الحركات الناشئة في المجتمعات المعقدة (الشبابية، والنسائية، والمدنية، والبيئية، والسلمية، والإثنية، والثقافية) جرى تفسيرها بطريقتين:
1- من خلال ارتباطها بأزمة اقتصادية ما.
2- أو نتيجةً لعيوبٍ تشوب نظام التشريع السياسي، أي الاستبعاد من المؤسسات والانضمام إلى عملية اتخاذ القرار.
كما تتم دراسة الحركات وفهمها بحسب حشدها وتوجهها ضد استبدادِ نظام ما، أو النضال من أجل تحقيق المساواة في الحقوق، أو السعي لدخول دوائر النظام والاعتراف السياسي بها، أو إحياء نعرات عرقية أو دينية من خلال عبارات الهوية أو سلوك يعتبره النظام الاجتماعي السائد غريبًا أو شاذًّا.
ومن يبررون أهلية النظام الاجتماعي يفسرون الحركات من منظور أيديولوجي –أي إنها نضال يستهدف تقويضَ أو إضعاف دعائم النظام نفسه- وقد يدفع ذلك إلى نشوء أزمةٍ في نسيج الحياة الاجتماعية اليومية، أو انحلال في القيم والمعايير، أو فقدان في الهوية، أو السلوكيات العنيفة الارتدادية، إلا أنه ليس بالضرورة أن يتولد عن جميع أشكال التهميش أو ردود الأفعال تجاه الأزمات أو جهود التكيف مع اختلال التوازن عملٌ جماعي أو حركة جماعية، فليست كل المطالب الجماعية تأخذ الشكل السياسي.
العمل الجماعي والصفة السياسية
إن التفسير السائد للعمل الجماعي والحركات السياسية يرتبط بشكل كبير بالفهم الخاص لتحرُّكِ وأيديولوجيا اليسار الأوروبي الجديد في فرنسا وألمانيا وإيطاليا بعد جيلِ عام 1968 وفي سبعينيات القرن العشرين.(1) فنتيجةً لانغلاق المؤسسات السياسية، وتطرفِ الحركات، وسيادةِ التنظيم الماركسي الطائفي في اليسار الجديد، والاتجاهِ المؤسف نحو الفكر الإرهابي، قام مفكرو اليسار –ومنظرو الحركات الاجتماعية كذلك– بالتبشير بالأيديولوجيات الثورية. وقد عملوا على تضخيم الفوضى الاجتماعية والسلوك التمزيقي بإضفاء الصفة الثورية عليه. وفي أغلب الأحيان بنوا فهمهم على تحليل اختزالي يميل إلى حجب بعض خصائص التحرك الجماعي.
تحذير كولن من الخلط بين الدين والسياسة الحزبية يفيد أن تسييس الدين يؤدي في النهاية إلى ضرر أكبر وأسرع بالدين منه بالدولة.
لقد تجاهل هؤلاء وجودَ عناصر غير سياسية في الحركات الناشئة. وبالنسبة لهم، ما لم يكن سياسيًَّا بشكل مباشر في طبيعته كان فلكلورًا وهروبًا خاصًّا، بحيث يمكن للتمثيل السياسي وحده منع المطالب الجماعية من التشرذم على ذلك النحو.(2)
هذا التعسف في “إضفاء الصفة السياسية” على المطالب الجماعية يمثل تفسيرًا اختزاليًا، من حيث إنه قلل من أهمية خصوصية الحركات الناشئة، كما أنه حوَّل جميع المطالب الجماعية في نطاقها إلى أشكال جامدة من التنظيم السياسي من النمط اللينيني.
الأشكال الحديثة للعمل الجماعي
هناك ظاهرة ملفتة للأنظار في الأشكال الحديثة للتحرك الجماعي، وهي أنها “تتجاهل بشكل كبير النظامَ السياسي، كما أنها تُبدي بشكل عام عدمَ اهتمام بفكرة الاستيلاء على السلطة”.(3) كما أن الحركات الاجتماعية الجديدة أقل انخراطًا في الصراع الاجتماعي والسياسي عما كان في السابق؛ لأن “التفاوض الجماعي، والتنافس الحزبي، وحكومة الحزب التمثيلي، كانت هي الآليات الحصرية تقريبًا لحلّ الصراع الاجتماعي والسياسي. وكان كل هذا مقبولاً بـ”ثقافة مدنية”، أكدت على قيم الحراك الاجتماعي والحياة الخاصة والاستهلاك والعقلية الذرائعية والسلطة والنظام، وهو ما قلل من أهمية المشاركة السياسية”.(4) أما الحركات الاجتماعية الجديدة فتتسم بأنها تنظيم منفتح ومرن، ومشاركة شاملة غير أيديولوجية، واهتمام أكبر بالتحولات الاجتماعية وليس الاقتصادية.(5)
الخدمة حركة اجتماعية
ومن الخصائص المميزة لحركة كولن، إقرار مؤيديها بالنظام السياسي، وامتثالهم له، وإظهارهم لعدم الانشغال بالوصول إلى السلطة أو السيطرة على أجهزة الدولة. وتأخذ الحركة أشكال العمل والتنظيم التي توصف بأنها مسؤولة وطيِّعة بالنسبة للمشاركة السياسية التي يمارسها النظام السياسي التركي دون أن تتماهى معه. ومن ثم، فإن الخدمة لا تتصرف مثل حركات المعارضة التي تضم أقلية، أو التي ترفض النظام في تركيا، أو التي تقاوم “عقلانية” القرارات والأهداف التي يضعها النظام التركي.
لقد أكَّدت الحجج التي تمَّ إيرادها على العديد من الاستفسارات والأسئلة المتباينة، أن حركة كولن حركة ثقافية أو اجتماعية، وليست حركة سياسية.ومن ثمَّ سيكون التركيز في هذه الدراسة منصبًّا حول الحركة باعتبارها تحرُّكًا جماعيًّا، وعلى تحرُّكها باعتباره مغايرًا لذلك الخاص بالحزب السياسي، إضافةً إلى تناول الآثار ذات الصلة على تركيا والديمقراطية والإسلام والحيل والذرائع والتطور أو التغيير في تركيا وتكامل تركيا مع المجتمع الدولي.
إن الأثر الرئيسي لحركة كولن هو أن الأحزاب السياسية عاجزة عن التعبير بشكلٍ كافٍ عن المطالب الجماعية، ويُعزَى ذلك إلى أن الأحزاب تؤسَّس لتمثِّلَ مصالح يُفترض أن تظلَّ ثابتة نسبيًا على قاعدة جغرافية واجتماعية وأيديولوجية مميزة.
كما أن على الحزب أن يضمن استمرارية المصالح التي يمثلُها. وعندما يواجَه الحزب بمهمة تمثِّل مجموعة من المصالح، قد لا يكون الهيكل التقليدي للحزب قادرًا على تعديل نفسه للتوافق معها. وبذلك يمكن للحزب بصعوبة بالغة التوفيقُ بين الأهدافِ القصيرةِ الأجل والأخرى الطويلة الأجل. وبالنسبة للأهداف والمكاسب قصيرة الأجل، قد تأتي أفعال الحزب بما يحقق مصالح غير ثابتة، وحزبية وهرمية. وعلى خلاف الأحزاب والهيئات السياسية، تبرهن مشاركة حركة كولن في المشروعات الاجتماعية وفي المجالات المحددة للحياة الاجتماعية، عدمَ وجود أي اهتمام بالتسلسل الهرمي أو المكاسب القصيرة الأجل.
كما أن حركة كولن تمثِّل فهمها من خلال منظمات الحركة الاجتماعية المؤسسية والرسمية. ولأن أغلبية هذه المؤسسات تعليمية، فهي لا تنحاز إلى أحزاب سياسية.(6) وبهذا فإن منظمات الحركة، كما يقول كولن نفسه، بدلاً من أن تظل بعيدة عن البعض، فإنها قريبة من الجميع بنفس القدر.(7)
مركزية الفرد في حركة الخدمة
إن التطبيقات العملية الاجتماعية لحركة كولن تركز على دور الفرد واحتياجاته.(8) كما أنها تؤكد على احتياجات الفرد للانعكاسية الذاتية (self-reflexivity) وإدراك الذات. ومن دون أن تضل الحركة طريقها فتتجهَ نحو أشكال من السلوك النرجسي أو البحث الفردي الأناني عن توكيد الذات والتعظيم المباشر لها، تقوم حركة كولن بإظهار تغيير عميق في وضع الفرد ومشكلاته. ومن خلال الجهود والخدمات الاجتماعية والثقافية للحركة، تعالج الحركة الأبعادَ الفردية للحياة الاجتماعية؛ وبالتالي فإنها من خلال إسهاماتها يمكنها أن تؤثر على المجتمع بأسره. ففضاء الحركة والمستوى الذي تنطلق منه الأشكال الجديدة للعمل الاجتماعي ليس فضاءً أو مستوى سياسيًا أو سلطويًا، ولا حكوميًا أو تابعًا للنظام.(9) وإنما تقوم الحركة بتعليم الأفراد وتأهيلهم اجتماعيًا دون إضفاء الطابع الشخصي أو السياسي على ما هو اجتماعي. كما تقر الحركة بعدم إمكانية خضوع الأفراد أو النظام للتغيير على جميع المستويات في نفس الوقت وبنفس الطريقة؛ فالتغيير يتطلب فترة زمنية طويلة وتضحيات ضخمة والتزامًا ومثابرة، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال التعليم والسلام والتعاون بين المواطنين ذوي الميول المشتركة وكذلك بين الحضارات المتقاربة.
تعمل حركة الخدمة من أجل تطوير مجتمع يخلو من مشكلات الجوع والفقر وعدم المساواة وقمع الحقوق المدنية.
ويذهب بارتون إلى القول: إن كولن يؤكد على أهمية الارتقاء الذاتي للقلب والعقل من خلال التعليم، والانخراط بشكلٍ استباقي وإيجابي مع معطيات العالم الحديث، والتواصل بالحوار وروح التعاون بين مختلف المجتمعات الدينية والطبقات الاجتماعية والأمم.(10) ويعلق ويللر على النقطة نفسِها قائلاً: “يركز كولن جهوده في إقامة الحوار بين الأيديولوجيات، والثقافات، والجماعات المختلفة في تركيا والعالم الأوسع. ورغم أن كولن وفكره متجذران في رؤية دينية قوية للعالم، فإن جهوده للحوار امتدت خارج الدوائر الدينية التقليدية”.(11)
ومِثْل بارتون وويللر، يُقر ميتشيل بمركزية الرؤية الدينية والثقافية للحركة بالنسبة لأنشطتها. وتعتمد فاعلية هذه الأنشطة على الانفتاح والقبول وكفاءة أشكال التمثيل المتاحة.(12) كما أن طبيعة الخدمات التي ينخرط بها أعضاء الحركة تجعلهم في منأى عن المعارك الحزبية اليومية التي لا طائل من ورائها، وخطاباتِ الأحزاب السياسية؛ فهؤلاء لا ينحرفون إلى المناوشات السياسية ولا يستنفذون طاقاتهم فيها.(13) وهذا يتعارض مع الفهم السائد للحركات الاجتماعية باعتبارها تميل دومًا إلى الخلاف والنـزاع.
مفهوم السلطة السياسية
من الملاحظ أن كولن وخصومه يستخدمون عبارة “السلطة السياسية” في تصريحاتهم. ومن المفيد هنا التوقف مؤقتًا لدراسة المقصود بهذه العبارة والأفكار المرتبطة بـ”المطالب السياسية” و”المشاركة السياسية”.
يفهم من مصطلح السلطة السياسية بشكلٍ عام أنه يشير إلى قدرة مجموعات معينة على ممارسة سيطرة معززة بامتيازات على عمليات اتخاذ القرار، واتخاذ قرارات معيارية باسم المجتمع ككل، وفرْض تلك القرارات، حسبما يقتضي الحال، بالوسائل الإكراهية. وفي ترتيب للعمومية المتزايدة، يمكن تصنيف “المطالب السياسية” إلى ثلاث فئات:
1- مطالب تتعلق بتنظيم العلاقات بين مجموعات معينة داخل المجتمع.
2- مَطالب بتعديلِ أو تهيئةِ قواعد النظام السياسي لتوسيعِ أو تقييد الانضمام إليه.
3- مطالب تتعلق بإصلاحِ أو تهيئة وضع الإنتاج والتوزيع للموارد الاجتماعية.
كما أن المشاركة السياسية هي أيضًا الدفاع عن مصالح معينة في محاولة لتغيير علاقات السلطة داخل النظام السياسي للحصول على تأثير على القرارات(14).
كولن وإنتاج المعرفة
يرى كولن أن المشكلة الأساسية في العالم هي الافتقاد إلى المعرفة، والتي تتضمن مشكلات أخرى تتعلق بالإنتاج والسيطرة على المعرفة.(15) فلا سبيل إلى إنتاج المعرفة وصونها، ونشرها إلا من خلال التعليم وليس من خلال السياسة الحزبية. فالتعليم هو المفتاح لكي يصبح الفرد أفضل ومنتجًا ومفيدًا، سواءٌ كان مسلمًا أم لا.(16) ويعتقد كولن أن العلوم الطبيعية والإنسانيات والدين تحث على أن يكمل بعضنا بعضًا بدلاً من التنافس والتصادم.(17)
وترى أسماء أفسارودين (Asma Afsaruddin) أن فعاليةَ المدارس المتأثرة بأفكار كولن وانتشارها داخل تركيا وخارجها تمثل دليلاً قويًا على نجاح فلسفته التعليمية والتي تحث على الاستنارة الذاتية وتؤكد في الوقت نفسه أهمية غرس القيم الأخلاقية والتدريب السليم في العلوم الدنيوية المادية.(18)
هدف كولن الرئيس
يرى شريف علي تَكَالان أن الهدف الرئيس للتعليم في المدارس المتأثرة بأفكار كولن هو ضمان احترامِ قيم موضوعية وإنسانية عالمية، فليس للحركة أية دوافع خفية أو مستترة في السعي لتحقيق مميزات مادية أو فرض أية أيديولوجيات أو الاستيلاء على السلطة من خلال السياسة في الدول التي لدى الحركة فيها منظمات اجتماعية. ويضيف تكالان أنه على مدار أربعين عامًا منذ نشأة الحركة، لم تشهد أي دولة أي عمل مخالف لهذه المبادئ على الإطلاق. ويؤكد أن الحركة لم تهدف قط إلى الاستيلاء على السلطة عبر القنوات الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية سواءٌ داخل تركيا أو خارجها؛ بل كان هدفها يتمحور حول خدمة الإنسانية من دون انتظار أي عائد أو مكسب لتلك الخدمة. ويشير تكالان إلى ما قاله كولن في عام 2002 في صحيفة زمان التركية، عندما كتب يقول: “إنني أنأى بنفسي اليوم، كما كان دأبي في الماضي، وأبعد كل البعد عن الانضمام إلى أيٍ من الأحزاب السياسية. حتى لو قُدمت لي السلطة كهدية، ليس فقط في تركيا، ولكن في العالم كله، فسأرفضها دومًا وأصمم على رفضها بإباء”.(19)
إن حركة كولن تبحث عن إجابات للأسئلة التي تواجه جميع من يعيش في المجتمعات العصرية المعقدة، وهي أسئلة تتعلق بكيفية الارتقاء بالصفات الإنسانية، والسلوكيات الحميدة، وحب الغير، والحماس لتحسين الذات، والرغبة النشطة في خدمة الغير، وإحداث فارق في العالم، والمثابرة على هذه الرغبة في مواجهة الانتكاسات أو الإخفاقات(20). ومن ثم، فالحركة لا تقوم بدور شمولي باعتبارها وسيطا للمطالب؛ حيث تدعو الحركة المجتمعَ وتتيح له أن يصبح مسؤولاً عن تحركاته في إطار الحدود القانونية. كما تساعد الحركة على إنشاء فضاءات عامة مشتركة يمكن التوصل فيها إلى اتفاق للمشاركة في المسؤولية عن المجال الاجتماعي، بما يتجاوز المصالح أو المواقف الحزبية. وهذا بدوره يؤدي إلى توليد طاقات إبداعية، وإبقاء النظام منفتحًا، وإيجاد روح الابتكار، وإنشاء منظمات جديدة للحركة الاجتماعية، وتطوير النخب، ومناقشة القضايا التي كانت مستبعدة من اتخاذ قرار بشأنها، وإلقاء الضوء على الجوانب التي تنطوي على مشكلات وتعقيدات في النظام. ولا شك أن حركةً بهذه الصفات لا غنى عنها من أجل مجتمع ديمقراطي ومنفتح.
حركة كولن تمثِّل فهمها من خلال منظمات الحركة الاجتماعية المؤسسية المدنية، ولأن أغلبية هذه المؤسسات تعليمية، فهي لا تنحاز إلى أحزاب سياسية. وبهذا فهي قريبة من الجميع بنفس القدر.
ومن الأهداف التي يسعى إليها كولن، إعادة تعريف الأهداف الاجتماعية والثقافية، وخلف هذه الكلمات يمكننا أن نجد العديد من المعاني المتجانسة مع الطبيعة الفعلية التي تشكل الإنسان المتحضر. ويعبر ميتشيل عن ذلك أبلغ تعبير بقوله:(21)
“يعتقد كولن أن الهدف الحقيقي للأمم يجب أن يتمثل في الحضارة وإحياءِ الأفراد والمجتمع من حيث السلوك والتفكير الأخلاقي”(22).
كولن والإسلام السياسي
ينتقد كولن “استخدام الدين كأداة في السياسة”، كما عارض طويلاً المشاركة المباشرة في السياسة الحزبية لأن العالم الحديث قائم على “التجربة التعددية وليس على تجانس مفترض للحقيقة”. كما يعارض كولن هؤلاء الذين خلقوا “صورة سلبية للإسلام باختزاله إلى أيديولوجية”(23).
كما أن تحذير كولن من الخلط بين الدين والسياسة الحزبية يفيد أن تسييس الدين يؤدي في النهاية إلى ضرر أكبر وأسرع بالدين منه بالدولة. وحول ذلك يقول كولن: “الدين هو العلاقة بين الخلق وخالقهم. ومشاعر الدين إنما هي في أعماق القلب. فإذا حولتم هذه المشاعر إلى مجموعة من الأشكال والقوالب المختلفة، فإنكم بذلك تقتلونها. إن تسييس الدين سيعود بالضرر على الدين قبل أن يضر بالحكومة”(24). ويقول في موضع آخر: “ينصب تركيز الدين في المقام الأول على الجوانب الثابتة في الحياة والوجود، في حين أن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو الأيديولوجيات لا تهتم سوى بالجوانب الاجتماعية المتغيرة في حياتنا الدنيوية”(25).
كما أن تسييس الدين دائمًا ما يكون محاولة اختزالية؛ حيث يحوِّل العلاقة الخفية بين البشرية وخالقها إلى أيديولوجية. وهذا لا يعني زرع مشاعر اللامبالاة وعدم الاهتمام بما يجري على الساحة العامة، فضلا عن أنه يعني تجاهل المظالم السياسية أو الاقتصادية.
إن كولن لا ينادي بأن يتوقف المتدينون عن الاهتمام بالسياسة، لأن ذلك سيمثل انسحابًا من مسؤولياتِ والتزامات المواطنة والمشاركة الاجتماعية. لكن النقطة هنا هي أن الخلط بين الانخراط السياسي والنشاط من جانب والحزبية والولاء الحزبي من جانب آخر يؤكد على الحاجة إلى أن يكون للدين رأي معلَن فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي تؤثر على كرامة البشرية وسعادتها، والحفاظ على البيئة، والعدالة الاجتماعية والسلام، وذلك في إطار ضيق للغاية من جماعات السلطة المتنافسة التي تفتِّت المجتمعات بدلاً من أن تجمعها وتبنيها. فالمتدينون الحقيقيون الذين يشاركون بمسؤوليةٍ في بلادهم ليسوا هؤلاء المصوتين دائما لصالح قضية واحدة، أو الذين يكون ولاءهم لحزبٍ واحد”(26).
إلى هنا ويفند كولن في تصريحاته وكتاباته مزاعم المطالبين بالإصلاح السياسي الإسلامي قائلاً: “إن الإسلام لا ينادي بشكل معين وثابت للحكومة أو يحاول تشكيلها، لكنه وضع مبادئ أساسية توجه الشخصية العامة للحكومة، تاركًا للشعب اختيار نوع الحكومة وشكلها بما يتفق مع الزمن والأحوال”(27). كما يرفض كولن الخصائص الأيديولوجية الشمولية للفكر السياسي الإسلامي والتحرك المتشدد،(28) باعتباره غريبا على روح الإسلام الذي ينادي بسيادة القانون وينبذ ويدين بشكل صريح كل أشكال القمع لأي طائفة من طوائف المجتمع. ويرى كولن أن الإسلام ينادي بالفاعلية التي تفضي إلى تحسين المجتمع بما يتفق مع رأي الأغلبية، وهو ما يكمل الديمقراطية بدلاً من أن يعارضها(29). يقول كولن:
“هذا التقديم للإسلام قد يلعب دورًا مهمًا في العالم الإسلامي من خلال إثراء الصور المحلية للديمقراطية ونشرها على نحو يساعد الأفراد على فهم العلاقة بين العالمَين الروحي والمادي. وأعتقد أن الإسلام أيضا سيثري الديمقراطية من خلال تلبية الاحتياجات العميقة للبشر، مثل الإشباع الروحي، والذي لا سبيل إليه إلا من خلال ذكر الله الحي القيوم”(30).
ويؤكد ديل إيكلمان (Dale Eickelman) أن هذه القراءة لمسؤولية المسلمين نحو الإسلام، ليست بالطبع خاصة بكولن وحده، حيث يقول إيكلمان: “يرى مفكرون وقادة دينيون من أمثال كولن في تركيا أن الديمقراطية والإسلام متوافقان تمامًا، وأن الإسلام لم يفرض شكلاً معينًا للحكم، وبالطبع لم يفرض الحكم التعسفي، وأن الرسالة المحورية في القرآن هي أن المسلمين يجب أن يتحملوا المسؤولية عن مجتمعهم”(31).
ويوضح بارتون أن رفض كولن للإسلام السياسي لا يعزى إلى اعتبارات إستراتيجية فحسب أو حتى إلى تفضيل شخصي، بل يستند رفضه إلى القول: إن ادعاءات مناصري الإسلام السياسي بأنهم وجدوا التوجيه السياسي في النصوص المقدسة، إنما يمثل سوء فهم كبيرًا لطبيعة القرآن على نحوٍ يشوه بشكل خطير طريقة فهم المؤمن له وتعامله معه(32). وحول ذلك يقول كولن:
“يجب ألا يتم اختزال هذا الكتاب (القرآن) في مستوى التنظير السياسي، كما يجب ألا يُعتبر كتابًا عن النظريات السياسية أو أشكال الدولة. إن النظر إلى القرآن الكريم باعتباره أداةً للخطاب السياسي يمثل تقليلاً كبيرًا من قدر هذا الكتاب المقدس، كما أن ذلك يمثل حجر عثرة أمام من يسعى إلى الإفادة منه كمصدر للنعم الإلهية”(33).
كولن والديمقراطية
وبدلاً من أن يترك تركيا لتظل مجتمعًا منغلقًا، ساند كولن المبادراتِ التي تهدف إلى بناء مجتمع ديمقراطي تعددي وحر(34). ولطالما كان كولن مساندًا للمؤسسات الديمقراطية والانتخابات الحرة وغيرها من المبادئ التي تمثل جوهر الحياة الديمقراطية. ويرى كولن أن القرآن يخاطب المجتمع بأسره ويكلُّفه تقريبًا بجميع المهام الموكلة إلى النظم الديمقراطية الحديثة، كما أنه يرى أن القرآن يحث الأفراد على التعاون والتشارك في أداء تلك المهام وإقامة الأسس اللازمة لتنفيذها، ويؤكد على أن الحكومة تتألف من جميع هذه العناصر الأساسية(35). وحول ذلك يقول كولن:
يركز كولن جهوده في إقامة الحوار بين الأيديولوجيات والثقافات والجماعات المختلفة. ورغم أن كولن وفكره متجذران في رؤية دينية قوية للعالم، فإن جهوده للحوار امتدت خارج الدوائر الدينية التقليدية.
“الإسلام يوصي بإنشاء حكومة قائمة على عقد اجتماعي؛ بحيث يقوم الناس بانتخاب المسؤولين، وتأسيس مجلس لمناقشة القضايا العامة. وبالإضافة إلى ذلك فإن المجتمع ككل يشارك في محاسبة هذه الإدارة”(36).
كما يؤكد لينويد سايكيانين (Leonid Sykiainen) وإيكلمان(37) أن كولن يؤيد الديمقراطية ويدعم المؤسسات الديمقراطية، لأنها السبيل لبناء مجتمع تصان فيه حقوق الفرد وتكفل له حمايتها. كما يوضح كولن بشكل دقيق موقفه بأن بعضًا من أشكال الديمقراطية أفضل من غيرها، كما أنه متفائل على نحوٍ حذر بشأن تطور الديمقراطية. يقول كولن:
“شهدَت الديمقراطيةُ تطورًا على مدار الزمن. وكما مرت بالعديد من المراحل المختلفة، فإنها ستستمر في التطور والتحسن في المستقبل. وخلال مسيرتها، ستتحول الديمقراطية إلى نظام أكثر مراعاةً للإنسانية والعدالة، ديمقراطية ترتكز على الاستقامة والصدق. فإذا نظرنا إلى البشر ككل، من دون إغفال البعد الروحي في وجودهم وحاجاتهم الروحية، ومن دون أن ننسى أن حياة البشر ليست مقصورة على هذه الحياة الفانية، وأن الجميع تواقون إلى الخلود في حياة الآخرة، فيمكن للديمقراطية حينها أن تصل إلى ذروة الكمال، وأن تجلب للبشرية المزيد من السعادة. ويمكن لمبادئ الإسلام مثل المساواة والتسامح والعدالة أن تساعد في تحقيق ذلك تمامًا.(38)
كما أنه لا سبيل إلى تحقيق أهداف التصنيع والتنمية الاقتصادية إلى جانب المشاركة المستقلة في النظام العالمي إلا من خلال التحول الديمقراطي في تركيا. كما يولي كولن أهمية مماثلة للديمقراطية والتنمية اللتين يراهما عنصرين مرتبطين بحيث يتوقف أحدهما على الآخر، وإن كانت الديمقراطية تسبق التنمية(39). ويعمل كولن من أجل تطوير مجتمع يخلو من مشكلات الجوع والفقر وعدم المساواة وقمع الحقوق المدنية.
كما ترى حركة كولن أن احتياجات الفرد والثقافة والمجتمع لها الأولوية عن السياسة(40). ويجب ألا يتم الخلط بين ذلك بأية حالٍ من الأحوال وبين التيار الثقافي البسيط الذي قد يتجاهل الحقوق والضمانات التي أقرتها المؤسسات السياسية. ومن ثم، فإن الأمر إنما هو إعادة تعريف وإعادة تشكيل لما هي عليه الديمقراطية، وما يمكن أن تكون وما يجب أن تكون عليه. وكولن لا يطلب من الأفراد أن يظلوا متلقِّين سلبيين، بحيث يتقبَّلون كل ما يتلقّونه من الخارج؛ بل ينصحهم بأن يسعوا بشكل نشط إلى التوصّل إلى الإمكانيات والبدائل التي تمكّنهم من بناء أنفسهم. لذا يجب أن تكون الوسائل والغايات غير تصارعية وغير عنيفة وغير إكراهية؛ أي يجب أن تعتمد على حب البشر والخلق استنادًا إلى فهم وعلم من خلال التعليم والتواصل والتعاون والسلام والحرية(41).
وسبيل تمكين الأفراد من تحقيق استغلالٍ أفضلَ لمواردهم، ومن التخلُّص من جميع أشكال عدم المساواة المادية وغيرها، وأن يصبحوا أفرادًا انعكاسيين ومفيدين لغيرهم، يكون من خلال مَنح أولويةٍ للعلم والتعليم وليس للسياسة الحزبية أو الشراكة الحزبية. ويرى كولن أن البشرية تحتاج من أجل مستقبلٍ أفضل إلى أفرادٍ يتحلون بمزيدٍ من التسامح والإيثار، أفرادٍ بقلوب رحبة وعقول متفتحة تحترم حرية الفكر، ومنفتحة على العلم والبحث العلمي، وتسعى إلى التوفيق بين نواميس الكون والحياة(42).
واستنادًا إلى العديد من تعليقات كولن التي توضّح تأييده لسياسة الديمقراطية الحديثة ومعارضته لقراءات مناصري الإسلام السياسي لنصوص القرآن والسنة، ينتهي بارتون إلى القول إن كولن ليس من المؤيدين بشكل علني أو مستتر للإسلام السياسي، لكن بارتون يشير رغم ذلك، إلى أن من يعارض كولن يُصر على أنه يتظاهر بأنه يرفض أيديولوجية الإسلام السياسي، وهي وسيلة من وسائل بعض مناصري الإسلام السياسي والنشطاء الذين يخفون معتقداتهم، وباسم التقية السياسية يتغاضون عن استخدام الحيل والمكائد(43). لكن هذا ليس نهج كولن على الإطلاق؛ فقد أوضح كولن تمامًا وأعلن في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، أنه وجميع المسلمين الأتراك -مثل جميع أهل السنّة-ليسوا ممن يستترون ويتخذون من الذرائع والمكائد نهجًا لهم في الدين والممارسة، كما لا يغضون الطرف عنها(44)(45).
ويوضح بارتون أيضا أن لديه من المبررات الجيدة ما يمكن أن يسوِّقه للتأكيد على ثقته في أن كولن ليس ممن يؤيدون الإسلام السياسي بشكل سري، وأنه يرفض إبستومولوجيا الإسلام السياسي(46). ففي صراع الأفكار والتنافس على القلوب والعقول قبلَ وبعدَ أحداث 11 سبتمبر/أيلول، قَدَّم كولن بشكل واضح نموذجًا وقدوة فكرية وأخلاقية، وأدان جميع أنواع أعمال الإرهاب بأوضح التصريحات العلنية وأكثرها شجاعة، كما تناول بشرح شامل القضايا ذات الصلة بالحادث. وأكد كولن أن المبادئ الأساسية للدين تُعارض تمامًا التفسيرات الأيديولوجية-السياسية التي تشكل أساسًا للأعمال الإرهابية وتحث عليها، وشدد أيضًا على ضرورة تعليم هذه المبادئ الأساسية للمسلمين وغيرهم من خلال نظم التعليم. وأكد كولن كذلك على دور ومسؤولية التنفيذيين والمثقفين والعلماء وقادة المجتمع في التعريف بأسباب ودوافع الأنشطة والأعمال الإرهابية. وأكد أيضًا على أن هناك العديد من المنظمات متعددة الجنسيات، التي حشدت جهودها بشكل علني أو مستتر لتدمير المجتمع وزرع الخوف في أركانه(47).
الخدمة لم تهدف قط إلى السلطة عبر القنوات الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية داخليًّا أو خارجيًّا؛ بل كان هدفها يتمحور حول خدمة الإنسانية من دون انتظار أي عائد أو مكسب لتلك الخدمة.
لذا يرى كولن أن الدين يتسامى فوق السياسة؛ حيث يراه مصدرًا للأخلاق والقيم الخلقية، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة المسؤولة ولا تتعارض معها. ولا يريد كولن أن يصبح الدين أداة في يد السياسة؛ لأنه عندما تفشل السياسة وتنحرف فقد يُلقي الناس باللائمة على الدين. ولا يريد كولن كذلك أن يتلطخ الدين بالمطامح السياسية أو أن تؤدي احتمالاتُ فساد تلك المطامح إلى إنزال الدين إلى مرتبة أقل(48).
ويؤكد كولن أن دور الأخلاق الفردية محوري من هذه الزاوية لبناء”نظام سياسي عادل” وتعزيزه وتقويته والإبقاء عليه(49). وعلى المنوال نفسه يؤيد كولن إقامة تركيا لعلاقات مع الغرب -على أساس أن المجتمع التركي بإمكانه أن يكسب الكثير من الإنجازات المعرفية والعقلية التي وصل إليها الغرب- في حين عارضت العديد من الدوائر الدينية والنخبة العلمانية المسيطِرة ذلك التقاربَ بين تركيا والغرب. وقد كان كولن من بين أول وأقوى المؤيدين للعضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي.
وبالإضافة إلى هذا فقد سلط كولن الضوء على الحاجة إلى السلام والتسامح والحوار مع الأقليات الدينية-الإثنية داخل المجتمع التركي، وبين الأمم باعتبار تلك القيم تمثل جزءًا لا يتجزأ من الإسلام والهوية الإسلامية التركية(50).
كولن واحترام مؤسسات الدولة
يطلب كولن من الأفراد توخِّي الحذر كي لا يُحدثوا تآكلاً في القيم الحقيقية التي ترمز لها الدولة أو مؤسساتها بشكل مثالي. حيث عارض كولن طويلاً هؤلاء المطالبين بالفوضى والتوتر الاجتماعي والعنف في تركيا أو في أي مكانٍ آخر بالعالم. كما يذهب كولن إلى القول إنه أثناء تعامل الأفراد مع السياسيين الفاسدين والسياساتِ الحزبية الملتويةَ والفسادِ، عليهم أن ينتبهوا بشكل أكبر كي لا يضيعوا وبشكل علني القيمَ الحقيقية والسلطة والاحترام لمؤسسات الدولة(51). كما يؤمن كولن بأن الحركات والأعمال الفوضوية تقوِّض أجواء السلام والتبادل الحر للآراء وسيادة القانون والعدالة.
إن التغيير أمر يمكن تحقيقه من خلال ترسيخ قيم الإنصاف وتكافؤ الفرص والحرية والعدالة، الأمر الذي تتحول معه الاحتياجات إلى حقوق دون أي تغيير عنيف أو مفاجئ في المشهد السياسي. فإذا توفرت للناس فرصة الوصول إلى الحرية الثقافية وفرص التعليم المناسب، فسيسهم ذلك في الارتقاء بفكرهم فلا يقعون ضحية لمخططاتِ أصحاب المصالح أو النخب المتميزة والتي تستغل الخطاب العام لإبقاء سيطرتها القائمة على اللغة والرموز وللتغطية على تفاقم المظالم وعدم المساواة. إن المجتمع الذي يتكون من أفراد حصلوا على تعليم مناسب، وتأهيلٍ وتدريب مهني جيد، والذين يكونون على دراية بمتطلباتهم وقيمهم وحقوقهم، لن ينزلقوا أبدًا إلى براثن الفولكلور المجرد أو الهروب أو الإرهاب الناتج عن الإحباط. وحول ذلك يقول كولن: “لقد قلت دومًا إن “أسوأ دولة أفضل من لا دولة”. وعندما أصرِّح برأيي في كلماتٍ من قبيلِ: “الدولة ضرورية، ويجب ألا تُقوَّض”، فإنني لا أكون بذلك قد قدَّستُ الدولة، كما فعل البعض. فهذا التفضيل ضرورة بالنسبة لي؛ لأنه لو لم تشغل الدولة مكانًا معينًا، لحلَّت محلها الفوضى والتخبُّط والاضطراب. ومن ثم لا يكون ثمَّة احترام على الإطلاق للأفكار أو حرية الأديان، كما تُنتهك عندئذ ضمائرنا، ولا تكون هناك فرصة لإقامة العدل. وفي الماضي مرت أمتنا بأوقات عانت فيه من غياب الدولة، ومن ثم فإنني أعتبر أن دعم الدولة أحد واجبات المواطنة”(52).
كولن والنُّخَب السياسية
“رغم أن كولن ليس من الساسة، فإنه يشكل الوعي الذي يحدد مستقبل الديمقراطية التركية”(53). لكن دعوته إلى الديمقراطية والحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان وسيادة القانون باعتبارها الأساس الرئيس والركن الركين لتنظيم علاقة المجتمع بالدولة، تواجه رمزيًا دور أصحاب الامتيازات والمصالح الخاصة من النخبة الحمائية(54) في تركيا(55). وقد أحدث كولن نقلة مهمة فيما يتعلق بالمجتمع المدني والثقافة بدلاً من سياسة الأحزاب، باعتبارها نقاط مرجعية جديدة في عقلية الشعب التركي وتوجهاته.
ورغم أن كولن قد أعلن صراحة أنه ليست لديه أيَّة أجندة سياسية وأنه يعارض الاستغلال الذرائعي للدين في السياسة وأن تأكيده إنما ينصبُّ على الفرد وما إلى ذلك، فما زالت النخبة الحمائية بطريقتها المعهودة، تتهمه وتتهم الحركة بأنهما يمثلان “تهديدًا للدولة”(56). ويرد بارتون على هذا بقوله: إن “كولن ليس متعصِّبًا، وهذا واضح للعيان، فهو شخص معتدل تمامًا في كل ما يقول ويفعل”. ويعلق بارتون على سبب نظرة العلمانيين المتشددين الذين يرون أنفسهم أوصياء على النظام تجاه كولن والحركة باعتبارهما حركة معارضة وقوة سياسية فيقول:
“يرى منتقدو كولن الذين يبدو أن أغلبهم غير مطلع على كتاباته وأفكاره أنه ينادي بنوع مختلف من الإسلام عن ذلك الذي تقره الدولة.وهذا التوجُّس يعتمد في الغالب على فهم خاطئ؛ فكولن في الحقيقة، لا ينادي بنوعٍ مختلف من الإسلام، بل بإسلامٍ يهتم بشكلٍ أكبر وأعمق بحياة البشر، ويحولهم ليس إلى مجرد مؤمنين أفضل، بل إلى مواطنين أفضل”(57).
إن آراء البعض -مثل كولن- المؤيدةَ لنشر دعائم الديمقراطية والحقوق الأساسية للإنسان، تتعرض للقمع لأنها تُعد تهديدًا للمصالح الحمائية في المجتمع، وبالتالي فهي تواجه الاستبعاد وتتخوف منها النخبة الحمائية، لأنها ترى أن هذه التصورات والمطالب قد تؤدي إلى تغيير توازن النظام السياسي، وتتسبب في توسيع نطاق معايير الاختيار لدى الجماهير.
كولن وتجديد الفكر الديني
يتحدث كولن في خطبه ومحاضراته، لغة جديدة باصطلاحات وعبارات خاصة به، فهو يعتمد على الموروث الذي خلَّفه من سبقوه، مؤصّلاً براهينه في ذاكرة الماضي. ثم ينحو كولن بعد ذلك نحو الاتجاهات الإنسانية والبراهين التي يستمدها من خلال الاستنارة الروحية والفكرية للمصادر التقليدية السائدة، ويفسرها وفقًا للاحتياجات الحالية والمتوقعة مستقبلاً. ولا يتبنى كولن لغة الصراعات السابقة؛ لأنه قادر على أن يحدد هويته الخاصة، كما أنه لا يعمد إلى استخدام الرموز، أو الخبرة التنظيمية وأشكال العمل الخاصة بالحركات التي سبقت حركته، بل يبني فهمه على تقليد يُمْكن له من خلاله توصيلُ معانٍ جديدة. إن حركة كولن تُحوِّل نفسها إلى مؤسسات جديدة تتحدث بلغة جديدة ويعمل بها أفراد جدد. كما أن المعاني ودوافع السلوك الذي تحاول الحركة صياغتَه، والعملياتِ الداخلية لتشكيل الاتجاهات ليست مادية وسياسية محضة. وفي مقابل فرض أنماط الحياة التي لم تعد تقدم للأفراد الأسسَ الثقافية لتحديد ذواتهم، تتعامل الحركة مع الاحتياجات البشرية على المستوى الثقافي والروحي. كما أنها تسلط الضوء على الطاقات الجماعية بحيث يمكن التعامل بشكل ناجع مع المعضلات المتأصلة والخيارات بالغة الأهمية. كما تؤكد الحركة أنه لا يمكن توعية الفرد والاعتناء به وتعلميه، إلا في البيئة الصحية وفي ظل مؤسسات موثوقة(58).
يؤمن كولن بأن الحركات والأعمال الفوضوية تقوِّض أجواء السلام والتبادل الحر للآراء، وسيادة القانون والعدالة.
لقد أصبحت أفكار كولن وحركته عاملَ تحوُّلٍ كبير في تركيا، حيث قدَّم للناس فهمًا جديدًا للدين والعلم والخدمات الجماعية والاجتماعية والأنشطة الإيثارية والتعليمية. لقد أدرك كولن أن تطوُّر السياسة والمؤسسات السياسية كان يتباطأ خلف التغيير الاجتماعي والثقافي. ومن ثم فقد أحيا التقاليدَ الإنسانية المحبة للخير، وقيمَ الإيثار والإحسان لدى مواطني تركيا، وحثهم على أن يتخذوا من أعمالهم وخدماتهم الخيرية وسيلة لرأب الصدع وتضييق الفجوة التي خلفتها سياسات الحكومة وتمييز النخبة الحمائية(59).
إن النماذج الاجتماعية الجديدة تَظْهر عندما يجري الاعتراف والترحيب على شكل واسع بمفاهيم جديدة، وعندما يسارع الأفراد إلى وضع إطارٍ مؤسَّسي لمتطلباتهم الاجتماعية ومشروعاتهم الثقافية. وتلك النماذج التي أبرزتها حركة كولن ثقافية الطابع وليست سياسية، فهي تُغيِّر أُطر التفكير والعلاقات. وما زالت هذه النماذج باقية لأنها تأخذ شكلاً مشروعًا من الناحية السياسية والمؤسسية. وقد كان المجتمع التركي يفتقد إلى التحول الكبير في الاتجاهات، وإضفاء إطار مؤسسي فعَّال على الاحتياجات والمبادرات العامة، والخدمات الخيرية الجماعية أو المنظمة في مجال التعليم، والحلول الناجعة البسيطة للشقاق الاجتماعي، وهي الأمور التي حققها المشاركون في الحركة، في حين لم تسع إليها البيروقراطية السياسية الحمائية قط.
وتحمِل المشروعات الاجتماعية لحركة كولن معانيَ مختلفةً لأفراد مختلفين في تركيا. ويعتبر مؤيدو الحركة أنها تعترف بانتمائها للنظام وأنها تُعرِّف نفسها بالمصلحة العامة للمجتمع التركي، وأنها تتصرف بشكل قانوني وملائم في حدود القواعد القانونية والمعايير الاجتماعية للبلاد، سعيًا لتحقيق الأهداف الجماعية المشتركة، غير أن المعارضين للحركة يرون أن مشاركة الحركة وإسهامها ليست سوى مزاعم غير معلنة لمصالح تنافسية معينة، ومحاولة لممارسة تأثير على توزيع السلطة لصالح “الغير” في المجتمع التركي، وهي مزاعم تم التأكيد عليها رغم حقيقة أن الخدمات الثقافية والإيثارية الجماعية تختلف في طبيعتها عن المشاركة السياسية أو الخلافات ذات الطابع السياسي(60). وهذا يكشف بدوره ليس فقط حقيقةَ أن استجابة النظام السياسي في تركيا قد تختلف بشكل ملحوظ طبقًا للحالات المختلفة، لكنها تختلف أيضا عن الحالات التي تمتْ دراستها في أوروبا الغربية أو أمريكا الشمالية.
نتيجتان لما سبق
من هذه الملاحظة نتوصل إلى نتيجتين: الأولى هي الإقرار بأن حركات مثل حركة كولن تقدم حوافز لتحديث النظام السياسي وتعزيز المجتمع المدني والديمقراطية التعددية، وبالنسبة لتركيا فإنها تنبه الشعب إلى الحاجة الملحة للإصلاح المؤسسي. والنتيجة الثانية هي أننا نستطيع الاعتراف بأن الأطر النظرية السائدة غير كافية (بل حتى متحيزة بشكلٍ ما) كمداخل للتعامل مع الجمعيات الدينية، لاسيما فيما يتعلق بالتيار السائد من المسلمين والإسلام الثقافي. ومن ثم فإن تقييد التحليل على أبعاد سياسية تمامًا للظواهر الملاحظة (مثل الصدام مع السلطة) يمثل استسلامًا للاختزالية. وهذه الاختزالية تتجاهل الأبعاد الاجتماعية -تحديدًا- للتحرك الجماعي، وتركز حصريا على الخصائص التي يمكن قياسها بشكل أسرع، والتي تجذب اهتمام وسائل الإعلام بسبب بروزها.
“إن طريقة عمل الحركات الاجتماعية المعاصرة تتمثل في تشكيل معان جديدة للتحرك الاجتماعي، كما تُعد محركًا حيويًا للابتكار. أما البعد السياسي فغالبًا لا يمثل أكثر من بقايا”(61).
الهوامش
(1) ميلوتشي، 1999: 98 – 100-، وويليامز، 2004: 92 – 93.
(2) ميلوتشي، 1999: 98 و102.
(3) عوفي، 1985: 24.
(4) ديلا بورتا ودياني، 1999: 12.
(5) مايكل، 2006: 107؛ أونال وويليامز، 2000: 277 – 278؛ يلمز، 2005: 397.
(6) أونال وويليامز، 2000: 277 – 278؛ وأيضًا
http://en.fgulen. com/content/view/970/14/.
(7) أصلاندوغان وجَتين، 2006: 38؛ هيندريك، 2006: 26؛ سايكيانين، 2006: 113، 116، مايكل، 2005ب: 351.
(8) جَتين، 2005: 39.
(9) بارتون، 2005: 1.
(10) ويلر، 2005ب: 2 – 3.
(11) للمزيد انظر أصلاندوغان وجَتين، 2006: 53 وجَتين، 2005: 36 – 37.
(12) مايكل، 2006: 107؛ تكالان، 2005: 3.
(13) كولن، 2005أ: 145.
(14) ميلوتشي، 1999: 233 – 234.
(15) استشهادات كولن عند ميتشل، 2005ب: 356؛ كولن لدى أونال وويليامز، 2000: 86؛ سيتن، 2005:5.
(16) كولن مستشهد به لدى أونال وويليامز، 2000: 80.
(17) للمزيد انظر أصلاندوغان وجَتين، 2006.
(18) أفسارودين، 2005: 22.
(19) تكالان، 2005: 3.
(20) ميتشل، 2005ب: 354.
(21) ميتشل، 2005أ: 51.
(22) انظر أيضًا كيرتز (2005: 283)، والذي يسجل هذه الملاحظة المتفائلة، فيقول: إن كولن “ينشر إسلاما كليا من خلال نمط حياته المسالم، وإدانة الإرهاب والعنف، وحشده لحركة تسعى للتغيير الاجتماعي والروحي في العالم. […] وربما تكون إبداعاته في التعامل مع التناقضات الثقافية مصدر إلهام لآخرين لمساعدتنا في إيجاد حلول لمعضلاتنا العالمية”.
(23) فول، 2005: 245؛ يلمز، 2005: 397؛ أشتون، 2005: 3 – 4؛ زيبك، 1997؛ أونال وويليامز، 2000: 36.
(24) زيبك، 1997؛ أونال وويليامز، 2000: 36.
(25) كولن، 2001أ: 138؛ المصدر السابق، 2004أ: 219.
(26) آشتون، 2005: 3 – 4.
(27) كولن، 2004أ: 220.
(28) المصدر السابق، 220 – 224.
(29) كولن، 2005ب: 452.
(31) إيكلمان، 2002: 4.
(32) بارتون، 2005: 17-18.
(33) كولن، 2005ب: 456.
(34) سيفيندي، 1997ج؛ أونال وويليامز، 2000: 38؛ كولن، 2004أ: 223.
(35) للمزيد من المناقشات والاستشهادات المشابهة لكولن، انظر سايكيانين، 2006: 110.
(36) كولن، 2004أ: 223.
(37) سايكيانين، 2006: 114، وإيكلمان، 2002: 4.
(38) كولن، 2004أ: 224.
(39) كولن، 2004أ: 230 – 231؛ كولن، 2000ج: 7 – 8.
(40) ميتشل، 2005ب: 351.
(41) سايكيانين، 2006: 116.
(42) كولن عند أونال وويليامز، 2000: 99.
(43) بارتون، 2005: 17 – 18.
(44) في إحدى مقابلاتي معه، أوضح أيماز أن اتهام حركة كولن باستخدام المكائد دليل يشير إلى مبالغة قي تبسيط الديناميكيات الروحية والاجتماعية-الثقافية لحركة كولن؛ كما أن ذلك الاتهام يتعارض مع الوعي والفهم السليم للعدد المتنامي من مناصري الحركة (الذين يبلغ عددهم الملايين الآن)، حيث تنتقد الحركة بشكل صارم أحوال الدول التي تغض فيها جماعات الإسلام السياسي الطرف عن استخدام المكائد والذرائع وسيلة لها
(45) ويب، 2000: 73 – 74؛ في المقابلات الإعلامية والصحفية التالية: مؤسسة الإذاعة والتليفزيون التركية (1995)؛ زمان
(1995)؛ NTV-MSNBC (1998)؛ أكشام (1988)؛ ملييت (1988)، STV News (1997)؛ حرية (1995)؛ وأيضًا في يلمز (1997)؛ زمان (23 يونيو)؛ ياجز (1997)؛ باريس (1999)؛ كولن (2006)؛ دينك (1998).
(46) بارتون، 2005: 39 – 41.
(47) كولن، 2005ب: 466 – 467.
(48) كولن عند ياجيز (1997)، وعند أونال وويليامز (2000: 166 و167)، وعند زيلوت (1998)؛ سايكيانين، 2006: 113.
(49) هاند، 2004: 27.
(50) ويب، 2000: 4؛ أراس، 1998.
(51) غوندام، 2005: 81.
(52) المصدر السابق، 82. انظر أيضًا:
http://en.fgulen.com/content/view/1918/14/.
(53) هانت، 2007: 8 – 9.
(54) الحمائيون (Protectionists): يشير المصطلح في الدراسة إلى هؤلاء الأشخاص الموجودين في القيادة الثابتة في تركيا، والذين لديهم فهم قومي علماني بيروقراطي سلطوي ومتشدد، ويرغبون في استدامة الوضع القائم.
(55) سايكيانين، 2006: 110.
(56) يلمظ، 2005: 398.
(57) بارتون، 2005: 9.
(58) المصدر السابق، 49.
(59) جَتين، 2006: 1 – 4؛ ذا فاونتن، 2002: 93؛ فرانتز، 2000؛ أوزدالكا، 2005: 433.
(60) لوفلاند، 1996: 146.
(61) ميلوتشي، 1999: 203.
Leave a Reply