعًا من التحوُّل في المسار، بل اعتُبر عند بعضهم نوعًا من التطور في الرؤية، بل إن الحركات الأم أصبحت تُشكِّل اليوم قاعدة خلفية تهتم بتشكيل الكتل المساندة، وكأن هذه الحركات التي وُجدت من أجل تلبية حاجة مجتمعية ملحة قد اختُزِل دورها في مجرد بناء القواعد المساندة، التي تضمن فوز الجناح السياسي في اللعبة الديمقراطية.
التيارات الدينية في تركيا
ليس غرض هذا البحث التعرُّض لهذه القضية، ولكن القصد هو التعرُّف على نموذجٍ حركيٍّ وفكريٍّ أكَّد وجودَه في الواقع التركي، وانتشرت أصداؤه في العالم باعتباره حركة اجتماعية تتميز بأسلوب تحركها الواقعي. وقد كان على العالم العربي أن ينتظر أكثر من ثلاثة عقود ليكتشف هذه التجارب الحركية والفكرية.
ومن هنا فإنه إلى جانب التيار الأربكاني الذي انتشر صيته في العالم العربي بحكم ممارسته للعمل السياسي منذ وقت مبكر، توجد تيارات أخرى إسلامية لها تأثير كبير جدًّا في المجتمع التركي، وهي تيارات انخرطت في المجتمع وكان لها تأثيرها الجلي في المجال السياسي، ليس عن طريق المشاركة الفعلية والمباشرة، ولكن بحكم ارتباطها بالمجتمع واتصالها بمختلف فئاته، ولذلك فإن الأحزاب السياسية المتنافسة كثيرًا ما طلبت ودَّها، والتجأت إلى هذه الحركات لطلب مساندتها والتصويت لها في الانتخابات، ومن هذه الجماعات يمكن أن نذكر حركات النور أو حركة النوريين نسبة لأستاذهم بديع الزمان سعيد النورسي بمختلف تياراتهم، وخاصة التيارات التي تلتزم بروح فكر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، الذي حرَّم على نفسه ممارسة السياسة والخوض فيها، باستثناء تيار واحد وهو تيار “آسيا الصغرى” الذي يبيح العمل السياسي، مؤولاً موقف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي من السياسية وابتعاده عنها حتى وفاته بكونه كان اختيارًا مرحليًّا، وأن الأستاذ لم يُحرِّم العمل السياسي مطلقًا.
وإلى جانب حركة النور، عرف المجتمع التركي في أَوْج الحكم العسكري والعلماني صعود نجم الشيخ سليمان أفندي، الذي نذر حياته كلها لخدمة المجتمع التركي، بإرسائه أُسُسَ منهجٍ يقوم على تعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية وإقامة مدارس خاصة لذلك، وكان كل ذلك يتم بروح صوفية واضحة وجلية، أو على الأقل، كان هذا هو المظهر الذي عمل الشيخ سليمان أفندي على ربط الجماعة به، وقد شكَّل دخول بعض الشخصيات البارزة في الجماعة إلى عالم السياسية، من خلال المشاركة في انتخابات برلمانية سابقة نوعًا من التحوُّل في توجُّه الحركة.
كولن وحركة الخدمة
وأما الحركة الأكثر حضورًا في العمل الميداني فهي حركة “الخدمة”، التي ترتبط فكريًّا بشخصية المفكر العالمي والداعية محمد فتح الله كولن، وهي حركة ذات تراث حركي غير مدوَّن، ولا يُعرف على وجه التحديد طبيعة هيكلها التنظيمي، ولا حجم إطارها البشري، ولا حتى مستوى حضورها الاقتصادي والمالي؛ وهذا يرجع إلى أن حركة الخدمة لم ترتبط بإطارٍ نظري مسبق عمل المقتنعون به على تنزيله، ولكنها نتيجة حركة نشيطة التفَّّت حول فكرة معنوية سعى الأب الروحي للحركة الأستاذ فتح الله كولن إلى إقناع الناس بها على مدى أربعين سنة، ولم تتجاوز هذه الفكرة حدود تقديم عمل نافع يعود بالنفع على الوطن، وذلك بتوظيف الطاقة البشرية التي تُعتبر هي الثروة الفعلية في كل نهوض حضاري ومدني. وعلى الرغم من عدم وجود معطيات دقيقة ومعطيات إحصائية عن حجم موارد الحركة البشرية وحتى مواردها المادية، إلا أنها تبقى مع ذلك حركة قوية الحضور.
وإذا كان البعض يأخذ عليها مبالغتها في السرية وفي إخفاء منهج اشتغالها، فهذا يرجع إلى عدم وضعها لمنهج محدد ومرسوم تسير عليه، بالإضافة إلى أن منهج الحركة ما زال في مرحلة التكوُّن، إذ مازال الأستاذ فتح الله يضيف في هذا المنهج وفق متطلبات الواقع، والتحوُّلات التي يعرفها المجتمع التركي والمجتمع العالمي.
ومما يسجل بخصوص هذه الحركة هو تحولها إلى حركة عالمية خلال العقدين الأخيرين من خلال توسيع دائرة الاهتمام تجاه الإنسانية كلها، وذلك بالتركيز على التربية والتعليم، إذ اللافت لنظر كل باحث هو تلك الرؤية الشمولية التي تميز فكر الأستاذ فتح الله كولن وفكر الخدمة، فالحركة لم تحصر رؤيتها الإصلاحية في حيز ضيق هو تركيا بل تجاوزت ذلك إلى مناطق مختلفة من العالم، الأمر الذي يتيح للباحث إمكانية الحكم على رؤية الحركة بأنها رؤية عالمية وليست محلية، وهذا تؤكّده أدبيات الأستاذ فتح الله وتؤكّده الأدبيات التي يكتبها بعض تلاميذ الأستاذ ممن يشتغلون بالصحافة وعلم الاجتماع وعلوم أخرى.
تعتمد الحركة خلفية فكرية هي عبارة عن تراث خطابي مؤثر بدأه الأستاذ فتح الله منذ ما يزيد عن أربعين سنة في مساجد تركيا الجامعة، بالإضافة إلى كم من الكتب والمقالات، وعلى تجربة عملية اكتسبها الأستاذ فتح الله كولن واعظًا ومعلمًا ومربيًا، وهي التجربة نفسها التي تلقَّاها الرعيل الأول الذي التفَّ حوله، وعمل على نشرها من خلال إشرافهم على بيوت الطلبة وعلى المنامات، يضاف إلى ذلك عمل تكويني في العلوم الشرعية وعلوم الآلة وعلوم أخرى، وفق منهج أصيل وبأسلوب عصري يمزج بين الأصالة والمعاصرة، يُختار له نخبة الطلبة المتخرجين من أعلى المعاهد والكليات.
يسعى الأستاذ كولن لبناء وحدة سلوكية تُوَحِّد مختلف فئات المجتمع المسلم، بل والمجتمع الإنساني في إطار رؤية موَحَّدة وعامة تلتقي عندها كل الاختيارات وتتناغم ولا تتنافر، في ظل وحدة المصير.
والظاهر أن منهج الحركة يتسم بالمرونة، إذ ليس هناك منهج صارم ينبغي الالتزام به وعدم الخروج عنه، ولكن توجد هناك رؤى وتصورات عامة يمكن تكييفها حسب الأحوال والمواقف والأماكن، والمرونة مطلوبة بالنظر إلى طبيعة الفعاليات المتعامل معها، والخصوصيات الثقافية والفكرية والتاريخية والاجتماعية والجغرافية، التي تفرض نفسها.
إن النواة الصلبة بالنسبة لحركة الخدمة هي شخصية الأستاذ فتح الله كولن التربوية والعلمية والحركية، فالإطار البشري الذي تكوَّن وتثقَّف ثقافة العصر، ودرس في مدارس وكليات المجتمع الذي ينتمي إليه، حصَّل إلى جانب هذه الثقافة وبالتوازي معها ثقافة أخرى هي فكر الأستاذ وتوجيهه، بل لقد حصَّن هذا الإطار البشري ثقافته الأولى بثقافة فكر الأستاذ. وإذا أردنا تلخيص أهم ما سعى الأستاذ فتح الله كولن إلى بنائه على مدى عمره الحركي، فلن يتجاوز تكوين إطار بشري صالح لوطنه وأمته، ويتفاني في خدمتهما وفي خدمة الإنسانية بروح تنكر ذاتها من أجل مصلحة الآخرين.
ويمكن للباحثين الاعتماد في تحليل حركة الخدمة ودراستها على رصيد من الندوات العلمية، التي اتخذت من فكر الأستاذ فتح الله ومن حركة “الخدمة” التي أسسها موضوعًا لها، زيادة على العديد من مؤلفات الباحثين المتخصصين في مجالاتهم وخاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية حول فكر الأستاذ فتح الله وشخصيته.
أما هذه الدراسة فستحاول مقاربة مفهوم من أهم المفاهيم في فكر الأستاذ فتح الله كولن وهو مفهوم “الوعي الجمعي” الذي وُظِّف عند عدد من المفكرين والباحثين، وخاصة في مجال علم النفس وعلم الاجتماع والأنتربولوجيا. ولا يعني هذا أن الأستاذ فتح الله يعيد توظيف المفهوم نفسه، ولكنه يستعير المفهوم ليعبِّر به عن جملة هموم وقضايا تؤرقه في الآونة الأخيرة كما تؤرق عددًا كبيرًا من المتابعين والمفكرين والمهتمين في العالم العربي.
مفهوم الوعي الجمعي
يستمد مفهوم الوعي الجمعي أسباب نزوله من الواقع الذي عرفه العالم العربي في المرحلة الأخيرة. فالمفهوم وإطاره النظري يستمد شرعية إعادة طرحه في رؤية الأستاذ من كونه مفهومًا يرغب النظر من خلاله لهذه الأحداث نظرة مختلفة ومن زاوية مختلفة، ربما هي زاوية الحكمة والعقل والتوازن والاتزان.
لا شك أن أسباب النزول الأولى قد كانت في مرحلة سابقة عما عرفه العالم العربي، لكن هذا المفهوم بحكم ما يميزه من انفتاح وإمكانية التفاعل مع كل الأحداث، وكيفما كان توجُّهها وطبيعتها، وكيفما كان زمنها ومكانها، فقد أُعيد بعثه ليكون نافذةً يَنظر من خلالها الأستاذ فتح الله إلى ما عرفه العالم العربي من حراك، والمفهوم في حد ذاته إنما هو جزء من رؤية الأستاذ إلى كل ما يعرفه المجتمع الإنساني من تحولات، فالأستاذ لا يفتأ يُذكِّر بضرورة التفاعل المتعقل والمتوازن والحكيم مع كل الأحداث والتحولات، فالمفهوم يُستحضر في ظل مفهوم آخر وهو مفهوم سيكولوجية الجماهير، بحكم ما يعكسه هذا من اندفاع وغياب لروح التعقل والاتزان والتوازن.
رؤية إنسانية موحدة
ولكن أيًّا كان سبب النزول، وأيًّا كانت العوامل الكامنة خلف إنزال هذا المفهوم، فإن ما يمكن تسجيله بهذا الخصوص هو أن الأستاذ يرمي إلى بناء وحدة سلوكية تُوَحِّد مختلف فئات المجتمع المسلم، وحتى المجتمع الإنساني في إطار رؤية موحدة وعامة تلتقي عندها كل الاختيارات وتتناغم ولا تتنافر، في ظل وحدة المصير. بعبارة أخرى إن سياق هذا المقال ومفهومه يتفرع إلى سياقين عام وخاص. فأما العام فيتمثل في كون المفهوم مفهومًا عامًا يعني الإنسان بصفة عامة والإنسان المسلم على الخصوص في كل زمان وفي كل مكان. وأما السياق الخاص فيتصل بما أشرنا إليه سابقًا وهو الواقع بكل تفاعلاته الذي عاشه العالم الإسلامي مؤخرًا.
تُلح المقالة (1) على أن أهم المراحل التاريخية في حياة أمة من الأمم هي مراحل التحوُّل وفترات التغيير الاجتماعي لأن هذه الفترات هي أشد المراحل تأزُّمًا في تاريخ الأمم، يقول: “إن أشد الفترات تأزُّمًا في حياة الأمم هي الفترات التي تعيش فيها حالة تغيُّر اجتماعي، وتُعيد فيها تشكيل بنائها الذاتي من جديد. وإن حالها في هذه الظروف تُشبه حال الأحياء التي تدخل مرحلة “التحوُّل البيولوجي”، حيث إنها طوال عملية التجدد تتقلب وسط أوجاع مخاضٍ مرهقة، وتقاسي كروبًا مضنية، وتكابد آلامًا متتالية لكي تطرح عنها عناصر بالية مضرّة، وتُطوُّر بدلاً منها عناصر جديدة نافعة… كذلك في فترات التحوُّل الاجتماعي وبسبب الأحداث التي تثير حالة التوتر لدى الجماهير لا مناصَ من الوقوع في براثن الأزمات سواء على مستوى الفرد أم الجماعة”، لكن حالة التحوُّل والتغيير هذه ومسلسل البناء ينبغي أن يتم فيه الاحتكام إلى الثوابت، وأن تحترم فيه المنطلقات الذاتية التي لا وجود للأمم بدونها.
يضع الأستاذ فتح الله مفهوم “الوعي الجمعي” في مقابل سيكولوجية الجماهير في إطار يبدو فيه الوعي الجمعي هو المقياس الذي يضمن الحركة المُمْحِصة والبصيرة.
ولذلك يلح الأستاذ على من يعيشون هذا التحوُّل باستحضار التعقل والمنطق، وعدم الانحراف عن المقاصد النبيلة، وعدم الانجراف خلف العواطف المندفعة والتصرفات الطائشة التي قد تسيء إلى روح “الملتقى القدري” الذي تعيشه الجموع في المرحلة، لأن الملتقيات القدرية كما يسميها الأستاذ فتح الله كولن قد تحمل في طياتها «إمكانية الرقي والتألق الباهرين، ولكن قد تنتهي بها –بسبب اندفاع الجماهير وجشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكل ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة، والعودة إلى نقطة البداية من جديد وتلك لعمري مأساة قلما خلت منها حقبة من زمان”(2).
الوعي الجمعي وسيكولوجية الجماهير
يمكن تصور ما يشغل الأستاذ فتح الله كولن -وهو الرجل القوي الملاحظة عميقها- أن يُنحَرَفَ بهذا التحوُّل إلى جهة تعاكس الأوضاع التي تناسب الملتقى القدري، والسير الطبيعي لعملية التحوُّل وذلك باستغلال أصحاب المصالح الخاصة، والعقليات المنحرفة المندفعة لدرجة التهور لنفسية الجماهير المندفعة أو ما يعرف بسيكولوجية الجماهير، فتكون النتيجة عكس المصالح العامة. بحنكة الخبير والعارف بطبيعة النفسيات والعقليات ينبه الأستاذ فتح الله إلى خطورة الانسياق وراء سيكولوجية الجماهير، لأن الإنسان في مثل هذه الظروف والأحوال التي تحتاج إلى التعقل قد ينسلخ من الحالة الفردية انسلاخًا تامًا ويلبس لباس “سيكولوجية الجماهير ويتحول إلى كيان جماهيري، حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع كالسيل الهادر نحو اتجاه واحد ينبغي الوصول إليه ولا ترضى عنه بديلاً. وفي سبيله تلك تجرف كل ما حولها من عناصر، وتدفع كل ما يعترض سبيلها بغية الوصول إلى هدفها المنشود. إن الأفراد الذين تعرضوا لتحول ذهني كهذا، لا يستطيعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبت المُمحِّص البصير، بل يندفعون مأخوذين بـ”سيكولوجية الجماهير” وعقليتها منقادين لتوجهاتها، منصاعين لأوامرها”(3).
يضع الأستاذ فتح الله مفهوم “الوعي الجمعي” في مقابل سيكولوجية الجماهير في إطار يبدو فيه الوعي الجمعي هو المقياس الذي يضمن الحركة الممحصة والبصيرة. فما حد “الوعي الجمعي” عند الأستاذ فتح الله كولن؟
إنه نمط من الوعي وأسلوب فكري، يرتكز على التمحيص ويقوم على رجاحة العقل؛ ونمط من يقف في الطرف المعاكس لسيكولوجية الجماهير؛ ونمط في التفكير يقوم على التعقل والتمحيص والتثبت والتروي؛ ونمط يرتكز على مراعاة الحاضر وملاحظته كما المستقبل، في التدبير والتقدير؛ ونمط يعتمد على معاينة الجزء مع الكل جنبًا إلى جنب في الآن نفسه. يقول كولن: “إن نمط الوعي الجمعي ينبني على التعقل والتمحيص والتثبت والتروي، وملاحظة الحاضر والمستقبل معًا في التقدير والتدبير، ومعاينة الجزء مع الكل جنبًا إلى جنب في آنٍ واحد. ومن ثم كنا وما زلنا نحض على ذلك النمط من الوعي وننصح به باسمرار”(4).
ومن هذا المنطلق فإن الوعي الجمعي هو البوتقة التي تحمل سبب وجود الأمة، وأسرار بنائها. فـالوعي الجمعي هو الخزَّان الذي اختزنت فيه عناصر وجود الأمة وبقائها ومقومات استمرارها في المستقبل، وتختزل فيه كل العناصر التي تجعل من الأمة أمة بين الأمم. بل إن هذا الوعي الجمعي هو الذي حمى وسيحمي هذا الاستمرار رغم الصعوبات الجمَّة والمكاره التي عرفتها الأمة خلال فترات من تاريخها القريب. يقول: «إن الوعي الجمعي يحمل في أعماقه أسبابَ وجودنا وأسرار بقائنا أمة، إذ يستقي مادة حياته من منبع ثقافتنا الدينية وهويتنا الذاتية، وبفضله تتناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية، إن الانفعالات التي تصدر عن الأفراد ذوي “الوعي الجمعي” تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن. وإذا ما تم تثمين هذه الأفعال في فترات التحوُّل فإنك لن تجد ميزانًا يستطيع أن يوفيها قدرها، لأنها قد بلغت قيمة ما بعدها قيمة بالدور العظيم الذي قامت به، وشتان بين وزنها في مثل هذه الظروف الحرجة ووزنها في الأوقات العادية”(5).
فالوعي الجمعي يحتوي كل هذه الأهمية لأنه يستمد شرعيته وقوة بقائه ومادة حياته من الهوية الدينية والهوية الثقافية والهوية الذاتية للأمة، لأن هذه المكونات هي ما يضمن -حسب الأستاذ فتح الله- علاقة منسجمة مع الحياة الاجتماعية والواقع الاجتماعي، فكل شيء ينبغي أن يُعرض على مجهر الدين والهوية الثقافية للأمة، فالدين ومكونات الهوية الثقافية هو ما يصنع الأمة، ويصنع هويتها، ولذلك فإن الوعي الجمعي هو الضامن الذي يقي الجموع من أن تتصور الحلول في منظومات تقع خارج هويتها الدينية والثقافية، وكأن الأستاذ يحذِّر الجموع وقد ولجت في حالة من التحول الذهني والفكري أن تنتبه إلى مقوماتها الذاتية، وألا تقع فريسة للغير الذي قد لا يهمه من حالة التحول التي تعيش على إيقاعها الأمة سوى ما يجنيه من مصالح.
يختم الأستاذ فتح الله هذه المقالة بخارطة طريق عام تجعل التحوُّل الذي عرفه العالم العربي والعالم الإسلامي تحوُّلاً ينفع المستقبل ويجعل منه بابًا مؤديًا إلى الآمال التي تعيش في قلب كل فرد من أفراد الأمة.
وفي هذا الإطار يوجه بدوره إلى المثقفين داعيًا إياهم إلى ضرورة التواصل فيما بينهم، وضرورة ترك التباين في وجهات النظر لأجل مصلحة الوعي الجمعي، بل إن الوعي الجمعي نفسه إذا كان حاضرًا ومتمكنًا من النفوس سيؤدي حتمًا إلى هذا السلوك. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو كيف يُبنَى هذا “الوعي الجمعي”؟، وما الشروط الفكرية والمنهجية لعملية البناء هذه؟ وكيف نُجهِّز أرضية بنائه؟
يُحَذِّر كولن الجموع الساعية للتحوُّل الذهني والفكري، أن تنتبه لمقوماتها الذاتية وألا تقع فريسة لمن لا يهمه من حالة التحول التي تعيشها الأمة سوى ما يجنيه من مصالح.
ليس البناء قضية بسيطة وسهلة، بل هو عملية مركّبة تحتاج إلى جملة شروطٍ من بينها شرط الوعي الكلي بأهمية البناء وفق منهج واضح وأهداف ومرام محددة وإلى أرضية قابلة للإنبات. فككل فلّاح مقبل على مهمة الزرع عليه النظر أولاً في المواد التي تخدم أرضه، إذ ليس كل المخصبات والأسمدة مهيأة لذلك؛ فهناك مخصبات تبدو برَّاقة وجميلة وذات أسماء رنانة، لكنّ المصنع الذي صنعها يعارض الفطرة.
إن الفلاح الناجح هو الفلاح الذي يقوم بتحليل أسمدته وتحديد طبيعة المخصبات، ثم بعدُ تأتي عمليةُ تهيئة الأرض لمدِّها بهذه المخصبات.
إن المراد بالأرض هو الإنسان الفعال، والسماد الذي يُمكِّن هذه الأرض الخصبة من الإنبات هو القرآن والسنة النبوية.
النور الخالد وبناء الإنسان
للأستاذ فتح الله في هذا الباب رؤية متكاملة حول بناء الإنسان، وقد نذر حياته كلها لإيجاد نموذج بشري منخرط بكل كيانه في دائرة الوعي الجمعي، ويُعتبر كتاب الأستاذ فتح الله “النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية” من بين أهم ما كتبه في طريق بناء مشروعه الإصلاحي، وفي طريق إعادة الأمة إلى شهودها الحضاري، وهو إذ يجتهد ويكد من أجل كل ذلك ينطلق من اقتناع راسخ بأن قيم الإسلام والمسلمين ستؤدي مهمة سامية في المستقبل من أجل إنقاذ إنسانية الإنسان.
وفي هذا المقام يبرز نموذج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعتبره الأستاذ فتح الله باقتناع كلي أنه أستاذ العالم نظرًا لأن الله تبارك وتعالى اختاره لكي يؤدّي وظيفة محددة وهي تمثيل الخطاب الإلهي المنزل عليه في القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم الذي هو بيان الله الختامي المنزل إلى العالمين قد اختير له الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يُبلّغه للناس، ولكي يكون النموذج الإنساني المثالي الذي تتمثل فيه كل مظاهر العبودية لله. فاهتمام الأستاذ بالسيرة النبوية يستمد مشروعيته من كون شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي النموذج المثالي للإنسان في كل عصر ومكان وفي جميع الأحوال والمواقف.
عتبات تضيء عالم النص
العتبات هي المدخل الذي يُولَج منه إلى كل نص، واجتياز العتبة والقفز عليها قد يُفَوِّت على الداخل معرفة ما تُقدِّمه هذه العتبات من معطيات ومعلومات مفتاحية تُضيء عالم النص، كما أن القفز عليها قد ينحرف بالفهم والتأويل في اتجاه لا يَرغب الكاتب فيه، دون إهمالِ ما يحمله هذا القفز من اقتحام غير شرعي لعالم النص، الأمر الذي قد يدفع النص إلى ممارسة نوع من المقاومة، كما يُقاوَم الغزاة، فيمتنع على الفهم والاستيعاب. وتنقسم عتبات النور الخالد إلى قسمين، قسم تحضر فيه شخصية المؤلف حضورًا مباشرًا، وقسم يحضر فيه الكتاب باعتباره محور العتبة. فأما القسم الأول فهو العنوان ومقدمة المؤلف نفسه وهو الأستاذ فتح الله، وأما القسم الثاني فتحضر فيه شخصية مقدم النسخة العربية للكتاب، وتحضر فيه مقدمة المترجم، وكلا الشخصيتين تُلِحَّان على أهمية الكتاب من جهة اهتمامهما بسيرة أهم شخصية في تاريخ الإنسانية كلها، كما تُشيدان بشخصية المؤلف، ويعتبر الدكتور “محمد عمارة” في تقدمته لهذا الكتاب أن القضية تتعلَّق بتأليف مُبدع في مجال السيرة النبوية لأنها تعكس رؤيةَ عالمٍ جليل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعكس في الوقت نفسه حبَّه لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديره له، يقول بعد أن تحدث عن أهمية سيرة سيد الخلق: “بهذه الأفكار والخواطر أستقبل دائمًا وأبدًا كل إبداع جديد في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبها أُقدم بين يدي هذه الطبعة الجديدة لهذا العمل الفريد في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، النور الخالد.. ومفخرة الإنسانية، ذلك الذي أبدعه العالم الجليل محمد فتح الله كولن. لقد أبدعه بقلب المحب وعقل المحقق، فجاء على هذا النحو الجليل والجميل، الذي يقود القلوب والعقول إلى عشق سيد الخلق، والاقتداء بصاحب الخُلق العظيم”(6). علينا أن نُسطِّر على إشارة ذات أهمية كبيرة من عالِمٍ وخبيرٍ في مجال الفكر الإسلامي وهو الدكتور محمد عمارة، الذي يؤكّد بأن الكتاب إبداع في مجال السيرة النبوية، وهي شهادة تعكس إلى حدٍّ بعيدٍ أن ما قدمه فتح الله في الكتاب ليس تناولاً مكرَّرًا، بل هو تناولٌ مختلفٌ للموضوع من زاوية جديدة؛ هي زاوية جعل السيرة قضايا ومواضيعَ تقارب الواقع الإنساني في العصر الحديث. وإذا كان لهذا التقديم من دلالة فهي إسباغ المشروعية الفكرية والعلمية والمعرفية على الكتاب وصاحبه، فنحن بهذه الشهادة لسنا إزاءَ عملٍ استهلاكي ولا عمل تجاري، بل هو عملٌ إصلاحي تتوفر فيه جميع الشروط المعرفية.
وإلى جانب هذه المقدمة نجد تقديم المترجم المرحوم أورخان محمد علي الذي ركز في تقديمه للترجمة على ما يعيشه العالم الإسلامي من مخاضٍ وعودة الحياة لشجرة الإيمان، واخضرار أوراقها، وعودة الغريب إلى دياره بعد طول غياب ولوعة وفراق، ولذلك يُعتبر كتاب “النور الخالد” في نظر المترجم كتابًا يتناول فقه السيرة وحكمتها ومعانيها وأسرارها، باعتبارها نبراسًا تغذي الصحوة وتنير الطريق وتحذر من مخاطرها ومفاوزها، بل يعتبر الكتاب كتابَ كل مسلم يعيش الصحوة.
ومما تفصح عنه مقدمة المترجم كون الكتاب في أصله خطبًا وعظية ومحاضرات خصَّصها الأستاذ فتح الله لشرح فقه السيرة النبوية الشريفة، ودلائل النبوة، وإبراز معالم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بنية تنبيه الناس إلى عظمة رسولهم الكريم، بعد فتن الهجوم على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سنته صلى الله عليه وسلم، وبالنظر إلى أهمية ما كان الأستاذ يحرص على التركيز عليه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ربط معالم سيرته بما كان الواقع يموج به من أحداث وتحامل وفتن وأزمات.
ومما تكشف عنه هذه الإشارات في مقدمة المترجم هو تحديد الفترة الزمنية التي قُدِّمت فيها خطب الأستاذ ومحاضراته، وهي فترة ممتدة من 1989 إلى 1990، وهي فترة مليئة بالأحداث التي قد تَطَرح على الباحث في فكر الأستاذ فتح الله أن يحلل مكونات “النور الخالد” وقضاياه في ضوء الأحداث الاجتماعية والسياسة المحلية والدولية التي تطفو على السطح فتحتاج إلى رؤية حكيم مجرب مستوعب لروح الوعي الجمعي كالأستاذ.
عنوان الكتاب
وقبل الحديث عن مقدمة الأستاذ فتح الله وأهميتها، لابد لنا من وقفة تأملية مع أول عتبة تواجه المتلقي وهي عتبة العنوان، ولا يخفى الدور الاستراتيجي الذي يقوم به العنوان في تحديد هوية النص وتقديمه لجمهور المتلقين، فالعنوان يتكون من مجموعة من العناصر تُشكِّل مجتمِعة البطاقة التعريفية بالكتاب، فعبارة النور الخالد، هو اسم المجهود الفكري والمعرفي والإبداعي الذي يقدّمه شخص اسمه فتح الله كولن.
يتكون عنوان الكتاب من عنوان مركزي هو “النور الخالد” وهو جملة اسمية تتكون من مبتدأ ونعت، ومبتدأ ثان هو الاسم العلم “محمد” فالجملة تتكون من مبتدأين، والذي جَوَّز اعتبار محمد مبتدأ ثانيًا هو كونه معرفة إذ لا يستقيم الابتداء بالنكرة، وقد نُعت المبتدأ الثاني بكونه مفخرة الإنسانية.
والظاهر هنا أن عنوان الكتاب قد اُختير بعناية كبيرة وهي عادة الأستاذ فتح الله كولن، فالعنوان لم تحدد طبيعته ومضمونه شروط تجارية، بقدر ما تحكمت فيه الغايات والمرامي التي يريد المؤلف التنبيه عليها في الكتاب، وهي مرام فكرية إصلاحية بالدرجة الأولى.
وإذا كان الخبر محذوفًا فهذا لتأكيد أن خبر هذه الجملة الاسمية المركبة يوجد في الكتاب، ودلاليًا يُلح العنوان على أن النور الخالد في الحقيقة هو محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن النور الذي تلقاه سيبقى مستمرًّا وخالدًا إلى أن تقوم الساعة، وإذا ما أنعمنا النظر في العنوان من زاوية ما يقوله الأستاذ في المقدمة، فإن هذه الدلالة ستتأكد أكثر. فالأستاذ فتح الله كولن يعلن منذ العنوان عن نظرته لصاحب السيرة النبوية المشرفة محمد صلى الله عليه وسلم وهو كونه نورًا خالدًا، ومفخرة للإنسانية.
مقدمة المؤلف
إذا كان العنوان يكشف هوية النص وطبيعته، ويعكس كذلك موقف المؤلف ورؤيته، فإن المقدمة تُحدد المعالم الأساسية لقراءة الكتاب، وتعكس في الوقت نفسه مرامي الكاتب وأغراضه ورؤيته، لذلك لا ينبغي القفز عليها بل هي أجدر محطات الكتاب بالاهتمام والتحليل؛ لأنها كما العنوان آخر ما يوضع في الكتاب، فالعنوان على سبيل المثال على الرغم من أنه آخر ما يُفكر فيه لكنه مع ذلك يحتل الصدارة، الأمر الذي يجعله عنصرًا خطيرًا، ويُعلَّق على قمة النص كالثريا، والأمر نفسه يقال بالنسبة للمقدمة فالمقدمة لا توضع عادة قبل النص لأن المؤلف أو الكاتب أو الشاعر لا يمكنه تقديم شيء لم يوجد بعد ولم يولد، ولذلك كانت المقدمة بمثابة خلاصة مركزة لأهم قضايا الكتاب وموضوعاته وأفكاره، فهي تشرح بصورة مركزة رؤية المؤلف وأفكاره وقضاياه، وكأن حال المؤلف يقول هذا أهم ما يوجد في الكتاب فَعَلى المتَلقِّي القارئ الدخول إلى عالم النص لكي يكتشف تفاصيل ما جرى التلميح إليه في المقدمة. وبالنسبة لمقدمة كتاب “النور الخالد” فهي تعكس ما أشير إليه سالفًا فقد وُضعت بعد الانتهاء من جمع الكتاب، وقد أشير سالفًا إلى أن الكتاب كان في الأصل سلسلة دروس ومحاضرات ألقيت في المسجد وجمعت بعد ذلك واعْتُني بتوثيق المصادر وتخريج الأحاديث، ثم عُرض الكتاب على الأستاذ ليُنقِّحه وليكتب مقدمته.
يتَّسم منهج حركة الخدمة بالمرونة، فليس هناك منهج صارم ينبغي الالتزام به وعدم الخروج عنه، ولكن توجد رؤى وتصورات عامة يمكن تكييفها حسب الأحوال والمواقف والأماكن.
يحدد الأستاذ منذ أولى كلمات المقدمة سبب الكتاب وعلته، أو هو بالأحرى يحدد ما يُشَكِّلُه موضوع الكتاب من أهمية بالنسبة له يقول: “إن تسليط الأضواء على شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم السامية، وشرحها وبيانها، ثم تقديمها كمنقذ للبشرية، وكإكسير للمشاكل المستعصية على الحل، وللأمراض غير القابلة للشفاء، وإظهار هذه الشخصية السامقة وسيرتها بما هي أهل له كان رغبة ملحة لديَّ -كما هي عند كثيرين- وهاجسًا من هواجس فكري ومشاعري، وموضوعًا مهمًّا من المواضيع التي لا سبيل للوقوف أمام سحرها وجاذبيتها أو الفكاك منه”(7).
فتقديم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مثَّلَ عنده رغبةً ملحَّة وهاجسًا من هواجس فكره ومشاعره، عاش على أمل تحقيقها فترة من حياته، لكن هذا الهاجس الملح بقدر ما كان تلبية لأمل خاص وشخصي بقدر ما هو من أجل الآخرين، فالنور الخالد كتاب يحلل فيه الأستاذ العديد من جوانب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء رؤية إصلاحية عامة تروم الإنسان النافع لأمته ووطنه والإنسانية كلها، ولذلك يجب وضع الكتاب في هذا السياق والتعامل معه على أساس كونه حلقة مهمة في النظام الفكري الذي بنيت مرتكزاته خلال سنين طويلة.
إن كتاب النور الخالد وصفة طبية لعلاج جميع الأمراض النفسية والأخلاقية والحضارية التي تعاني منها الإنسانية، فشخصية السيرة المركزية وهو محمد صلى الله عليه وسلم سَيُقدَّم في الكتاب على أساس كونه منقذًا للبشرية من أزماتها، وستُقدَّم سيرته على أساس أنها دواء بل إكسير لكل مشاكل الإنسانية المستعصية، فشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية سامقة وهي أهل لكل ذلك كما يذكر الأستاذ. يذكر الدكتور مأمون فريز جرار في قراءة كتاب النور الخالد، أن الروح التي كُتِب بها النور الخالد هي روح رجل محب وعاشق لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وروح رجل تعلَّق قلبه بسيرته وأحب نقلها للناس كافة، يقول: “هذا العقل الواعي والقلب المخلص المحب الموالي وجدناه في الداعية فتح الله كولن الذي كتب “النور الخالد” بأسلوب فيه الجديد والفريد فيتناول السيرة النبوية تناول المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، العارف به، المدرك لمنزلته في حياة البشرية قديمًا وحديثًا، المتأدب في حضرته، الساعي إلى تعريف الناس جميعًا به ليكون بلسمًا لأمراض البشرية المعاصرة”(8).
ويذكر الأستاذ في هذه المقدمة جملة من الأسباب توجب دراسة السيرة النبوية والتعامل معها بروح جديدة واتخاذها منهجًا للحياة المعاصرة، ومن أهم هذه الأسباب أنه رغم كل محاولات الهدم والنَّخر التي تسلَّطت على هذا العصر فقد ظلت قيم الإسلام ونداء الأذان الذي يشهد بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ظلت الروح المحمدية قادرة على فتح آفاق السمو نحو الأعالي، يقول: “ونستطيع أن نشير إلى دليل عظمته فنقول بأنه على الرغم من كل هذا العمل المتواصل لأعداء الله في الداخل والخارج في الإفساد والإضلال، فإننا نرى حتى في هذه الأيام كيف أن العديد من الشباب في عمر الزهور رغم عدم إحاطتهم التامة بالحقيقة الأحمدية التي ليس من اليسير معرفة مفاهيمها الدقيقة والصعبة يتراكضون نحوه، ويحومون حوله مثلما تحوم الفراشات حول النور. وهذا أمر فريد لا نجد له مثيلاً في العالم؛ فالزمن لم يستطع أن يمحو من قلوبنا ومن صدورنا أي حقيقة من الحقائق العائدة له صلى الله عليه وسلم ولا أن يبليها…”(9).
سلطان القلوب
إن هذا التقدير لعظمة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وامتداد انتشار نوره في الآفاق البعيدة في كل مكان، يجعل الزمن مجرد عنصر يزيد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نضارة وحيوية وطراوة في القلوب.
وعلى هذه الأسس وغيرها يؤكد الأستاذ فتح الله أنه لو عملت الأمة على الاهتمام بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كما يهتم الآخرون بشخصياتهم، لما تربّع على عرش القلوب غيره، وهو يعتبر هذه القضية مسؤولية الجميع لا يُعفى منها أي مجال من مجالات المجتمع الحيوية، إذ تقع المسؤولية في الدرجة الأولى على المؤسسات العلمية والمؤسسات الأخرى، يقول: “وأنا أرى لو أننا اهتممنا واعتنينا بتقديمه والاهتمام به مثلما فعل الآخرون في تقديم شخصياتهم، ولو أن المؤسسات العلمية والمؤسسات الأخرى المتعلقة بشؤون الحياة نذرت نفسها للاهتمام به وشرحه وتوضيحه وبيان جوانب شخصيته، لما تربع على عرش القلوب غيره، ولما تخلل في الضلوع والصدور سواه”(10). فالمسؤولية تقع على الجميع وخاصة المؤسسات العلمية كما يشير الأستاذ، لكن هذا التحديد هو مجرد تحديد في اللفظ ولكن الدلالة المعنوية واسعة جدًّا إذ تكاد تعم كل المجالات التي لها صلة بالعلمية وخاصة حقل التعليم بمؤسساته ونظرياته.
وإذا كان أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم قد استغلوا كافة المجالات والميادين من أجل تسميم العقول وملئها بشعارات براقة وبالكفر والضلال، فإن الواجب يفرض مطاردة هؤلاء من أجل تنظيف الأدران التي تسببوا فيها، وذلك بجعل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته محط اهتمام وعناية الجامعات والكليات والمدارس والطبقة المثقفة. والأهم في كل هذه الملاحظات هو تلك الروح المسكونة بالأمل واليقين في المستقبل، فالمقدمة وهي تذكر هذه الصورة الحزينة عما تلاقيه شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، تلتفت إلى مختلف مظاهر الأمل والاهتمام بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وعناية مجتمعات أخرى غير المجتمعات الإسلامية بشخصيته، يقول: “إننا نشاهد في جميع أنحاء العالم ولاسيما في أمريكا وانكلترا وفرنسا وألمانيا انبعاثًا جديدًا لمنهجه صلى الله عليه وسلم، وحركة دائبة من قبل المسلمين لشرح وبيان مبادئه، ونسج نسيجه المزخرف ذي النقوش البديعة والألوان الجميلة المتناسقة، فكأنهم يعيشون روح عهد النبوة من جديد. ونرى الأمر نفسه في العالم الإسلامي، فقبل قرن أو قرنين كان هناك أناس يشعرون بارتباطهم مع المسلمين عن طيب قلب دون تدقيق أو تمحيص، أما الآن فهناك مثقفون يعرفون لماذا يؤمنون بالإسلام، ولماذا يقتدون بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بدأوا تحليل المسائل الإسلامية تحليلاً علميًّا دقيقًا، فحتى الآن استغل أعداؤه الجامعات والكليات والمدارس والطبقة المثقفة، وخدعوها بشعارات برّاقة، واستخدموا المؤسسات الوطنية لحساب الكفر والضلال، ولكن كل هذه الأمور آذنت بالانتهاء، وبدأت تتفتت وتذوب وتضمحل مثل جبال الثلج الطافية على المياه، وبدأت الإنسانية تتجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبل عليه”(11).
ولكل هذا يتساءل الأستاذ عما إذا استطاعت الأمة فهم الرسول صلى الله عليه وسلم فهمًا عميقًا وإدراكه حق الإدراك، وهو لا يستثني نفسه من هذا كما لا يستثني أهل التبليغ والدعوة، فالجميع في نظره يتحمّلون مسؤولية فهم السيرة وإدراك عمقها.
ولذلك فهو يؤمن إيمانًا قاطعًا بأنه لو عَرفت البشرية حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتغيّر حالها ولأصبح متربّعًا على القلوب لا يوجد فيها أحدٌ غيره؛ لأن الإنسان يحب بمقياس فهمه وإدراكه ويكره بمقدار جهله، لكن كل هذه المحاولات قد انهارت رغم كل ما بُذل من أجل إقصائه عن القلوب وإهمال ذكره لدى الأجيال وتنشئتهم على بُغضه وكرهه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تزال مرتبته لم تتزعزع ولم تهتزّ.
النور الخالد كتاب يحلل فيه الأستاذ العديد من جوانب سيرة الرسول في ضوء رؤية إصلاحية عامة تروم الإنسان النافع لأمته ووطنه والإنسانية كلها.
وتفسير ذلك عند الأستاذ هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو علة الكون والكائنات وسبب وجوده، ولذلك فهو يَعتبِر أنه من العبث كتابة كتاب وإنزاله من غير أن يُدرك مراده تعالى، ولبيان ذلك بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لكي يكون شارحًا لمعنى الوجود والكون والكائنات، ومبيِّنًا للإنسان علةَ وجوده ومن أين أتى وإلى أين هو كادح وإلى أي شيء هو مرشح، يقول: “فهو علة الكون والكائنات… فمن العبث كتابة كتاب لا يمكن فهم معناه، والله عز وجل منـزَّه عن العبث، لذا فهناك حاجة إلى مرشد جهوري الصوت مثل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الزمان والمكان لكي يشرح معنى الوجود، ومعنى الكون والكائنات. كذلك هناك حاجة إلى شارح وإلى مبلغ مثله لكي يشرح لهذا الإنسان الذي سُخرت له هذه السماء الواسعة والأرض والشمس والقمر والنجوم وكل الوجود.. يشرح له من أين أتى وإلى أين هو كادح وإلى أي شيء هو مرشَّح؟ أجل، لكي يعلن ويوضح هذا، ويوصل ما وراء أستار الوجود إلى الأرواح. فلو لم يكن موجودًا لما كان للكون ولا للإنسان أي معنى، لأن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الذي أسبغ المعاني على الأشياء.”(12).
وما يؤكد هذه المرتبة العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن جميع الأنبياء قد بشَّروا به وأخذ الله منهم جميعًا ميثاقًا ليؤمنُنَّ به ولينصرُنَّه، بل لقد ظل نشاطهم مركّزًا على التبشير به، ولذلك صلَّوا خلفه صلى الله عليه وسلم عندما عُرج به إلى السماء، فهذه المرتبة تفرض -كما يؤكد ذلك الأستاذ ضمنًا- أن تُتَّخذ سيرته نبراسًا يُهتدى به، ومنهجه في الحياة وفي السير إلى الله عز وجل قنديلاً يُنير ظُلمة المسير، لأن الأنبياء جميعًا قد اعترفوا من خلال التبشير به والصلاة خلفه بأنه حامل البيان الختامي الذي وجهه الله تبارك وتعالى للناس كافة.
الرسول قدوة كل عصر
وانطلاقًا من هذه الرؤية المفسِّرة لكل ما تمثِّله سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، يأتي كتاب “النور الخالد” لِتُفصَّل فيه مختلف مظاهر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يتوجَّب اتخاذها قدوة، يقول: “إنه كان يُمثِّل الصفات الإنسانية في ذروتها ليكون قدوة وأسوة حسنة لنا. فمثلاً كان رئيس عائلة مثالي، وفي ذلك البيت حيث كان إكسير النبوة يتقطَّر فيه قطرة قطرة، لو توزَّع كل ولد من أولاده الناشئين فيه للعصور، لنشأ منهم مجتهدون ومجددون ينير كل منهم عصره. ولا أدري كم من الناس نجح في معرفته من هذه الزاوية”(13).ولا تقف قدوته في هذا الجانب بل تتعدى إلى ما هو أوسع، وهو تدبير الدولة والقيام بشؤون القيادة الراشدة الناجحة، بالرغم من أنه لم يَدْرس ذلك ولم يتعلَّمه من أحد.
وأما أهم ما يمكن أن يكون فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة مطلقة في هذا العصر فهو العلم، لأن هذا العصر عصرٌ تتحكَّم وستتحكَّم فيه الحقيقة العلمية، كما يؤكد ذلك الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي في الرسائل، إذ يرى بأن الإنسانية ستنساب في آخر أيامها على الأرض إلى العلوم، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة. (14) (15). ولما كان الأستاذ فتح الله كولن أهم الرجال الذين استوعبوا فكر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي وعملوا على تفعيله وتنزيله على الواقع، فهو يعتبر أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي الموجِّه لدور العلم الحديث في هذا العصر وفي كل العصور حاضرها ومستقبلها، يقول: “ثم إنه الشخص الذي تنتهي عنده العلوم، فكأنه جالس أمام شاشة يشاهد جميع الحوادث حتى يوم القيامة، ثم يخبر عنها. ومع أن عصورًا عديدة مرَّت منذ ارتحاله إلى دار البقاء، ففي المحطَّة الأخيرة التي وصلت إليها البحوث والتقنية المعاصرة بكل إمكانياتها الهائلة، نرى الراية التي ثبَّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا تُرفرف في السماء، ونرى الذين هداهم الله عز وجل ينطقون بالشهادتين، ويكوّنون حلقة من الحلقات المضيئة لقافلة الإسلام.
أجل، فكما هو ظاهر فالقرآن الكريم يفتح المنافذ أمام العلم كلما انسدَّت السبل أمامه، وإن نقطة النهاية للعلم هي نقطة البداية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من علّمه كل هذا؟ لقد أخذ درسه من الله “العليم” “الخبير”. فوراء هذه المعارف هناك المعلم الأزلي، ومن ثم فإن المعارف التي استقاها لم تتعرض للقِدم والبِلى، بل اكتسبت شبابًا وحيويّة ونضارة كلما تعاقبت عليها العصور، وستتجدد على الدوام ما دامت السماوات والأرض”(16).
وتأتي أهمية الإلحاح على قضية العلم من طبيعة الرؤية الإصلاحية التي يؤمن بها الأستاذ فتح الله، فهو مقتنع الاقتناع المطلق من أن النهضة السليمة والانبعاث بعد الموت لا بد له من سلطان العلم يأخذ بأسبابه، شريطة أن يرتكز هذا العلم على أسس الرؤية القرآنية، التي تربط كل مظاهر الوجود والكون بالله من جهة الدلالة عليه عز وجل، وأرسخ ما تلغيه هو نظرية الطبيعة.
إن عتبة المقدمة في هذا الكتاب ذات أهمية كبيرة جدًّا لأنها ترسم معالم بناء المفهوم الذي نحاول النظر من خلاله إلى الكتاب وهو مفهوم الوعي الجمعي، فهذا الكتاب محطة مهمة في طريق بناء رؤية جماعية من خلال توحيد القبلة جهة القرآن الكريم ومظهره العملي وهو السيرة النبوية الشريفة.
النور الخالد والمنظومة الفكرية لكولن
بإلقاء نظرة فاحصة على عتبة الفهرس سنلمس كل أبعاد هذا الوعي الجمعي المبحوث عنه، فقد قُسِّم الكتاب وفق منهج واضح يعكس المرامي التي يودُّ الأستاذ فتح الله كولن الوصول إليها، وهي بناء نموذج إنساني جديد معتز بانتمائه الديني والعقدي وبِهُويَّته الثقافية، على شعور كلي بحقيقة العصر وما يتطلبه من وعي يتطلع إلى تغييره تغييرًا ينسجم وسنن الكون والوجود.
والجدير بالذكر في هذا الشأن هو أن كتاب النور الخالد، يتميز بخاصية قد لا نجد لها مثيلاً في كُتب السيرة الأخرى، وهي إمكانية قراءة الكتاب قراءة متسلسلة تراعي النمو الطبيعي للأحداث، مع التركيز على ما له صلة مباشرة بالمرامي التي يراد الوصول إليها، كما يمكن قراءة الكتاب قراءة انتقائية من خلال البحث عن بعض القضايا الخاصة المتصلة بالسيرة النبوية، من خلال البحث عن جواب المنهج النبوي حول بعض القضايا التي تُعرَض بين الحين والآخر، ولكن هذه الإمكانية لا تُغني عن التحليل واستنطاق الأحداث.
وأَتصوَّر أن البحث في هذا الكتاب واستنطاق قضاياه أوسع من أن تحيط به دراسة سريعة كالتي بين أيدينا، ولذلك فالتفاعل مع الكتاب يحتاج إلى محطات كثيرة، وهو ما نعتزم القيام به فعلاً في دراسة لاحقة هي امتداد لهذه إن شاء الله.
إن كتاب النور الخالد لا ينبغي فصله عن روح رؤية الأستاذ فتح الله الفكرية إذ إن كل كتاب من كتبه هو حلقة ضرورية في دائرة الأهداف التي يريد للإنسانية الوصول إليها.
فمفاهيم الإنسان الجديد وإنسان الفكر والحركية وجيل الأمل وإنسان الوعي الجمعي ومهندسو الروح والأجيال المثالية، وغيرها من المفاهيم الأخرى، هي محور كتب الأستاذ، وبعبارة أخرى هناك خيط ناظم بين مختلف كتب الأستاذ ومختلف عناصر منظومته الفكرية وهي منظومة الإنسان الجديد لعالم جديد.
ومن هنا فإن قراءة النور الخالد ينبغي وضعها في هذا السياق كما ينبغي وضع الكتاب في حد ذاته في إطار شمولية الرؤية الفكرية الإصلاحية الحضارية التي ينطلق منها هوجا أفندي، والتي يعيش بها على أمل إنقاذ الإنسانية كلها.
الانبعاث من جديد وحركة البعث من جديد والانطلاق نحو المستقبل والإيمان في الذات وفي إمكانيتها، وشيوع البصيرة والعلم والحكمة في المجتمع، كلها عناصر تحتاج إلى طاقة فاعلة وطاقة بانية، وتحتاج إلى رؤية واضحة ومنهج جلي يقتنع الناس به حتى يصير جزءًا منهم، بل لنقل حتى يكون الناس والمنهج كشيء واحد. لقد كانت عائشة رضي الله عنها عندما تسأل عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم تُجيب قائلة: كان خلقه القرآن الكريم، وكان قرآنًا يمشي، فهذا النموذج المثالي الذي كانه الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي تربى الصحابة الكرام والرعيل الأول في ظله، هو ما اقتنع الأستاذ فتح الله بإمكانية تحقُّقه في أجيال هذا العصر الذين يُطلِق عليهم الأستاذ “رجال الروح والمعنى والبصيرة”(17)، فهؤلاء الرجال لا ينبغي الشك في حتمية ظهورهم في هذا العصر، ولا ينبغي الشك في حتمية إنشائهم وبنائهم، ولا ينبغي الشك في قدرتهم على التأثير في مصير العالم والسير به إلى الخلاص، لأن هذه الحتمية تستقي مشروعيتها من وعد الله بأن يورث الأرض لعباده الصالحين، وفي التقدير الأقل فإن هذا هو اقتناع الأستاذ فتح الله الذي لم يوفِّر جهده منذ ما يزيد على خمسين سنة من أجل الوصول إلى تحققه، وبكلام آخر، إن كتاب النور الخالد هو كتاب يرسم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وطريق جيل الصحابة الذين جعلوا دنياهم بعدًا من أبعاد الجنة، وكأني بالأستاذ الآمل في بناء الشخصية الروحية والحركية لجيل الأمل تدفعه آماله إلى جيل يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام قدوة ومثلاً أعلى ينبغي الاقتداء بسيرتهم ومنهجهم.
لا ينبغي فصل كتاب النور الخالد عن روح رؤية الأستاذ فتح الله الفكرية إذ إن كل كتاب من كتبه هو حلقة ضرورية في دائرة الأهداف التي يريد للإنسانية الوصول إليها.
إن كل كلمة يكتبها الأستاذ أو ينطق بها هي وجهٌ من أوجه التعبير عن هذا الأمل ووجهٌ من وجوه تحقيقه، فأجيال الأمل تحتاج إلى دستور مفصَّل يراعي خصوصية العصر ويأخذ متطلباته بعين الاعتبار، ولا شك في كون مصدر هذا الدستور هو القرآن الكريم وخطاب الله إلى البشر، لكن هذا الخطاب قد يُستعصى إدراك أبعاده عن فئات واسعة من فئات المجتمع، ولذلك فهو في حاجة إلى روح تدرَّجَت في المقامات وسافرت السفر الطويل من أجل إدراك كُنه الخطاب وعمقه في علاقته بالعصر، وفي حاجة في الوقت نفسه إلى عقلٍ مجرِّب وهمَّة معرفية عالية تستطيع إدراك حقيقة العصر وحاجاته ومتطلباته، وإلى شخصية ذات بُعد نظر وقدرة على معرفة ما يجعل المستقبل آمنًا، ولذلك فإن كتاب النور الخالد هو بعض مقتضيات هذا الدستور الذي يرسم طريق جيل الأمل، الذين ينشغلون “بحساب الغد مع اليوم قيامًا وقعودًا، ويستعملون الإمكانات والحركات الحاضرة أحجارًا لإنشاء الجسور الموصِّلة إلى الغد، ويجدون في حناجرهم غصص نقل الأيام الحاضرة إلى الأيام القابلة… يبتلعون حسابات هذا النقل غصَّة بَعد غصَّة، لأن حل عقدة المعضلة مرتبط بتجاوز الزمن الحاضر والقابل، والقدرة على تحليله وتقويمه، بالصفاء والنقاء نفسه”(18). فهذا الجيل والأجيال الأخرى الآتية هي الموعودة بوعد الله لها بوراثة الأرض، التي لا تكون إلا للصالحين، الذين تتحدد صفاتهم عند الأستاذ في الآتي:
- يمثلون الروح المحمدية والأخلاق القرآنية.
- يقومون ويقعدون بالوفاق والاتحاد.
- واعون بمقتضيات العصر.
- يتزودون بالعلم والفن.
- يوازنون بين الدنيا والعقبى.
يقول الأستاذ مفصلاً الحديث في هذه “وخلاصة القول، إن الله تعالى قد وعد تلك الوراثة عقبان الروح والمعنى ممن يحلقون في مدار واحد مع سادتنا الصحابة الكرام، نجوم سماء النبوة إنها سنة إلهية و”شريعة فطرية” لا تتبدل ولا تتغير”(19).
على هذا الأساس يمضي الأستاذ فتح في تفصيل مشروعه الإصلاحي، وعلى هذا الأساس كذلك ينبغي قراءة كتاب النور الخالد، لأن الكتاب ليس مجرد سرد تاريخي لأحداث وقعت، بل هو توظيف للحدث وللسيرة في ضوء مراميها التربوية والإصلاحية والشهودية.
لقد نظر الأستاذ فتح الله في حال الواقع فوجده يعيش أحلك أزماته كما يقول، ويمكن تلخيص أزمات الإنسان في هذا العصر في الآتي:
- أزمة الأخلاق والقيم.
- انحراف الفكر والمعرفية.
- انحراف الصناعة.
- انحراف العادات والتقاليد.
- انحراف الأوضاع السياسية والاجتماعية.
فهذه الأزمات ليست خاصة بالعالم الإسلامي فحسب بل أزمات تهم العالم كله، ومرد ذلك هو أن الأستاذ فتح الله يعتقد أنه ملزم بأن يرشد هذا العالم إلى البلسم الذي يداوي أمراضه، بل ويجتهد من أجل ذلك، ولعل أسمى مهمة قام بها على مدى خمسين سنة هي أن يبني الجيل الذي سيتحمل مسؤولية هذه المهمة السامية والكبيرة. والأستاذ حين يثير هذه الأفكار لا يثيرها من باب الاحتمال بل يثيرها من الثقة في وعد الله عز جل، وهذا هو أهم ما يميز الأستاذ فتح الله عن باقي مفكري الإصلاح في العالم الإسلامي، وبعبارة أخرى، إن مشروع فتح الله الإصلاحي ليس مشروعًا محليًّا بل هو مشروع يضع الإنسانية كلها في صلب الاهتمام.
كولن واستحضار روح التاريخ
ومن القضايا التي تُطرح بالارتباط بما يمثله مضمون النور الخالد هو الارتباط بالماضي، إذ يطرح السؤال ما علاقة الأستاذ بالماضي، وما علاقته بالتاريخ بصفة عامة وبتاريخ الأمة الإسلامية على وجه التحديد؟ فالأستاذ دائم الاستحضار لروح التاريخ الذي له ارتباط مباشر أو غير مباشر بالدين، فنظرة الأستاذ هي أن تاريخ الأمة المجيد وكل ما عرفته من رجال هم نتيجة مباشرة للعلاقة السليمة بالدين، لكنه في الوقت نفسه يحرص على أن يذكر بأن الأجيال المعاصرة ملزمة بأن تبني حاضرها، من الأخذ بأسباب النهضة وهي روح الدين والانطلاق بروح تسبق الحاضر نحو المستقبل، مع وراثة علوم العصر وفنونه.
ضرورة تصحيح مسار العلم
إن الخيط الناظم بين كل رؤى الأستاذ هو الخيط التصحيحي، فالأستاذ خبَر أزمات المجتمع وتمكن من وضع يده على مجمل الانحرافات التي تسير بالعالم نحو هلاكه، وعلى هذا الأساس يحرص الأستاذ على ضرورة تصحيح مسار العلم الذي انحرف عن الطريق السوي اللازم له، فإذا كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي قد أكد بأن العلم ستصبح له السلطة، وقد وضع لذلك “رسالة الطبيعة” التي ناقش فيها المرتكزات العقلية التي تقيم عليها نظرية الطبيعة رؤيتها وبين فساد تلك المرتكزات، فإن الأستاذ كولن يعمل على أن تتحكم أجيال الأمل في ناصية العلم وتسير به في المسار الصحيح الذي ينجي إنسانية الإنسان ويربطه بخالق الوجود. يقول في بيان هذه الحقائق: “…إن وراثة الأرض مرهونة بالصلاح الذي يتبلور في تمثل الدين على هدي الكتاب والسنة في السعي لاتخاذ الإسلام روحا للحياة، ثم بلورة علوم العصر وفنونه ولا يغيبن عن خلَدنا البتة، أن المجتمعات والأمم مصيرها إلى الخذلان غدًا مهما كانت ظاهرةً اليوم، ما لم تأخذ بـ”الشريعة الفطرية” التي نشهدها في الكون، مظهرًا لتجليات صفتي “القدرة” و”الإرادة” ولم ترعَ مجموعة القوانين الإلهية الصادرة عن صفة “الكلام”.. أو كانت عرضة لتغير داخلي في حياتها المعنوية. وكما أن التاريخ (مقبرة الأمم البائدة) يجهر بهذه الحقيقة مدوّيًا، فإن الآيـة الكريمة: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال:53) تذكّرنا بأساس قويم في الظهور والانهيار، أو العز والذل، وتشير بوضوح إلى قصور هائل لدى المسلمين في هذا العصر.
ويتلخص هذا القصور في المسخ الذي أصاب المسلمين في حياتهم الروحية والقلبية من حيث بنيتهم الداخلية، وفي التخلف الشاسع عن العصر من حيث بنيتهم الخارجية. وسواء كان هذا المسخ والتخلف ناجمًا عن الموانع الخارجية المتتالية قرنًا بعد قرن، أم كان عن جهلنا ونقصنا وضعفنا، إلا أن الواقع يشهد بأن أمة الإسلام باتت تنـزف الدم في الآونة الأخيرة، وأصبحت غير مبالية بمصادر قوتها التي نهضت بها قرونًا طويلة وجعلتها وارثة الأرض حقًّا”(20). وبناء على ما تقدم فإن النور الخالد كتاب يعرض نماذج بشرية من أجل بناء نماذج بشرية وفي المقدمة النموذج الكامل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى النماذج الأخرى التي تربَّت في مدرسة القرآن الكريم وتلقت معانيه مطبقة ممن اختاره الله عز وجل ليكون ممثلاً لمنهجه.
حول تقسيمات الكتاب
قُسِّمت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في النور الخالد وفق هيكلة تراعي المرامي والأهداف المتوخاة من الكتاب؛ افتتح الكتاب بتمهيد تناول فيه الظروف الروحية التي أحاطت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حَرص الخطاب الذي عُرضت به القضايا على بيان الأسباب التي تُبرِّر كون الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والأستاذ عندما يعرض الظروف التاريخية التي خيَّمت على العالم إبان بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرض كل ذلك لكي يبرز بأن هناك بعض التشابه في تلك الحال والحال التي يعيشها العالم المعاصر، وكأن لسان حال الأستاذ فتح الله يقول إن ما يفرض تناول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واقتداءنا بها، هو التشابه الكبير بين ظروف بعثته صلى الله عليه وسلم والظروف الحالية، وهي الظروف السيئة التي تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من إصلاحها في فترة زمنية قياسية.
مما يسجل لحركة الخدمة رؤيتها الشمولية، وتحولها إلى حركة عالمية خلال العقدين الأخيرين من خلال توسيع دائرة الاهتمام تجاه الإنسانية كلها، وذلك بالتركيز على التربية والتعليم.
ولذلك يؤكد الأستاذ أن الابتعاد عن منهجه صلى الله عليه وسلم هو الذي أدخل العالم في حالة الفساد والانهيار وسقوطه بين مخالب قوى الشر، فالأستاذ يعتبر أن نظرتنا للرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون وفق بُعدٍ مختلف عن البعد الذي تُحاكَم به الأشياء والأحداث في الواقع، يقول: “إن الذين استطاعوا الخلاص من سجن الجسم، ووصلوا إلى مرتبة حياة القلب والروح، يستطيعون عيش الماضي والمستقبل معًا وفي الوقت نفسه. إذن، فلِمَ لا يوجد سلطان الرسل في الآخرة وفي الدنيا وأمام الملائكة وأمام الأنبياء في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها؟ أجل، إنه يوجد وسيوجد، وسأجعل من كل ما ذكرتُه أساسًا وقاعدة لِـما سأذكره، لأن تعيين زاوية النظر إلى الأنبياء وإلى نبينا مهم جدًا. فإن كان فهم الأولياء والأصفياء والأبرار والمقربين وحدسهم -دع عنك الأنبياء العظام- يحتاج إلى صفاء روحي وإلى نقاءٍ قلبي خاص، فكيف يمكن فهم الأنبياء في هذا العالم المادي الغليظ الذي تكثر فيه الحجب والأستار؟ إذن، فلكي نفهمهم فإن علينا التوجُّه إليهم بكل استعداداتنا القلبية، ولطائفنا الروحية، وبكل دقة واهتمام وتركيز. فإن كان المطلوب فهم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الدقة والاهتمام والتركيز يجب أن يزداد أضعافًا مضاعفة، هذا علمًا بأن درجة معرفة كلٍّ منّا وفهمه يتبع درجة قوة نظرته القلبية، ولكن لا أحد يستطيع أن يفهمه ككل أو يحيط به إحاطة تامة، فهو كما قال البوصيري:
وكيف يُدرِك في الدّنيا حقيقتَه قوم نيام تسلّوا عنه بالحلم”(21).
فالأستاذ يحرص على أن تكون المعرفة بالقلب أو بِبُعدٍ آخر هو البعد الروحي.
قُسِّم الكتاب إلى خمسة أقسام، بالإضافة إلى ملحق تناول فيه الأستاذ مكانة السنة وكل القضايا المتعلقة بها. إن المتنعم في طبيعة تقسيم الكتاب، سيلمس أن التقسيم في حد ذاته ينسجم إلى حد كلي مع المرامي العامة للرؤية الإصلاحية التي يريد الأستاذ الوصول إليها. فقد خُصِّص القسم الأول من الكتاب للحديث عن الأنبياء والرسل، وبُوِّب القسم إلى ثلاثة أبواب تناولت الغاية من إرسال الرسل وخصائصهم مع تخصيص مكانة صفات الأنبياء والرسل من صفات وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد فصَّل المؤلف الحديث في الباب الثالث عن خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال خمسة فصول هي الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة والعصمة، وما ينبغي لفت الانتباه إليه هو المرامي التي يهدف الأستاذ إليها، من خلال الوقوف على جملة الخصائص التي تُميز الرسل عن باقي البشر وتُميز محمدًا صلى الله عليه وسلم وهي الصدق ومكانه في الكتاب، والأستاذ هنا يريد الإلحاح على أن كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم صدق، ولذلك فإن الرسالة الضمنية من خلال إيراد كل ما يدل على صدق الرسل بصفة عامة وصدق محمد صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، هو ترسيخ حقيقة أن كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبلَّغه عن ربه هو صدق، وهي الحقيقة التي تفرض بالضرورة الاقتداء به وإتباع كل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. وإتباع هذا الفصل بفصل آخر عن الأمانة يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا. وأما تخصيص فصل آخر عن مهمة التبليغ التي كُلِّف بها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، فيدل على أن تبليغ الرسالة سيظل مستمرًا في الزمان والمكان، ولعل هذا هو ما يفسر إلحاح الأستاذ على التبليغ باعتباره الأساس الذي تنبني عليه فلسفة الإرشاد في الفكر والحياة. وأما الفصل الرابع فقد خصَّصه الأستاذ للحديث عن فطنته صلى الله عليه وسلم، موردًا الكثير من الأحداث التي تؤكد الإلحاح على الجوانب التي يتوجب الالتزام والاقتداء بها. وأما الفصل الخامس فيقوم بمهمة دعم الفصول السالفة من أجل الإلحاح على كون الرسل بصفة عامة ومحمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص معصومون من الخطأ، وذلك لبيان أن كل ما يرتبط بتصرفات الرسل وأقوالهم هي عبارة عن دروس تربوية وليست أمرا عبثيًا.
الهوامش
(1) فتح الله كولن، الوعي الجمعي، مجلة حراء، العدد 25، يوليو أغسطس، ص:2.
(2) المصدر نفسه، ص2.
(3) المصدر نفسه، ص2/3.
(4) المصدر نفسه، ص4.
(5) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(6) محمد عمارة، مقدمة كتاب النور الخالد، محمد مفخرة الإنسانية، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة-مصر، ط/5، 2009ـ 1430 هـ، ص10.
(7) فتح الله كولن، النور الخالد، مقدمة المؤلف، مرجع سابق، ص7.
(8) النور الخالد ومنهج في قراءة السيرة النبوية، عرض مقدَّم لندوة “رؤى معاصرة للإصلاح، ودورها في نهضة الأمة وتعزيز السلام العالمي.
(9) المصدر نفسه، ص7/8.
(10) النور الخالد، ص8.
(11) المصدر نفسه، ص8/9.
(12) المصدر نفسه، ص11/12.
(13) المصدر نفسه، ص14.
(14) النورسي، كليات رسائل النور، الكلمات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، ط3-2000 القاهرة، شركة سوزلر للنش، ص292.
(15) انظر توسُّعًا في هذه القضية، البحث الذي قدمه صاحب هذه الدراسة لأعمال المؤتمر العالمي التاسع لرسائل النور، العلم والإيمان والأخلاق، لأجل مستقبل أفضل للإنسانية، عنوان البحث: “الإتقان في تخليص إنسانية الإنسان” نظرات في الواصلات المنهجية بين العلم والإيمان والأخلاق في فكر بديع الزمان سعيد النورسي، ص675/694.
(16) فتح الله كولن، النور الخالد، مرجع سابق، ص 14/15.
(17) فتح الله كولن، “الأجيال المثالية”، كتاب: ونحن نقيم صرح الروح، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة-مصر، ط2/1426 هـ ـ 2006، ص109.
(18) المرجع السابق، ص109.
(19) “وارثو الأرض” المرجع نفسه، ص110.
(20) فتح الله كولن، مقال: “دنيا في رحم الولادة”، حراء ع 27/ نوفمبر ـ ديسمبر، سنة 2011.
(21) النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية، ج1/58.
Leave a Reply