لا شك أن وظيفة الرسالة وهدف البعثة ودور الرسول صلى الله عليه وسلم، هو تنظيم الحياة من جديد. وإن من شأن العُصَب التي تقتفي أثره صلى الله عليه وسلم في هذا الاتجاه الانبعاثي التجديدي، أن يعيدوا إرساء قواعد التوازن في مدنية ضالة اختارت الإبصار بعين واحدة. فكَوْنُهم تسننوا بسنّته واهتدوا بهديه وتزينوا بزينة أخلاقه، يكونون قد حازوا أهلية مباشرة التحول على صعيد العالم.
ولقد تجاوز “كولن” منظور التغني بالكمالات النبوية، إلى منظور المغالبة على إحياء المنهج المحمدي باستنباط عوامل التفوق فيه، لأجل تطبيقها واستلهامها في معركة الدعوة الإسلامية العالمية، بكل ما يميز رهانات هذه الدعوة من جسامة؛ فاستمد من السنَّة معاني المقدامية، وهو الذي يباشر حراكًا انبعاثيًّا لا ينهض معه بتكاليفه إلا كل شهم مقدام، وتلقن من قراءة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الوقوف على تقلبات حياته العامرة بالجلائل، وكذا حياة صحابته الكرام ومن تبعهم بالإحسان واقتداهم. كيف تخلو حياة أولو العزم من معنى التقهقر، إذ تميزوا بالصلابة والقدرة على تحويل العثرات إلى نهضات وانتصارات.

السنة محبة، والمحبة فاعليةُ تعبير متناغم، متمادٍ في الطلب مُمعن في الاستجداء، إنها حراكُ هدم لأجل البناء على قواعد مضادة للزلازل. والسنَّة تَمَخُّضٌ جذري، وانبعاث كليٌّ تتحول به الهوية إلى همَّة محمّدية تُجاهد من أجل توطيد نهج القرآن العظيم. وإن من دواعي إحياء السنة في راهننا، ما يراه أولو العزم من تطابق أحوال الزيغ بين جاهلية أمس التي تصدت لها البعثة بوقوف محمد النبي ﷺ وصحبه الكرام في وجه الكفر والتسفل الروحي، وعبثية اليوم المتفسخة الطافحة بكل ما يتهدد الإنسانية بالفناء.

بتصرم القرن العشرين تكون البشرية قد جربت شتى مناهج التطور والتمدن، وخرجت منها خائبة بعد أن رأت الأنماط المذهبية والأيديولوجية “وليدة التجريب الفكري والفلسفة الوضعية” تنهار أو تتفاقم منذرة بالتهاوي. لقد تبينت المجتمعات أنها جميعًا مهددة بالإفلاس الاقتصادي والبوار النمائي، وأنَّ ما لبثت تعتد به من فقه علمي وتنظير تدبيري، لا يفتأ يبدي محدوديته، بل عقمه في مواجهة تبعات نظم حياتية هوجاء انبنت في الأساس على ثروة منهوبة وغنى مسلوب، راكمته ووفرت أسبابه هيمنة رأسمالية مستشرية، وغلبة استعمارية مستفحلة، واستسلامية شعوبٍ مخزية عاشت دهورًا في الظلام، أو انقطعت عن روحيّتها الدينية والمعرفية وقعدت على القارعة.

ينبه كولن إلى أن مخاطبة الأوساط في مسائل الدعوة يقتضي الجدارة والأهلية السمتية وقوة الحجة، لا سيما في عصر تحولت فيه النفوس إلى النفعية واللاإيمانية.

تعجز محاولات التطبيب اليوم عن إسناد الجسم الرأسمالي العليل، بعد أن قُبِرت الشيوعية وصارت أثرًا بعد عين، والأمة المحمدية تتكبد الخسائر الفادحة في شتى المجالات -لا سيما الروحية منها- جراء هذا التردي الحضاري المتصاعد، والسبب كونها ارتبطت بنُظُم هذا العالم الذي قتل الروح، وأقصى الربّ، وأحيا المادة، وعبد الشيطان (الفجور والخمر والقمار والربا والبزنسة التي لا أخلاق لها). ولم يعد سائغًا لأولي النهى أن يستمعوا لعرّافي العصر المتهافتين، وما يقترحونه من علاج للتردي الذي يسري في أوصال هذا الكيان الحضاري المادي الذي تضعضعت -أو آذنت بالتضعضع- قواعده الاقتصادية، وهي آخر وأبرز ما ظل يبني عليه الإنسانُ المعاصرُ دعائم غروره وصلفه، وينيط به أوهام تَرَبُّبِه. وحدها نظم الله وقوانينه وترتيباته كما لقنتناها السنة الشريفة (ترجمان القرآن) تتأهل لتدارك ما نحن فيه من بؤس روحي، وما يحيق بالبشرية اليوم من مخاطر ويتعقبها من نكال.

السنَّة مناط محبة الأمة على مدى الأجيال

لقد لبثت الأمة -من محبتها لرسولها الكريم ﷺ- تروي سيرته، وتتناقل تراثه الروحي الترشيدي؛ ذلك لأن الرابطة الشعورية بالنبي المصطفى ﷺ وبسنته المزكاة، هي من القوة والتمكن، بحيث تجد الذاكرة المسلمة نفسها عاجزة -بفعل تلك الرابطة- عن أن تتحلل من نص استقر في الخلد على أنه نبوي. ولا يعني أن الأمة متحرية دائمًا في سلوكها لأخلاق السنة، ومفعلةٌ لمقررات تلك السنة بالانضباط المطلوب؛ فعلى الصعيد الواقعي نرى غياب السنة في مساحة واسعة من حياتنا، عكس الوضع على الصعيد العاطفي، إذ مواجد التعظيم التي تكنها فئات الأمة لنبيها مواجدُ متجذرة، يتعسر عليها أن تتحلل منها مهما تضاعفت عوامل إبعاد هذه الأمة عن دينها وأصالتها الروحية والقدسية. ففي السنة الشريفة توجد مجالٍ من التعاليم واضحةٌ كفلق الصبح، وتوجد كذلك مكامنُ مستترة كينابيع الماء تجري من تحت الأرض منتظرة مَن يُثوِّرها ويفجر منابعها.

فباستظهار تلك المكامن، وبتجديد قراءة المدونة القدسية، واستثمار الأبعاد الفساح التي تختزنها الدلالة النصية الشريفة، يتم التجديد الذي لا يغطي فحسب دواعي التفتح والنهوض ومجاراة السيرورة والتطور، دونما خوف من حيدة أو خشية من خروج عن النطاق الشرعي المرسوم، وإنما يفتح الآفاق عريضة في وجه الاجتهاد وتنويع التمثلات المدنية الأنبل، والمستويات الحياتية الأكمل التي يتيحها لنا استنطاق النص النبوي ويعرضها بين أيدينا؛ النص النبوي ضابط مسطري حدِّي، وهو في الآن نفسه تعليمة مليئة بالإيعازات التي تستوعب آفاق المصلحة ولا تضيق عنها. ولا ريب أن قول الرسول ﷺ “نضّر الله امرأ سمع منّا شيئًا فبلَّغه كما سمع، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع” (رواه الترمذي)؛ هو إشارة إلى مدى قابلية السنة للتخريج والتثمير الذي تتسع به دائرة المنافع والمصالح، التي تقتضيها حياة المسلم المتزنة في مطالبها، والمتوازنة في تجددها السوي.

محبة السنَّة وتحبيبها للناس

إن محبة المسلم لنبيّه محبة قلبية لا تعبّر عنها الألسن، فهي من محبة الله (عز وجل)، “أجل، للقلب لسان لم تسمع الآذان بيانًا مثل بيانه وبلاغة مثل بلاغته، فعلى الإنسان أن يقطع المسافات في قلبه، فيصل إلى ربه هناك ويفنى في حبه” (ص:26). وإن رحلة ملاقاة الله (عز وجل) تمرّ عبر تعلم سنة نبيه المصطفى ﷺ وتَمَثُّلِها، وهي تبدأ من التقمص إلى التبطن، إذ محبة الرسول ﷺ من محبة الله، فهي تعني -من ثمة- التبنّي الصميم لميراثه العظيم. فاعتماد سيرة الرسول الأعظم أو سنته سلوكًا ومرجعية، هو مدخل إلى صعيد التماهي (النسبي) في هوية النبي ﷺ، والرقي إلى درجة الإنسان الكامل.
ولم يبلغ عظماء الأمة في حقل الإيمان ما بلغوا من درجات الكمال إلا لأنهم تمثّلوا بالقلب والجوارح سيرة النبي ﷺ، فنالوا المقامية في ضمير الأمة، وباتت الأجيال تنحني بالرحمة على أرواحهم، وتستلهم منهم المدد والمثالية كلما حزب الأمر بالأمة واحلولكت الدنيا من حولها. فرموز المحظوظية (أبطال الروح) استمدوا القدسية من مرشدهم محمد ﷺ؛ فإذا كان عبد القادر الكيلاني أو جلال الدين الرومي أو الإمام الرباني أو بديع الزمان النورسي، يحوّلون القلوب ويوجهونها نحو الرسول محمد ﷺ، فهذا بفضل القوة القدسية التي استمدوها من مرشدهم ومن أستاذهم ﷺ. (ص:285)

لقد تجاوز كولن منظور التغني بالكمالات النبوية إلى منظور المغالبة على إحياء المنهج المحمدي، باستنباط عوامل التفوق فيه لأجل تطبيقها واستلهامها في الدعوة الإسلامية العالمية.

وظيفة السنَّة

لا شك أن وظيفة الرسالة وهدف البعثة ودور الرسول ﷺ، هو تنظيم الحياة من جديد. وإن من شأن العُصَب التي تقتفي أثره (ص) في هذا الاتجاه الانبعاثي التجديدي، أن يعيدوا إرساء قواعد التوازن في مدنية ضالة اختارت الإبصار بعين واحدة، فكَوْنُهم تسنّنوا بسنّته واهتدوا بهديه وتزينوا بزينة أخلاقه، يكونون قد حازوا أهلية مباشرة التحول على صعيد العالم؛ “إن أي جماعة تتزين بمثل زينة أخلاقه ﷺ، تكون عنصر توازن في هذا العالم” (ص:50). وإن أول خطوة على طريق التجديد وأحسمها، هي تجديد النفس، وتجلية الكينونة الروحية بمُجَلَّيات القرآن العظيم والسنة المطهرة؛ “إن الوظيفة الملقاة على عاتقنا، هي تغيير أنفسنا” (ص:50)، ذلك لأن “الغاية الأساسية من خلقنا والهدف الرئيسي له، هو معرفة الله (عز وجل)، وإيفاء وظيفة العبودية له بشكلها الصحيح واللائق به (عز وجل)” (ص:56)؛ فمِحَكُّ التعافي فينا هو تغليب باعث العبادة على باعث الجمْع والتَّرَيُّش.

محبة “كولن” للرسول ﷺ أس تجنيديّته

تغدو محبة الرسول (ص) بالنسبة لـ”كولن” محبة علة ووجود، يترجم عنها إكباره لسنته ولدعوته وهجرته، بل ولولادته؛ لقد رأى –عن حقٍّ يقره كل إنسان مستنير القلب- أن يوم ميلاد محمد ﷺ حريًّا أن يكون عيدًا للإنسانية برمتها، تحتفي بمن أزال عنها الكفر، وأضاء عوالم الكون بمصابيح القرآن؛ “هناك عيدٌ آخر يعدّ عيدًا للإنسانية بل لعالم الوجود كله، وهو يوم تشريف الدنيا بمجيء رسول الله ﷺ، أيْ يوم الميلاد الأحمدي والسراج المحمدي في سماء الإنسانية مثل شمس مضيئة. فكان هذا أفضل وأكبر وأعظم نعم الله على الإنس والجن”. (ص:27)

السنَّة واليُتْم الروحي

هناك وطأة وجودية ناتجة من علو قابلية التأثر والمشاركة التي تورثها التقوى لأهل الورع والتجرد، يغدو بها العبد الصالح فريسة للغربة، ونهبًا للضيعة ولمشاعر اليُتْم. ولا تزال الاستنارة السَّنِيّة المتناغية مع ما في النفس من هداية فطرية تحنفية، تلح على أهل الله إزاء ما يتكاثر حيالهم من ترديات الروح، وما ينعكس نتيجة ذلك على المجتمع من ألوان الشراسة والمسخ والإحباط، فيعيشون معلَّقين بين وطأتين؛ وطأة التأذي من تبعات الواقع، ووطأة العجز عن إصلاح ذلك الواقع، فيورثهم وضع التمزق غربة لها طعم اليتم، لا يفتأون يكابدونها في أجواء مدنية تعزف عن نداء الروح، تناهض الدين وتعمل على وأده. بهذه الروحية الكسيرة طفق كولن يستقرئ الواقع الكسيف الذي انقلبت إليه حال قومه وحال الأمة قاطبة.

لبث كولن -بوصفه رمزًا منكوبًا في روحيته الجمعية، مطعونًا في تاريخيته الملّيّة، مبتوت الصلة بهويته الحضارية- يرصد لنا ما كان قائمًا من تَماهٍ بينه وبين المعالم الخابية للعقيدة في الواقع الحياتي التركي والوضع الإسلامي عامة؛ إذ المساجد وسائر ما يرمز إلى الماضي من مؤسسات دينية، باتت تنتصب منكَّسة في عهد التراجع، فالرصيد القدسي الذي كان بالأمس عنوان العظمة والتحريك، قد حاقت به المهانة اليوم، إذ عقَّـه الخلَفُ، فهو منتبَذ، مُقصى بلا حرمة ولا صون، أشبه بوضع اليتيم في وصاية اللئيم.

من هنا استشعر كولن أن يُتْم الإسلام يُتْمه، وأن ضيعة عز الإسلام ضيعته هو، ولم يعد في وسعه إلا أن يرابط على عتبة السنَّة، ذارفًا الدمع، راجيًا الشفاعة من سيد المرسلين: “يا رسول الله، ها أنا ذا يتيم، واقف على عتبة بابك، فلا تطردني عن بابك، ولا تحرمني من شفاعتك”. (ص:33)

فكر كولن سليل السنَّة

إن فكر كولن، سليل عضوي لفكر السنَّة، إذ إن فلسفة الدعوة لديه انبنت على أسس التزامية اقتدائية احتسابية تتوخى إحياء السنَّة وبعث تعاليمها، تخليصًا للإنسان المسلم عامة والتركي خاصة، مما حاق به من فكر جحودي شنيع مصدرُهُ مفرزاتُ هذه المدنية المادية وفلسفاتها المتوحشة، وأيديولوجياتها الرعناء الضاربة مليًّا في المروق والعقوق. ولقد كان كتابه “النور الخالد محمد ﷺ مفخرة الإنسانية” مدونة فتّشتْ في وقائع السنة الشريفة ظواهر وما وراءات، بوازع استكشافي اقتفائي، أتاح له أن يستقرئ منها وفي شتى مناحيها الحياتية والجهادية والتعميرية والتمدينية والتسييرية، ما يمكن أن يعد قوانين وقواعد السير التي لا يمكن لأي بعث إسلامي أن يغفلها في أي مشروع نهضوي جاد.

لقد تعمق الداعية في بث بواطن الفعل النبوي واستظهار أسس منهاجه، وطُرق التواصل والتحسيس التي اعتمدها ﷺ في التبليغ، وكان الوازع الاسترشادي الاستلهامي جليًّا لدى كولن في مدارسته للسنّة، من هنا كان استقراؤنا متن هذه المدارسة الاستيعابية الشمولية (النور الخالد)، يفيد في التعرف على الموقع الذي تحتله السنة في منهج كولن، وعلى مستويات التمرّس الروحي والعملي التي جسّدها مشروع النهضة الدعوية الخِدْمية، الذي ينهض به اليوم كولن وتنشِّطه فواعل الخدمة بأصنافها وقطاعاتها. أقام كولن في رحاب السيرة، ثم أقامها مكوِّنًا مركزيًّا في كيانه، فتشعبت أمامه وجهتان إحداهما التمثل لبناء الروح، والثانية التمرُّس للدعوة والتبليغ. التمثل ذكر، والتمرس تذكير، التمثل أفضى إلى القلبية وترقي سلالم العروج والمكاشفة، والتمرس اقتضى منه الانحياز المطلق للشريعة، واختيار الأسس والأوليات في بناء جدار النهضة، واستلهام الكيفيات النبوية في التجدد؛ فكانت النتيجة هنا حفولاً في المكاسب، كما كانت هناك فيوضًا في المواهب.

كولن مطبِّق للسنّة

لقد تجاوز كولن منظور التغني بالكمالات النبوية إلى منظور المغالبة على إحياء المنهج المحمدي باستنباط عوامل التفوق فيه لأجل تطبيقها واستلهامها في معركة الدعوة الإسلامية العالمية بكل ما يميز رهانات هذه الدعوة من جسامة. لقد استمد من السنَّة معاني المقدامية، وهو الذي يباشر حراكًا انبعاثيًّا لا ينهض معه بتكاليفه إلا كل شهم مقدام.

لقد تلقن من قراءة سنة رسول الله ﷺ، ومن الوقوف على تقلبات حياته العامرة بالجلائل، وكذا حياة صحابته الكرام ومن تبعهم بالإحسان واقتداهم. كيف تخلو حياة أولي العزم من معنى التقهقر، إذ تميزوا بالصلابة والقدرة على تحويل العثرات إلى نهضات وانتصارات.

يؤمن كولن أن الباب سيفتح على مصراعيه في وجه الدعوة متى ما استجممت الأمة قواها وامتلكت القَوامة المادية، إذ عندئذ يحصل للإسلام الفتح المبين.

مستويات التسنن

التسنن المستنير الضارب في أعماق السيرة يحقق عصرنة مدنية أصيلة مسوَّغة ومؤيَّدة بتعاليم السنَّة. والتسنن الحرفي يكتفي بالبحث عن إمكانات المناعة والوقاية والحفاظ على كيان تحاصره المعوقات والإحباطات، ولا قدرة له على الفعل.

يومئ كولن للنهج الدعوي الذي سلكه وهو نهج النبوة، إذ التبليغ بالنسبة للتابعين وظيفة، وبالنسبة للأنبياء غاية. و”كولن” لما عاش التبليغ اختيارًا فقد تفرغ له بتاتًا، وعمَّر به حياته باعتباره رهانًا أيوبيًّا حاسمًا. وإذا كان سلفه “محمد الفاتح” قد ملك مفتاح ضفتي آسيا وأوروبا بجيش سلطاني استشهادي، فإن كولن يراهن على فتح أمصار وأوطان في الأرض ما أظلَّها الإسلام قبل أن تتجه إليها فرسان “الخدمة”. وإنها لمقصدية رهينة بآفاق الدعوة وقدرتها على الاستمرار والتطور والمُكنة من تثمير الإمكانات وتوظيف التقنيات واستغلال الفرص ومنها فرص الزمن.

منهج التأثير “الكولَني” مستمد من بيداغوجية الرسول ﷺ؛ “إن في حياة الرسول ﷺ وسلوكه وتصرفاته وطراز حياته دروسًا قيمة للدعاة، أجل، فإن الشرط الأساسي للنفوذ إلى القلوب، هو تطبيق الدعوة ومبادئها على النفس أولاً وقبل كل شيء كما فعل الرسول ﷺ” (ص:150). هذه الأحوال المعاكِسة والمناوئة التي عاناها الرسول ﷺ، كان كولن وسائر المصلحين ممن ساروا على درب النبي ﷺ، يُحيون وقائع مجانسة لها على نحو من الأنحاء في مضمار ما تصدَّوا لتحقيقه على صعيد إحياء السنة وبعث قيم التعمير. لذا لبثوا يستحضرون أساليب التبليغ النبوي ويتمثلونها ويتعمّقون ليصطنعوها في جهادهم الدعوي. لقد أيقنوا أن محاولة تطبيق مناهج أخرى غير المنهج النبوي في بناء النهضة، لا يضمن النصر، ولا يكفل النجاعة والفاعلية، ومن ثمة لا يتحقق به الرهان الأعظم. “إذا أريد النجاح الدائم الباقي، فليس أمامنا إلا اتباع الطرق والأساليب التي اتبعها النبي ﷺ، وقد أثبتت آلاف من الحوادث استحالة النجاح والتوفيق بطرق الآخرين، لذا فإننا نؤكد مرة أخرى بأن على الدعاة الذين يريدون أن يكونوا هداة ومرشدين للناس، أن يتبعوا الرسول محمدًا ﷺ، فهو المرشد الحقيقي، والطريق الذي خطه هو طريق الهداية الرشيدة، ذلك لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”. (ص:153)

ويوعز كولن -انطلاقًا من تجربته التي تجذرت في الدعوة- بما ينبغي أن يطمح إليه المرشدون في مجال النهوض والتبليغ والدعوة وفق منهج الرسول ﷺ، فإن أهم ما يتطلبه المنهج أن يكون الداعية ذا فطرة لا تحترف الدعاية باسم الدين، وإنما تحيا في الدعوة، وتسلخ العمر في الاضطلاع بتمرساتها الشاقة: “لقد كان التبليغ لدى سيد المرسلين فطرة وسجية، كانت نفسه تضيق عندما لا يجد قلبًا طاهرًا يبلغه، مثلما نضيق نحن إنْ حُرمنا من الأكل والشرب، أو عندما نُحرم من تنفس الهواء”. (ص:153)

وينبه كولن في هذا المضمار إلى السذاجة والانخداع الذي يقع فيه الدعاة حين يتوهمون أن الترويج للسنّة بالعواطف والمشاعر هو مبلغ الجهد. والحقيقة أن مخاطبة الأوساط في مسائل الدعوة، يقتضي الجدارة والأهلية السمتية، وقوة الحجة، لا سيما في عصرٍ تحولت فيه النفوس إلى النفعية واللاإيمانية، إذ لا بدّ -إلى جانب العاطفة الصميمة التي ترادف العشق- من إيجاد المُقْنعات الفكرية والمُثبتات العقلية، وفتح باب الدعوة على المحاورة، ومقاسمة أوضاع الناس والمجتمعات. وإن تصدي الهداة إلى معالجة قضايا الفقر والإدمان والانحرافات الأسرية والشبابية وكافة مظاهر التخريب التي تقترفها المدنية الرعناء، لَمِن شأنه أن يشكل صعيدًا حيويًّا لتحقيق الدعوة، وتحويل المرضى أنفسهم إلى جنود ينشرون عافية الإسلام في بيئاتهم.

ألا وإن من ألحِّ جبهات المواجهة التي انفتحت أمام كل داعية رباني، جبهة التصدي لظاهرة تشويه الإسلام بما يُقترف باسمه من شنائع وفظائع. المنهج الدعوي الذي أراده كولن أن يكون انتفاضة، بل ثورة روحية تحيي الموات وتواجه النكبات، هو نهج التجنُّد الصميم، والتسامي الفذ الذي جسّده أولو العزم بسيرتهم المستلهمة لسيرة الرسول ﷺ، ممن عاشوا للرباط وبالرباط؛ منهم “النورسي” وسلسلة الأفذاذ من بني قومه الذين ارتفعوا باقتدائهم واستشهاديتهم، شموسًا وأقمارًا في سماء الإسلام.

اختار هذا النهج السقفي من البذل، لأن طبيعة النكبة الروحية “والمادية” التي حلت بالإسلام وبدار الإسلام، وعلى يد طوائف ممن ظلت سلالتهم ترفع شارة الإسلام “خلافة ووصاية” قرونًا متراوحة، كانت من الفداحة بحيث لم تترك لأولي العزم خيارًا آخر غير خيار الاستنفار التام، والانخراط المطلق الذي تنتفي معه على صعيد الحياة الشخصية كل رابطة متاعية أو ارتفاقية، إلا رابطة بذل النفس في سبيل المنافحة عن دين الله (عز وجل).

فـ”كولن” ومِن وعيٍ بليغٍ بأن حركته الدعوية الخِدْمية تنسجم مع مقتضيات نداء خفي، يرسله الضمير الإنساني مستغيثًا مما بات ينوء به كاهل البشرية من أرزاء ناتجة عن أحوال مدنية وحضارية غاشمة وجارفة، نراه يختار الحركةَ على السكون، الفعلَ على البطالة، القيامَ على القعود: “فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا”(النساء:95).

بل إنه يعتبر أن حركة الوعي والاستفاقة التي تجسّدها تنظيمات الدعوة الخِدْمية اليوم، ما هي إلا هبَّة خير انتهت إلى هذا الجيل الذي ينتصب في مقدمته هو والناشطون في حركة البذل، ومعهم الجموع المتنافسة في الإحسان، ليواصلوا المد الذي انطلق على يد الرسول ﷺ وتراوحته الأجيال المحظوظة من بعده جيلاً بعد جيل، ورمزًا بعد رمز، وداعية إثر داعية… يقومون بذلك بكل تجرّد، إذ إن من اشتراطات أهل النعرة الدينية الموت في الموت وقتل الجسدية، ودوس نوازع الذات والأنانية.

يؤمن كولن إيمانًا راسخًا بأن رسالة “الرسول الأعظم” هي منبع للأمن والطمأنينة، ولكي تذوق الإنسانية هذه الطمأنينة مرة أخرى، فليس هناك إلا أن تهتدي بالنور الذي أتى به الرسول ﷺ.

نماذج من تمثلات كولن لمقررات السنَّة

في الاتجاه الرجوعي تأخذ المادة النصوصية بُعدًا مخدوميًّا، من ذلك ما عالج به كولن قول النبي ﷺ “لكل داء دواء” (رواه مسلم)؛ لقد قرأه في سياق التأسيس لـ”الخدمة”، فللنهضة مفعلات معنوية وروحية توفرها السنَّة، والأمر يقتضي قراءة فحوى النص في اتجاه يفكّ القيد عن الإرادة، ويرفع الحصار عن الهمة، ويفعِّل محركات الانبعاث. (راجع ص:111)

ومن خلال العمل بمقررات السنَّة وطّد كولن الرؤية الاقتصادية، وأكد مسؤولية تخديم المال وتثميره في النفع العام، وعرف كيف يحوّل السنَّة إلى ثروة، يؤثل منها الكفاية والفوائض والغنى والرخاء. في هذا الصدد نراه يقرأ حديث “إذا تبايعتم بالعِينة” (رواه أحمد) فيستنبط منه الإطار الأوسع والأنسب للمضي بالدعوة الخِدْمية قُدمًا. بل إنه يستقرئ من السنَّة فقه الندبة لإنشاء المؤسسات التي تكفل تموين الدعوة، وتضمن نسبة تحرير النفوس من الضغط الاقتصادي، احتذاء بما فعله الرسول الأعظم ﷺ بالمدينة المنورة، حين أنشأ السوق تخليصًا لمجتمع المسلمين من حكرة اليهود ومن نقص المواد. (راجع ص:317)

فالرسول ﷺ حين الهجرة كان عمليًّا، سارع إلى إرساء الهياكل التي تساعد على التفرغ للهدف؛ حيث بادر إلى تأسيس سوقٍ حرَّر التجارة من أيدي المضاربين.

الفقه السنّي كما أضحى يفقهه طلائع من السنيين ومنهم كولن، يمضي بنا بعيدًا عن الأرصفة الشكلية الخدّاعة إلى مجالات أرحب وأحفل بالمكارم والمحامد؛ فبتطبيق السنَّة في مظاهرها الحقوقية والمبدئية تظهر لنا ادعاءات وزيف شعارات الإنسانويين الغربيين، فهذه الشعارات التي جرّبتها دوائر غربية في ظل استعمارهم لأوطاننا كوجهٍ استغفاري يخفي جرائمهم هي -في أخف الأحكام- شعاراتٌ قاصرة عن بلوغ درجة الإحسان التي تلح عليها السنَّة وتحدو إليها تعاليم الرسول ﷺ. إنها شعارات تتجاهل البُعد الاحتسابي، وتُنكر الباعث الغيبي الإلزامي، والدافع الرباني الذي لا يغترسه في الصدور إلا الإيمان. فما أكثر ما صدرت عن روح تفضُّلية استعلائية هي من جنس ما يحظى به الحيوان من شفقة لدى هذه الدوائر. إن مبدأ “وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” يغيب عن روح هذه الشعارات الإنسانوية.

الداعية المسلم من خلال استلهام تعاليم السنَّة، يعمل على تنشئة إنسان من طراز الكُمَّل المقولبين في طراز مبادئ السنَّة، عكس طرز المدنية المادية التي يقودها ويؤثل قيمها وثقافتها الكسيحة فكرٌ أعرج، يؤجج البدعة وأساليب زرع الفتنة، وتجريف عوامل السكينة، وترجيح جانب العماية التبصُّرية.

الاشتحان بروح السنَّة ينتزع من النفس –على قدر التعبئة- خميرة الغي والتسفل، وهو ما يشير إلى بعض جوانبه كولن، إذ إن التغير البنَّاء الذي يطرأ على الإنسان وأخلاقه ونزعاته جراء الأخذ بجوهر السنَّة يعزز المعاني الرفيعة، ويقوِّي في الإنسان إنسانيته، ذلك لأن التحلي بكمالات الرسول ﷺ القلبية، يتيح التحول في القابليات والوجدانيات، ويضمن الترقي بالملكات والاستعدادات.

ولما كانت دعوة الرسول كونية، فإن مد حدود وآفاق الدعوة يُعَدُّ من رهانات المسلم التبليغية، وهو ما ينهض به كولن اليوم، ولا ريب أن منهجه في الدعوة أميز وأفذذ، إذ قَرَن التوصيل بالإحسان، وشفع الإيمان بالعمل الصالح، والتربية بالنفعية، والأخوة بالإنسانية.

يؤمن كولن أن الباب سيفتح على مصراعيه في وجه الدعوة متى ما استجممت الأمة قواها وامتلكت القَوامة المادية، إذ عندئذ يحصل للإسلام الفتح المبين، ويغدو في وسع الداعية المسلم أن يطرق الأبواب دون وجل وتردد ما دام الآخرون يرونه على كفاءة مادية وكفاية تجهيزية، وفي يده كتاب لا ينطق عن الهوى، عندئذ يكون المسلم على موعد تارة أخرى مع: “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا”(النصر:1-2). تقع المماثلة في حس كولن، حين يقابل بين الطلائع من الصحابة ومن أهل الصفة، وما صنع الإسلام بهم حين حولهم إلى مهندسين جددوا العالم، وبين فيالق “الخدمة” التي يقودها فيستشعر السعادة والحزن معًا؛ السعادة ليقينه أنه يسير على المحجة في ما يجتهد له من دعوة واحتساب، والحزن لعدم يقينه من قدرة الناهضين خلفه للارتفاع إلى مستوى ما ينتظره منهم الإسلام. فالمقابلة بين ما يعمر الذاكرة من صحائف المجد الباهر المتحقق على يد أجيال وعهود سلفت، وبين ما تباشره الكتائب تحت إدارته من إنجازات، يجعله لعرامة بواعثه الباطنية، يتوجس أن يكون الناتج والمردود أقل من المطلوب والمنتظر في هذا الرهان الذي يوقن كولن بأنه يصب في اتجاه مشيئة إلهية تريد لهذا الكون أن يُعمَر بالإسلام.

العلم علم بالسيرة

يؤصل كولن مفهوم العلم، ويركزه على حقل الفقه والدراية بالدين، ذلك لأن الفلسفة المادية المستفحلة ومُخْرَجاتِها الفكرية والمنهجية، قد شطَّت في الضلال والتيه بالإنسان المعاصر، انحيازًا لحقائق الحس على حساب حقائق الروح والقلب، فهيأت لظهور الإنسان المدجِّل باسم العلم، المغتر بالنتائج السطحية التي يستحصلها، الغافل عن الجوانب الأهم التي في وسعه بالإيمان أن يجتنيها من تفعيل القلب والروح؛ “نستطيع مشاهدة كيف أن الإنسان الذي افتتن بتيار الوضعية فأصبح يجري وراء إجراء التجارب على كل شيء، وكيف أن الحياة الروحية والقلبية لمثل هذا الرجل لا تتجاوز خط الصفر”. (ص:249)

إزاء رواج هذه الرؤية المعممة بفعل غلبة مادية عابرة أوقعت الإنسانية في الضياع، تتهيأ تعاليم سيد المرسلين لأخذ الزمام، فتسدي إلى البشرية المعروف، وتحصِّنها بالرحمة والرشاد في الآخرين كما فعلت ذلك بها في الأولين، حين نزل الذكر وآياته المفصلة، فأنارت الظلمات، وأوطنت الإنسان مركزه خليفةً لله في الكون وبين الكائنات.

لم يبلغ عظماء الأمة في حقل الإيمان ما بلغوا من درجات الكمال إلا لأنهم تمثلوا بالقلب والجوارح سيرة النبي ﷺ، فنالوا المقامية في ضمير الأمة.

“نحن نؤمن إيمانًا راسخًا لا شك فيه، بأن الرسالة التي جاء بها “الرسول الأعظم”، هي منبع للأمن والطمأنينة، والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول. ولكي تذوق الإنسانية هذه الطمأنينة مرة أخرى، فليس هناك إلا حل واحد أمامها، وهو أن تهتدي بالنور الذي أتى به الرسول (ص)، فكلما ازداد الإنسان معرفة به ازداد حبًّا له، وبهذه المحبة سيتغير وجه المجتمع”. (ص:21)

السيرة الترياق

يوقن كولن بأن انعقاد نية الأفراد -مهما كانوا قلة- على خدمة الدين، مدعاة لحصول البركة والدعم الإلهيين، وأن النكبات والتهشمات المستهدفة لجدار الأمة تقتضي إعلان الاستنفار، واختيار الأحسم من أوجه العلاج وهو تفعيل سنة الرسول ﷺ. لقد وصفت السنَّة العلاج حين قررت أنه “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، ذلك لأن فواعل التردي الروحية والمعنوية المتجانسة مع علل التردي الجاهلي، قد باتت تصيب الدعائم وتراهن على تقويض الكيان من أسسه.

فالأسرة تفككت بسبب خروجنا عن نطاق التربية السّنِيّة، وسقوطنا في تعاليم تربية لائكية هي حرب معلنة على الدين. يَحدُث هذا لأن الأمة انتهت إلى حضيض بات فيه أمرًا واقعًا ما طفقت تعاليم الرسول الأعظم ﷺ تحذر منه؛ “يوشك الأمم أن تتداعى عليكم”، بل إن علامات ترهص لغروب ساعة الأخلاق المكرِّمة للإنسان بدأت تلوح للعيان إن لم تتدارك الأمة الوضع، فتُعزَّ نفسها وكتابها بالعودة إلى السنَّة وتطابق بينها وبين مقرراتها.

السيرة النبوية دليل في يد كولن

في كتابات كولن تواجهنا ظلال السيرة النبوية الشريفة في سائر ما خط قلمه، فهي الإطار المرجعي الذي لبث يستمد منه رؤاه وينتسج به أرضية فكره، ويفصل مقاييسه على ضوء مقاييسها وموازينها… فالقارئ لتراث الداعية كولن، يتفاعل مع نموذجين أكملين من السيرة، لأنهما مترابطان كترابط الشمس مع القمر في استمداد أحدهما النور من الآخر، فهناك السيرة الأمّ وهي سجل الوقائع الجهادية التي خطها الرسول (ص) على مدى عمر الدعوة، وهناك سيرة السيرة المتمثلة في إنجازات الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان عبر تلاحق العهود والمراحل. في هذا المستوى السِّيَرِي يحضر التاريخ العثماني موصولاً باللحمة الدعوية والتبليغية التي أعطت إشارةَ انطلاقها البعثةُ النبوية المشرَّفة، وتتلاحق حلقات هذا التاريخ بأجيال الفتح واستلام راية الخلافة إلى جيل “الخدمة”، واسترداد زمام الدعوة، ونشر رسالة الله (عز وجل) إلى العالمين.

كولن وتمثل السيرة

برنامج الاقتفاء يقوم على مبدأ اتِّباع خطة النبي الدعوية. فقراءة كولن للسيرة كانت تحرص على تثمير بُعدها الروحي “على صعيد بناء الفرد”، وبُعدها الإنجازي “على صعيد بناء كيان الأمة”، وذلك بتقمص بيانيات الرسول الأعظم في مجال الترشيد، وهضم مخططاته التأسيسية في مضمار المدنية، والعمل من ثمة على تنفيذها واستفراغ الجهد في تحقيق مقاصديتها، إيمانًا منه (فتح الله كولن) بأن السيرة مثلما هي السقف من حيث طبيعة المقررات والتعاليم، هي أيضًا السقف من حيث نجاعة الأسلوب والكيفية والمنهج الترشيدي الاستقطابي.

لقد تجاوز الرسول ﷺ أطواق العداوة التي ضُربت عليه من القبائل والأمم، وطاولها بصبر خارق، ثم تخطاها وجعل من غُلاة العدائيين -قبائل وأممًا- أتباعًا خُلَّصًا استبدلوا سَوْرةَ الكفر، وحوَّلوها طاقةَ حبٍّ للإسلام ونبيّه، وتفانوا في تبليغ رسالته الخالدة إلى العالمين.

بل إن هذا التمرّس الاسترشادي بالسيرة، كان بالنسبة لـ”كولن” عامل دعم إجرائي في إقامة صرح الخدمة الدعوية، وباعث يقين في سلامة المسرى ونجاعة المتجَّه والسبيل. فانتداب عُمَّار الأوطان من أهل “الخدمة”، إنما هو اقتفاء عملي لنهج الرسول ﷺ، إذ أرسل ﷺ وهو في غمرة المساجلة لتوطين الدين والتوحيد، رجالاً عمروا الأوطان ولم يقتصروا على فتح المساجد والكتاتيب، وإن جعلوا منها حجر الزاوية في إقامة ما استنجزته الفتوح الإسلامية عبر الأرض من مشايد وعمائر وسبقيات حضارية باهرة. لقد أولى ﷺ الإنسانَ وتكوينه العناية البالغة، من هنا تمكنت الدعوة وأمدّت جذورها في الأرض.

إن احتذاء السيرة الذي يراهن عليه الربانيون في ضمان السدادية، هو من العناء والمكابدة ما يتضاهى مع مستوى تلك التحولات الروحية والنتائج المدنية المجتناة على يد النبي وصحابته الممجدين، بل إن احتذاء السيرة هو تجشم -مليء بأنواع الاستبسال- لذلك المسار الشاق المديد من العراكات والفجائع والضربات التي عاشها الرسول ﷺ وهو يدأب ويدبّ كدبيب النمل وكحركة الظل، تغييرًا لكينونة وجود شركي لا إنساني، كانت مشيئة الله تقتضي أن يتعدل ويأخذ صورته السوية النهائية على يد خاتم المرسلين. وما أشقها مهمة يحتذيه ﷺ فيها الصالحون وما أشرفها مأمورية يتبعه فيها الصادقون.

كانت سيرة الرسول ﷺ ملحمة عارمة من الامتحانات والابتلاءات والانكسارت المتصاعدة في الشدة والوخامة والدرامية، بَيْدَ أنها كانت تتكلل في كل شوط بالقار، وتتوج في كل فصل بالنصر، عابرة إلى أهدافها على جسور من جمر وشوك؛ فاختيار السيرة منهجًا يعني -بالنسبة لأهل العزم- اختيار طريق الاستشهاد المعنوي بله المادي، لأن من يسلك سبيل المصطفين لا بد وأن يعلم أن التمحيص باهظ والتبعات باهرة.

التماهي في السنة اختيار معرفي باسل، ينحاز إيمانيًّا إلى الحقيقة المنزلة الوطيدة في تعاليم الأنبياء والرسل وفي مقدمتهم محمد ﷺ؛ “إن رسولنا ﷺ قد تحمل عبئًا كبيرًا مثل عبء النبوة ثلاثة وعشرين عامًا بإيفاء حق وظيفته بنجاح منقطع النظير”. ولأن كولن توخى تكريس قواعد التسنن في المجتمع، فهو لذلك يعلن عقيدته الاتباعية، ترشيدًا للأتباع حتى يكونوا اتباعيين عن جدارة.

إن فلسفة الدعوة لدى كولن، انبنت على أسس التزامية اقتدائية احتسابية، تتوخى إحياء السنة وبعث تعاليمها، تخليصًا للإنسان المسلم، مما حاق به من فكر جحودي شنيع.

والتابعون -كما نعلم- على مستويين؛ مستوى التابع الداعية المراعي في علاقته بالنموذج الأكمل النبي ﷺ، ومستوى التابع العامل المراعي في علاقته للداعية، باعتبار الداعية جسرًا دالاًّ على طريق الخيرات. ضمن هذه التراتبية تتأسس الجماعات الدعوية والعُصَب الإحسانية وينتظمها النشاط الخيري. فإذا ما اطرد الحراك وتجذرت الثوابت واطردت المسيرة، يأتي الانمحاء والتواضع فتتوطد الصلة بين الفرع والأصل، بين العبد والرب، بعد أن يتم تخريج الفيالق، ويكبر الاحتياط النوعي على يد الربانيين.

من هنا كانت الحاجة إلى الاحتجاب الذي يلتزمه أولو الصلاح بعد تأسيس الحركات واطراد عطائها، إذ يتحولون إلى مستوى استمدادي إلهامي تعم بركاته حيثما توسعت حدود الدعوة وامتدت أبعادها. إنهم غير معنيين بتاتًا بجني الثمرة، لأن سعادتهم؛ في رؤية الأتباع قد رشدوا ونضجوا وأضحوا في مستوى الوفاء لرسول الله ﷺ، إذ لا قداسة في الإسلام لغير الله. وإن ما ينتكس بالحركات الدنيوية، هو سرعة تهافت المؤسسين على جني الثمرة، فلا يترددون في أكلها مُرَّة حصرمًا، لأن الأعمال الدنيوية وازعها حساب الربح والمكسب، والشيطان من ثمة قسيمها. “فالأنبياء أسوة حسنة لنا وهم أئمتنا، فكما نتبع الإمام في الصلاة نتبع الأنبياء في جميع تفاصيل الحياة ونقتدي بهم، ذلك لأن الحقيقة بالنسبة إلينا يمثلها نبيّنا والأنبياء الآخرون. والصحابة الذين عاشوا عهد الرسول ﷺ اقتدوا به، لذا وصل هؤلاء الصحابة والتابعون لهم إلى هذه المنزلة التي بيّنها رسول الله ﷺ في حديثه: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” (رواه البخاري) والاقتداء بهم يكون بالالتزام بمقررات سننهم، والعمل على التشبه بهم قلبيًّا وجوارحيًّا. (ص:61/62) بتصرف
استقراء السيرة  وقوانين النجاح

إن كولن إذ يفتأ يُنَبِّه إلى ما يميز السيرة النبوية من جهاد بنائي ومغالبة وعريكية، فلأنه يريد لهذه الصفات أن تنغرس في الرجال الناهضين بمشاريع “الخدمة” بين يديه، إذ يمثلون له طلائع فجرية ريادية ستلحق بهم مدود، لتكبر الحركة التبليغية وتملأ الآفاق.

وإنه ليتمعن في ما دأب كُتَّابُ السيرةِ يعتبرونه انكسارات عرفها الرسول ﷺ في صراعه ضد الجاهلية، فينظر إليها من زاوية المآل، فإذا هي ليست انكسارات أو هزائم، إنما تنبيهات إلهية تصلبت بها الدعوة واكتسبت القوة والقدرة على المضي في سبيلها قُدمًا، وأضحت بواعثها وعواملها دروسًا إلى الخلَف والأمة تعصمها -متى لم يجانبها الرشد- من العثار.
فالهزيمة تكون حين تُثنينا العوائق، وتكسر فينا عمود الهمة والكرور، وتصدنا عن سواء السبيل… إنما شرط انتصار معارك الحق، أن يتجمل أصحابها بالصبر وروح المطاولة؛ فكل خطوة خطاها كانت مقدمة للخطوة القادمة، فلم يخطُ خطوة واحدة إلى الخلف.

خطة تشبيب القيادة

لقد وجدنا كولن -باعتباره رائد مشروع خِدْمي نهضوي- يستلهم من السيرة خطة تشبيب القيادة؛ إذ يرى أن في قرار النبي ﷺ تقديمَ أسامة بن زيد على رأس الجيش، درسًا يفيد الأمة من حيث واجب مراعاة التجدد في الأجيال العاملة. ولذا نراه (كولن) يرشد “حركة الخدمة” ويوجه متنورة الأمة وقادة الرأي والحراك فيها، بل وكل من يخوض غمار الدعوة والاستنهاض، إلى وجوب الانتفاع مما تكتنز به تعاليم الرسول ﷺ لا سيما في مضمار استزراع طاقات الفتوَّة، ذلك لأننا بإشراك القوى الناشئة، وإسناد المهام إليها، ودعمها بأولي الحصافة والدهاء والبصيرة، نضمن الاستمرار ونهيئ الخِلفة ونراهن على الفاعلية، ونكفل للمشاريع المصيرية التنامية والتوسع، إذ العراك كما ينهض على الحكمة والرشاد، ينهض كذلك -وبصورة أحسم- على التجدد وقرن الفتوة بالحلم والخبرة.

ونراه يقف عند بعض الأحداث كـ”هدنة الحديبية” التي اهتزت فيها روح الجماعة من حول النبي ﷺ بطروء ما لم يكن منتظرًا في الحسبان، ويترسم ملامح الانبعاث وتجديد الكرَّة في ما لابس ذلك الظرف الصعب من عوامل الإحباط، مستخلصًا الكيفية الحصيفة التي أمكن بها للدعوة أن تتخطى التأزم، وتتجاوز البلبلة في الصفوف. وإن من القواعد التي يُرسيها انطلاقًا من فقه السنَّة، أن إستراتيجية التغلب على الصعاب على مبدأ المرابطة، وحدة الفكر والحركة، انسياقًا مع ما وعد الله به “الذين آمنوا وعملوا الصالحات” من خير وبركات.
المرأة ومكانتها في السيرة

لما كان مشروع “كولن” مفتوح الآفاق على النهضة، كانت المقاييس التي قوّم بها الإنسان “الذي هو الحجر الأساس في بناء هذه النهضة”، تنبثق من صميم معايير السنَّة المطهرة في تحديد مكانة الرجل والمرأة في المجتمع، وبيان درجة المشاركة في الجهد، ومستوى الإناطة المسندة لكلٍّ منهما في الأداء والإنجاز.

ولما كانت الأبعاد الروحية هي الأساس والأرضية التي تستند عليها رؤية الداعية كولن، فقد توقعنا أن تكون مساحة حراك المرأة مساحة متحفَّظًا عليها بحكم ما توهَّمناه -خطأ- من مصادرة لمكانة المرأة باسم الشرع، غير أننا رأينا كولن -وكشأنه في تقرير المبادئ الشرعية- يستحضر من السيرة الوقائع النيرة التي كانت المرأة فيها عاملاً حاسمًا في الانعطاف بالدعوة من اتجاه إلى اتجاه، بدءًا من تبنّي خديجة رضي الله عنها للوحي وإنفاقها على الدعوة دون حساب، إلى صبر أمهات المؤمنين على البلاءات التي نالتهن لقربهن من النبي ﷺ، إلى موقف التعضيد الذي كان لبعضهن في أوقات الأزمة (موقف أمّ سلَمة يوم الحديبية)، إلى مناضلة بعضهن بالسهام دفاعًا عنه ﷺ (ثبات نسيبة بنت كعب أم عمارة) ومحاماتها عليه ﷺ بجسدها وسلاحها، والسهام تنوشه في أدق ساعات أحد؛ إذ انبرت تحمي وتدفع وتهيب بالمصدومين؛ “وكم هو حاسم صوت الحرة حين يعلو، يحدو إلى التضحية والموت نفاحًا على الكرامة”.

من تتبُّع يقظ لسيرة البطلات ممن احتللن الصف الأول في صناعة وقائع الدعوة وتاريخها، يستنبط كولن مبدأ مساواة الرجل والمرأة في الإسلام، فكلما اقتضت الحتميات من المسلمة أن تسفر عن وجهها، وتمتشق السيف أو القلم، المبضع أو المجرفة، بادرت إلى التجند دونما تردد، مسنودة في ذلك بحماية الله ورعايته… فهي في الواجبات كما في الحقوق مماثلة لأخيها الرجل سواء بسواء، يقول كولن: “لم تكن مهانة المرأة وتحقيرها والحط من شأنها قاصرة على عرب الجاهلية وحدهم، فالوضع نفسه كان موجودًا في الإمبراطورية الرومية والفارسية، لذا يمكن القول بأن ما قام به الإسلام فيما يتعلق بعالم المرأة بين عرب الجاهلية، يُعدّ عملاً لا مثيل له في قضية المرأة على نطاق العالم بأسره”.(ص:29)

يضيف: “المرأة والرجل نصفان متكاملان، ولا قوامة لأحدهما من غير الآخر. فلا تزال المرأة حتى لدى الذين يدعون الدفاع عن حقوقها إنسانًا من الدرجة الثانية، بينما نحن ننظر إليها باعتبارها نصف الوحدة الواحدة، فهي النصف الذي لا ينفع النصف الآخر بدونه، ومن اجتماع النصفين يتم تشكيل الوحدة الإنسانية الواحدة. فليس في الإسلام تفاضل بين الذكر والأنثى، وهذا ما أظهره الرسول ﷺ بنفسه، وأبانت عنه السنَّة المزكاة في عديد من المواطن”. (ص293)

وختامًا، فلا ريب أن محبة الداعية كولن -وكل رباني- للنبي الكريم ﷺ، أوشكت أن تكون فطرة تنبع في صميم ما في النفس من استعداد عشقي، تغدو به النبوة هي المحبوب الذي يولِّه القلب، وهي المعشوق الذي يشغف الفؤاد؛ لقد كان سلوك المواظبة على تأدية الصلاة التي بدأها كولن في عمر الغضاضة، إحدى العتبات التي ارتقاها، واشرأب منها صوب مطالعة الأنوار المحمدية، ونافذة يستروح منها نسائم السكينة والتزكية، والعنوب إلى وجه المحبوب ﷺ في كل آن. فمن ثمة غدت عنده سمة التبعية للسنة والسلف الكرام جبلة وطبيعة متأصلة وخيارًا في ذات الآن. فلا غرو نراه يردد: “أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي أدَّعي أنني وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون قطميرًا له ﷺ”.


المراجع 
(1) كل أرقام الصفحات معزوة إلى كتاب “النور الخالد محمد (ص) مفخرة الإنسانية”، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ط7، 1433ه-2012م.

Leave a Reply

Your email address will not be published.