نموذج الخدمة ضروي لتحقيق النهوض الحضاري
نوزاد صواش: ضيفنا في هذا الحوار الأستاذ إدريس الكنبوري المفكر والكاتب الإعلامي الصحفي المغربي، أهلاً وسهلاً بك.
إدريس الكنبوري: أهلاً وسهلاً ومرحبًا.
نوزاد صواش: أستاذي لقد قرأتم كتب الأستاذ فتح الله كولن، وزرتم العديد من تجليات مشروعه الواقعية، فإذا أردنا أن نصف فكر الأستاذ فتح الله كولن ومشروعه، أو البراديجما في التغيير كيف يمكن أن نلخصها انطلاقًا من تجارب واقعية رصدتموها واطَّلعتم عليها من خلال مشاهدتكم الحيَّة؟
إدريس الكنبوري: أولاً: إن تطبيقات الفكر الحضاري للأستاذ كولن التي وقفنا عليها سواء في هذه الزيارة أو في الزيارة التي سبقتها، تطبيقات عملية غنية جدًّا وتستدعي طرح مجموعة من التساؤلات، لكن النقطة المنهجية التي أريد أن أتوقف عندها وأتحدث عنها، هي أن هذه التجربة الغنية لم تجد أصداءً لها في الفكر الإسلامي المعاصر كمادة أو كموضوع للتحليل والتشخيص، ولاستخراج البراديجمات الجديدة في التطوير والتنمية البشرية، نحن نتحدث عن مجموعة من التجارب والناس -للأسف- تنقل من الغرب، لكن هذه تجربة حيَّة من التراث العربي الإسلامي، والناس لا تتعامل معها بالجدية الكافية وخاصة في العالم العربي، أنا أعتقد أن مراكز الأبحاث والأكاديميات والجامعات والباحثين يجب أن ينكبوا على هذه التجربة، لأنها راكمت من الخبرة ما يكفي، راكمت من السنوات ما يتيسر معه الآن أن نتوقف عندها بالتقييم والتمحيص، بل وبالنقد والإغناء والإنصات لأبناء الحركة الذين أعتقد أن كل واحد منهم يحمل وراءه تجربة فردية تذوب وسط التجارب الجماعية التي تُشَكِّل الكتلة الموحدة وهي حركة الخدمة التي أطلقها الأستاذ فتح الله كولن.
هذه الحركة مليئة بالدروس ومليئة بالإيجابيات ذات الأبعاد المختلفة، البعد العلمي والبعد المعرفي والتربوي والأسري والتعليمي، يعني هي شبكة متكاملة من الإنجاز الحضاري، ولذلك أعتقد أنه يجب الانكباب على هذه التجربة بمختلف اللغات وتعريف الآخر بهذه التجربة، لأنه في جميع الأحوال هذه التجربة تنتمي إلينا وننتمي إليها، هي تنتمي إلى نفس المشترك القيمي والعقائدي الذي نؤمن به، فهي تجربتنا جميعًا، فيجب أن نؤمن بها وأن نتصالح معها، وأن نعتبر أن إخوتنا في الخدمة استطاعوا أن يجترحوا تجربة جديدة حضارية يمكن للغرب أن يُنصت إليها وأن يستفيد منها حتى يفهم أن الإسلام قادر على إبداع تجارب وأنماط في التطوير والخبرات و التنمية الإنسانية والحضارة.
الأستاذ كولن لديه تجربة فكرية وروحية قوية، صبغها من التراث الإسلامي بلونه الخاص، وأوصلها إلى أبناء عصره مع تركيبات وقوالب وتفسيرات جديدة، تدفع دائمًا إلى الحركة البناءة الفاعلة المنجزة.
نوزاد صواش: طبعًا أستاذنا الكريم، ليس الغرض من هذه الحوارات الثناء والمدح، فهؤلاء الطيبون الذين جلسنا إليهم لا يحبون الثناء أصلاً ولا يحتاجون إلى الثناء، الأستاذ فتح الله كولن نفسه لا يحب الثناء لذاته، فهو صاحب الانمحاء وفكرة صفِّر نفسك (من التصفير) في اليوم مئة مرة، نحن هنا نرصد في النهاية، ونقول بدلاً من أن تسمعوا عن هذا الخير من هذا وذاك، ها هم أركان الأمة، المفكرون يأتون ويشاهدون مشاهدات ميدانية، وبعد ذلك يقومون بعملية رصد. فإذا أردنا يا أستاذي مثلاً أن نلخص تجربتنا هنا في دروس، إذا قلنا الدرس الأول مثلاً -طبعًا لا أقصد هنا الدرس بمعنى التعليم- هل يمكن أن نقول الإنفاق ونفتح بابًا في الإنفاق، لقدجلسنا في الصباح مع مجموعة من التجار المنفقين، والسؤال دائما الذي يثور في الأذهان عندما تُطرح فكرة الخدمة والإنجازات يُسأل عن التمويل، ما مصدر المال؟ هل هناك خراطيم بترول تأتي من الخليج يا ترى، أم لا أدري الغرب يدعم هذه الخدمات الكبرى والإنجازات، يعني ما الذي لاحظتموه؟
إدريس الكنبوري: في الحقيقة قضية التمويل والدورة المالية ودورة المشروعات داخل حركة الخدمة هي التي تثير الانتباه. العالم العربي ومنطقة الخليج كما قلتم منطقة غنية، لكن هذه الثروة ثروة جوفية، الحركة تقول بأن الثروة يمكن أن تكون ثروة إنسانية عبر التماسك الاجتماعي، وعبر سلسلة من السواعد البشرية داخل المجتمع يمكن أن ننتج الثروة، وليس بالضرورة أن تكون الثروة جوفية، نحن لاحظنا أن الثروة الجوفية في العالم العربي لم تؤد إلى نمو حضاري، لم تؤد إلى انفتاح مشروع فكري فعلي حقيقي يستطيع أن ينبثق منه مشروع إنساني حضاري، ولكن التجربة التي تخوضها الخدمة أثبتت أنه من دون ثروة يمكن خلق ثروات، لأن الإنسان في حد ذاته ثروة، وهذه ربما هي النقطة الرئيسية لدى الخدمة، ألا وهي المراهنة على الإنسان.
لقد توصَّل الغرب منذ عقود إلى أن الرأسمال الأساسي هو المواطن)الفرد)، ولقد أدركت الحركة أيضًا هذه الحقيقة، ولكن انطلاقًا من الدروس القرآنية، ومن السيرة النبوية ومن تاريخ الإسلام، لقد أدرك أبناء الخدمة أن مسألة الغنى والثروة المالية يجب أن يكون له هدف وليس موجَّهًا إلى الربح فقط، وإلى دورة من الربح المجاني الذي يدور في فراغ، وإنما هي دورة حضارية تدور ومعها تدور مختلف المسالك الفكرية والتجارب الحضارية، وإنتاج نخب وأجيال نامية تستطيع أن تترك للأجيال القادمة ثروة يبني بها حضارة، كما أنها تستطيع أيضا أن تأخذ من الجيل السابق، وهكذا دواليك يرث كل جيلٍ ممن سبقه في عملية فيها تلاقح وتراكم.
البعد الإنساني في نموذج الخدمة
نوزاد صواش: هذه الأجيال من التجار ورجال الأعمال ليست موجودة في مدينة إزميت فحسب، بل في إسطنبول وإزمير وأنقرة وأضنة وإسبرطة.. خذ كل مدينة من مدن تركيا ستجد هناك أجيالاً من رجال الأعمال يحملون هذا الوعي، هذا الوعي بحد ذاته أليس ثروة؟ تشكيل هذا الوعي أيضًا ليس سهلاً، جميع هؤلاء التجار يتحدثون عن النقلة النوعية التي طرأت على وعيهم، البعض يقول لك أنا عرفت هذا الخير على كِبَر؛ قبل سنتين أو ثلاث سنوات كنت أشتغل لنفسي ولذاتي، لكنني الآن أصبحت أشتغل لشيء آخر، يعني هذا الوعي وهذه النقلة النوعية ليست سهلة، أليس كذلك؟
إدريس الكنبوري: هذا صحيح، دعني أقول: أنتم قلتم في البداية إن أبناء الخدمة لا يريدون الإطراء أو الثناء، هذا الأمر ليس فيه ثناء وإنما هناك انبهار، انبهار قد يفهمه الآخر على أنه ثناء. أنا أعتقد بأن أي شخص يقف أمام هذه التجربة ويفهم فيها النصف أو يفهم فيها الثلثين ينبهر بها، وهذا ناجمٌ لأننا نحن العرب والمسلمين تكوَّنَّا في إطار ثقافة خَلَقَت لدينا آمالاً وطموحات، لكن هذه الآمال والطموحات والمبادئ والقيم لم يسندها واقع حقيقي، بحيث نستطيع أن نقول إن هناك انسجامًا بين ما نقرأه وما نراه في واقعنا، لكن الحركة ردمت هذه الفجوة، فلم تعد هناك فجوة بين القيم العربية الإسلامية الحقيقية والقيم القرآنية والنبوية وما بين الواقع؛ هذه الأمور التي وقفنا عليها والتي سمعناها وقرأنا عنها ليس من السهل تبسيطها في كلمات، بمعنى أنه ليس من السهل أن تأتي عند رجل أعمال مهمته الأساسية جمع المال، وتقنعه بأنه يمكن أن يتخلى عن الثلث أوالثلثين (من ماله)، كما وقفنا أمس عند حالة السيدة التي قالت أنها قررت منذ أن دخلت الحركة أن تستبقي لنفسها ثلث مالها، وأن تبذل الثلثين، ليس من السهل أن تصنع إنسانًا من هذا النوع.
نوزاد صواش: هذا ما تفعله تلك السيدة دائمًا وليس مرة واحدة.
إدريس الكنبوري: هذا النمط من الناس -حسب ما أفهمه- هو النمط الأساسي المتواضع عليه داخل الحركة، ليس من السهل أن تصنع شخصًا من هذه النوعية، وخاصة في عالم الأعمال، ففي عالم الأعمال الرجل يذهب إلى الأعمال أصلاً من أجل الربح، لكن أنت تقنعه بأن هذا الربح يجب أن يذهب إلى أشياء أخرى أهم. وأكثر من ذلك يحس وأنت تستمع إليه أنه يشعر بنوع من الاعتزاز، لأنه يعطينا قيمة أساسية عظيمة في القرآن من الصعب العثور عليها لأنها تدخل في إطار الصراع مع الذات، والجهاد الأكبر والتسامي، وهو أنك تتخلَّى عن ما يعتز به ويلهث وراءه الآخرو ن، أنت تعتز بأنك تتخلى عنه، هذه قمَّة الإنسانية بكل صراحة، لأنه ليس من السهل أن تصنع إنسانًا يقتل ذاته بداخله، ويعيش من أجل الآخرين ويحس بهم، ويشعر بالمتعة مع الآخرين، للأسف الشديد هذه الأمور نلاحظها عند المسيحيين المبشِّرين وخاصة جماعة الإنجيليين، هم يعتزون بأنهم ينشرون رسالة المسيح، وينشرون كلمة الكتاب المقدس فيخاطرون بأنفسهم ويجازفون بأموالهم وأنفسهم وأولادهم كما نقول نحن المسلمين، لكن بالمقابل لا نجد لدى المسلمين قدرة على اختراق الحواجز، علما بأنهم يتوفرون على الطاقات والإمكانات الكفيلة بأن يتجاوزوا بها ما يحقق هذه الأغراض.
ليس الغرض من هذه الحوارات الثناء والمدح، فهؤلاء الطيبون الذين جلسنا إليهم لا يحبون الثناء أصلاً ولا يحتاجون إليه، الأستاذ كولن نفسه لا يحب الثناء، فهو صاحب الانمحاء وفكرة صفِّر نفسك في اليوم مئة مرة.
طبعا المسيحيون يفعلون ذلك مدفوعين بعقيدة تقول بأن المسيحية دين المحبة، لكن نحن في الإسلام نقول إن الإسلام رسالة للعالمين، إلا أننا إلى الآن لم نُطبِّق الإسلام بصورة أساسية تستطيع أن تجتذب الآخرين إليه، فلا نقدمه على أساس أنه دين الرحمة أو المحبة أو دين العطاء أو دين البذل.
نقول إنه رسالة للعالمين. لكن رسالة للعالمين ما مضمونها؟ الحركة تقول إن مضمون هذه الرسالة للعالمين هو المحبة والعطاء للآخر والحياة مع الآخر، لأنك إذا منحت الحياة للآخرين أنت تمنح الحياة لأبنائك وتضمن الأجيال المقبلة، فالإنسان لا يعيش بمفرده، رجل الأعمال إذا كان في جزيرة خالية لا يستطيع أن يعيش، والعامل الذي يعيش في الخلاء لا يستطيع أن يعيش، رجل الأعمال يعيش بالآخرين، والآخرون يعيشون برجل الأعمال، وهذا هو المشترك الإنساني، هذا المشترك الإنساني الحركة تعطيه معنى، وهذا المعنى هو المعنى الإسلامي.
نوزاد صواش: يتحدث بعض التجار عن اتساع الأفق عندهم، فمثلاً يتحدثون عن الأضاحي وكيف وظفوا الأضحية بصورة حضارية مختلفة، للانفتاح على العالم، حبذا لو حدثتنا عن ذلك، انفتاح الأفق عند هؤلاء وكيف ساعدهم اتساع أفقهم على نشر رسالة الرحمة للعالمين، حول هذه الأشياء ما قولكم أستاذي؟
إدريس الكنبوري: في الحقيقة نحن استمعنا لمجموعة من التجار حول عددٍ من الحكايات الملهمة، استمعنا لأحد الأشخاص الذي حكى بأنه هاجر إلى إفريقيا الوسطى، حيث المجازر الدموية بين المسلمين والمسيحيين، بينما مدراس الخدمة لم يمسها سوء، بسبب أن الهدف الرئيسي للخدمة هو تعاملها مع الجميع في مستوى الإنسانية، وليس في مستوى الانتماء الديني، وهذا هو الذي جعلهم يحظون بحظوة القبول من الجميع، هذا في الحقيقة سر تتوفر عليه الخدمة، بمعنى أنها تتعامل بنوع من التوازن وبنوع من المحبة مع الجميع؛ هذا هو الذي يضمن لك قبول الرسالة، ولذلك ليس من السهولة بمكان أن نجد مثل هذه النماذج الناجحة.
نوزاد صواش: المنهج لدى هؤلاء أنهم ليسوا مسلمين من أجل المسلمين فقط، بل يؤمنون بأن رسالة المسلم للإنسان أينما كان، لقد حدثونا أنهم في الأضاحي يوزعون اللحوم ليس على المسلمين فقط بل حتى على المسيحيين الفقراء، فهناك وعي بأن رسالة المسلم ليست فقط للمسلمين بل لغير المسلمين أيضًا.
إدريس الكنبوري: هذا صحيح، وكما نُسب للمسيح عليه السلام في الأناجيل، بأنه إذا فعلت الخير لابن دينك فأنت لا تفعل الخير، لأن دينك ينص عليه، ففعل الخير منوطٌ بفعلك الخير لمن ليسوا على دينك، والإمام علي رضي الله عنه يقول بأن الناس إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، الحركة تطبق هذا الأمر، فالإنسان الذي لا ينتمي إلى دينك هو مشروع مسلم، وفي التجارب التاريخية وفي السيرة النبوية وفي تاريخ الإسلام كثيرون من الصحابة الفضلاء الذين نتبرك بهم ويتبرك بهم المسلمون، كانوا من غير المسلمين ثم أسلموا، وما يدريك أن هؤلاء في يوم من الأيام سوف يختارهم الله عز وجل كي ينصروا دينه ويفعلوا أكثر مما فعل ابن العالمَ المسلم الذي ولد على فطرة الإسلام.
هذا ليس هو المشكل، المشكل هو كيف نستطيع أن ننشأ مع الآخرين بصرف النظر عن الانتماء الديني لأننا إذا انفتحنا على الآخرين الذين لا ينتمون إلى ديننا فنحن نقدم لهم ديننا الذي نقول إنه رسالة للعالمين، أما إذا انفتحت على أخيك المسلم فقط الذي في بلدك، فأنت لم تطبق مفهوم أنه “رسالة للعالمين”، لأن هذا المفهوم يقتضي أن تتعامل مع الجميع؛ مع الكافر، مع الملحد، مع المسيحي واليهودي والمجوسي أيًّا كان، لأن هؤلاء هم المشتركِون معنا في الربوبية أهل العقائد في جميع أحوالهم مشاريع يمكن أن ينصروك، سواء أسلموا او لم يسلموا يمكن أن ينصروك.
فالتجربة التي استمعنا إليها صباحًا هي نوع من النصرة، في إفريقيا الوسطى المسيحيون لم يستطيعوا استهداف المدارس التابعة للخدمة، إذن هذا نوع من النصرة، فلولا عمل الخير ولولا الانفتاح على مفهوم العالمية وإدخال المسيحيين في إطار العالمية لما حدث هذا الأمر.
نوزاد صواش: أستاذي مما هو جدير بالذكر هنا أن قوافل الأضاحي هذه تخرج من تركيا تقريبًا منذ خمسة عشر سنة، في العام الماضي أظن حوالي خمسين ألف تاجر خرجوا إلى كل أنحاء العالم، هؤلاء التجار لا يكونون في عيد الأضحى وسط أبنائهم وأسرهم بل يخرجون إلى دول مختلفة بأضاحيهم، يذبحونها هناك يوزعونها على الفقراء، يذبحونها عند بعض أشراف القوم في المؤسسات المهمة ويوزعونها على الناس، يضربون المثل الأعلى في القيم، وكل ذلك يكون بتوجيه من الأستاذ. لقد حدَّثونا ذات يومٍ عن توزيع لحوم الأضاحي في موزمبيق، وكيف وزَّعوها في مبنى من قصب صغير يسمى مسجدًا، وكيف أنهم بعدها أسسوا مسجدًا كبيرًا مكانه، وإلى جانبه مدرسة ومبيت للطلبة ومطعم وما إلى ذلك. إن رؤية مثل هذا الخير يجعل الإنسان مجبورًا على احترام قيم المسلم وعشق الإسلام، أحد الأشخاص في إحدى جولاته في تركيا عندما رأى هذه الطيبات، قال: هل يمكن لإنسان ألا يعشق المسلم وألا يعشق الإسلام عندما يرى هذه الخيرات، لقد ساهمنا نحن -المسلمين- في ضياع بعض القيم، ورفعنا شعارات حماسية لم نحسن فهمها وشرعنا نرفع السيف لقتل الناس وترويعهم، فتكونت صورة سلبية عن الإسلام أدَّت إلى نفور الناس منه، لكن رسالة حركة الخدمة إلى الناس، رسالة سلام ومحبة وتسامح، وهذا ما تعكسه أنشطتها.
الخدمة أثبتت أن الثروة يمكن أن تكون ثروة إنسانية عبر التماسك الاجتماعي، وعبر سلسلة من السواعد البشرية داخل المجتمع، وليس بالضرورة أن تكون الثروة جوفية من بترول ومعادن إلى آخره.
إدريس الكنبوري: صحيح، لقد قدَّمت حركة الخدمة للإنسانية الخير والحياة كما قلنا أمس في لقاء مع مجموعة من أساتذة حركة الخدمة، بينما الحركات التكفيرية والحركات المتطرفة العدوانية توجِّه سهامها تجاه المسلم وغير المسلم، وهذه الحركات قد اختزلت الجهاد في القتل، بينما حركة الخدمة قدمت مفهومًا جديدًا للجهاد واعتبرته إحياء الناس وليس تقتيلهم، فقتل الناس لا يفيدهم بل يُعجِّل بعذابهم، والأفضل من ذلك هو إحياؤهم على الإيمان بربهم، وهذه هي المعادلة الصعبة، وهناك كلمة جميلة جدًّا قالها الروائي الفرنسي “أندري مالرو” في روايته “الوضع البشري” التي كتبها عن صراع الشيوعيين في الصين قال: إنه من الصعب أن تقضي أربعين أو خمسين سنة في تربية إنسان توفر له المأكل والمسكن والمشرب والتعليم والحياة والكرامة، وإذا ما أردت أنت أو غيرك قتله لم يستغرق ذلك إلا أقل من نصف ثانية، فبضربة واحدة يمكنك أن تقتله، فالإحياء هو الصعب، لكن الموت هذا أمر سهل، الحيوان يقتل، لكن طبيعة الإنسان أنه يحيي، لأن الله عز وجل أرسلنا للإحياء وليس للتقتيل.
مركزية التربية والتعليم في الخدمة
نوزاد صواش: أستاذي إذا انتقلنا إلى ملف التعليم فنحن الآن أمام ظاهرة مختلفة لعلك سمعتها من بعض الأفارقة عندما حدثونا عن مدارس الخدمة هناك، قالوا: سابقًا جاء التجار المسلمون إلى هذه الديار فتعلمنا منهم الخير، لكن في هذه الحالة وفي هذه الموجة نحن أمام شيء مختلف، يأتي معلمون ويأتي معهم التجار، فيمتزج العلم مع التجارة، فهل نحن أمام ظاهرة جديدة مختلفة في هذه المرة؟
إدريس الكنبوري: نعم، لقد أدركَ الرعيل الأول من المصلحين المسلمين أهمية التعليم بمن فيهم أيضًا الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، جميعهم تحدثوا عن التعليم، لأن التعليم هو إنتاج إنسان على المدى المتوسط والبعيد؛ عندما تُوَفِّر إمكانيات معينة للإنسان أنت تضمن على مستوى يوم أو يومين سنة أو سنتين وتضمنه وحده، لكن عندما تُهيئ تعليمًا قويًّا فأنت تهيئ أمة على المستوى المتوسط والبعيد يعني تبني حضارة.
نوزاد صواش: تصنع المستقبل
إدريس الكنبوري: نعم تصنع المستقبل وهذا ما لاحظه الأولون، ولذلك ركَّز المشروع الذي جاء به الأستاذ كولن على أهمية هذه المسألة، ونحن نلاحظ أن الدول الإسلامية والعربية في بداية حركات الاستقلال -بسبب هيمنة الإيديولوجيات آنذاك وأن الفكر الإصلاحي ما زال طريًّا- كانت مقتنعة بأن التعليم مهم جدًّا، الدليل على ذلك هو أن مجموعة من الوزارات “بما فيها وزارتنا نحن في المغرب” كانت تسمى وزارة التربية والتعليم، بمعنى أن التعليم لا يمكن أن يكون منفصلاً عن التربية، فيما بعد تمَّ التخلي في العالم العربي والإسلامي عن قضية التربية، فُوِّضت قضية التربية إلى التلفزيون وإلى الشارع وإلى الدعاية الأجنبية إلى آخره، وبقي التعليم الذي يستهدف أدمغة الناس فقط. لكن حركة الخدمة أدركت هذا الخلل، وأنه من دون تربية لا يمكن أن يكون هناك شخص مُربَّى على المستوى القلبي وعلى المستوى النفساني، وأن المعرفة العقلية لا يمكن أن تؤدي إلى أي نتيجة. لأن الحامل الذي يحمل هذا المحمول فيه خلل ومتهالك، لا تهم الإفرازات العلمية ولا الأفكار إذا لم يكن الإنسان سويًّا لديه قيم حقيقية ويعرف ماذا يريد من خلال العملية التعليمية.
نوزاد صواش: إذًا تم َّ تناول الإنسان ككلٍّ عقلاً وقلبًا
إدريس الكنبوري: نعم المشروع الذي جاء به الأستاذ كولن يؤكد على هذه الروابط المشتركة ما بين التعليم والتربية؛ فالتعليم يؤدي إلى التربية، والتربية تؤدي إلى بناء التعليم، وهؤلاء الذين تربوا في مدارس الخدمة وفي مشروع الخدمة تعلموا وتربَّوا، وبتربيتهم الآن يبنون مؤسسات تعليمية في البلدان الأسيوية وفي البلدان الأفريقية، وغيرها من بلدان العالم.
نوزاد صواش: يعني حلقة صالحة ولَّادة.
إدريس الكنبوري: حلقة صالحة من الدورة الحضارية العظيمة الممتدة على مستوى الزمن.
نوازد صواش: أستاذي عفوًا نحن رأينا تجارًا أصلاً نشأوا في هذه المدارس، ورأينا مدرسين أصلاً هم خِرِّيجو هذه المدارس، ورأينا خبراء من المهندسين والأطباء من خريجي هذه المدارس، فهذه مخرجات، ورأينا كيف أنهم يتحركون في المجتمع ويبنون الحياة وينشرون هذا الخير، لكن البعض قد يقول سعيُ حركة الخدمة لبناء الإنسان في تركيا قد أفهمه، لكن هذا الانفتاح على العالم لبناء مدارس في كل أنحاء العالم كيف تُقَيِّمه؟ يعني ما الدافع إلى ذلك؟ وما الأفق الذي تبتغيه الخدمة؟ هل هناك همٌّ أكبر من همِّ تركيا؟
إدريس الكنبوري: صحيح أنا زرت إسطنبول في السنة الماضية ووقفت على بعض مشروعات الخدمة، لكن الجديد هذه المرة أنني أدركت أن مشروع الحركة ليس تركيًّا فقط بل يتجاوز تركيا، كانت الفكرة السائدة عند كثيرين هو أن هذا المشروع تركي لا يتجاوز الحدود، لكن اكتشفنا اليوم وأمس في لقاءات مع مجموعة من الأفراد في الحركة أناسًا من الخدمة يستهدفون المناطق الوعرة من ناحية، ويستهدفون المناطق المنكوبة من ناحية ثانية، بما في ذلك المناطق التي تسودها حروب أهلية، يعني يُجازفون ويُخاطرون بأنفسهم، ويستهدفون المناطق القاحلة التي لا تملك شيئًا.
نوزاد صواش: إذن أنت تتحدث عن المجازفة؟
إدريس الكنبوري: طبعًا هي مجازفة، فهم أشخاص أصحاب رسالة ولديهم همٌّ، وهل يمكن أن تُسمي الذهاب إلى منطقة فيها حروب أهلية بغير حماية وبغير حصانة إلا مجازفة، إن هذه المغامرات لا يمكن أن يُقدم عليها إلا من لديه قضية بالفعل.
مشروع الخدمة يؤكد على الروابط المشتركة بين التعليم والتربية، فالذين تربوا في الخدمة تعلموا وتربَّوا، وبتربيتهم الآن يبنون مؤسسات تعليمية في كل بلدان العالم.
نوزاد صواش: الآن اليمن فيه مشاكل وفيه حرب أهلية، لكن مدارس الخدمة موجودة هناك، المدارس في تعز تعمل إلى الآن، والأخوة من المدرسين في عدن وفي صنعاء لازالوا هناك، وكذلك الحال في العراق أيام حرب العراق، المدرسون بقوا هناك فبينما ترك الناس العراق هم بقوا هناك.
إدريس الكنبوري: صحيح أمس واليوم في الحقيقة نحن استمعنا إلى قصص مثيرة ومحزنة جدًّا، الناس تسير وسط الكوارث بكل صراحة، أمس سمعنا أمورًا عن البوسنة أناس خاطروا بأنفسهم أيام الحروب، وسمعنا اليوم عن إفريقيا الوسطى، وسمعنا عن بلدان إفريقية أخرى فيها حروب أهلية، سمعنا أيضًا عن مالي، إذن هؤلاء الناس رجال مخاطرة، هم يُشبهون متسلقي الجبال بكل صراحة، فهذه نماذج تستحق أن نتأمل فيها ونقف طويلاً عندها، أناس مقتنعون بقضيتهم، ونحن لا نستطيع استيعاب تضحياتهم، لأنه ليس من سمع كمن رأى.
نوزاد صواش: يبدو أستاذي أن هناك قيمًا لا يمكن أن تفسرها بالمنطق البراجماتي، ينبغي أن تفسرها بطرق أخرى، مثلاً الإخوة في أربيل أيام حرب الخليج حدثونا أنه شاع خبر أنه سيُرمى أسلحة كيماوية في أربيل، يقولون ترك كل الناس المدينة، وجلس مدرسو الخدمة يفكرون ماذا يفعلون؟ فقالوا: لو خرجنا لن نستطيع العودة مرة أخرى إلى هنا، فأخذوا بعض الاحتياطات في المدرسة، وجاءوا بالأولاد والسيدات وجلسوا في المدرسة ينتظرون قدرهم، قائلين هذا وطننا فإن كنا سنموت فلنمت هنا.
ثم يقول الأخوة لم يُرم سلاح كيماوي، فعاد الناس فوجدوهم هناك، بعد ذلك أقبل أهل كردستان العراق عليهم حكومة وشعبًا، وقالوا فيما بعد: واللهِ أنتم لم تتركونا في أوقات الشدة فكيف نترككم نحن في وقت الرخاء؟ يعني الوفاء للشعوب أوقات الشدة، أظن أن هذه نقطة في غاية الأهمية، وأعتقد أن هذه القصة نفسها ستسمعها في كل بلدٍ عاش معاناة فوجد هؤلاء الأبطال عندهم في تلك الأوقات.
إدريس الكنبوري: كلامكم ألهمني بعض المقارنة مع بعض رجال التصوف أو المنتسبين إلى التصوف، كنا نسمع في البداية والبعض حتى الآن يعتقد أن حركة الأستاذ كولن هي حركة صوفية، والإنسان عندما يتبادر إلى ذهنه هذا المصطلح مصطلح التصوف، يُفكر في التكايا والزوايا والخمول والمشيخة إلى آخره، لكن الحركة ليست حركة صوفية، هي حركة تربية وبناء حضاري، هذه الأمور التي نتحدث عنها في بعض البلدان الموبوءة والمأزومة هي نوع من الكرامات، هي كرامات تليق بمشروع حضاري يبني.
في التصوف بعض الناس يُصدِّعون عقولنا بكرامات من نوع أن الرشاق (الشيخ) يطير فوق الماء، من دون أن يكون وراء هذا المشروع أو هذا الشيخ أو هذه الزاوية مشروع حضاري، لكن هذه كرامات حقيقية فعلاً، ناس يبنون مدرسة لأطفال لا يجدون قوت يومهم، ويبنون مستشفيات إلى آخره، ويعتصمون في أماكنهم ويرابطون بالاصطلاح الصوفي، فهذه هي الكرامات المعاصرة. إذًا نحن تحدثنا عن مفهوم الجهاد وعن مفهوم الهجرة والآن عن مفهوم الكرامة أيضًا، مفهوم الكرامة يجب أن يخرج من الطقوس ومن الدجل والخرافة والشعوذة إلى الحقيقة المتحركة على مستوى الأرض.
نوزاد صواش: يعني أستاذي هل يمكن أن نقول إن هؤلاء الأبطال الذين هاجروا إلى كل مكان في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، شرق العالم وغربه، إفريقيا، آسيا، أوروبا، والآن إلى أمريكا والشرق الأقصى وأستراليا، كان دافعهم ومُحرِّكهم هو شعورهم بمعاناة الإنسان، ومحاولة تَمثُّلهم لتلك المعاناة التي كان يشعر بها النبي صلى الله عليه وسلم، هل هؤلاء الفرسان يشعرون بمسؤولية كونية، وإلا فماذا يفعل هؤلاء في النيجر في إفريقيا الوسطى وفي مدغشقر. ذكر لنا قبل أيام بعضُ التجار من مدينة أدرنه أنهم بدأوا يبحثون في الخريطة عن بلد لم يذهب إليه أحد من الخدمة ليفتحوا فيها مدارس، قالوا: فوجدنا جزيرة صغيرة بالقرب من مدغشقر لا تبدو في الخريطة اسمها موريشيوس، قالوا: ركبنا لنكون نحن السباقين إلى تلك الجزيرة فنؤسس شيئًا، دولة صغيرة تعداد سُكَّانها حوالي مئة ألف فوجدنا -يقول هذا الأخ- أن الأخوة أسسوا مدرسة هناك ويستقبلوننا في المطار. السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما هو الهم الذي يحمله هؤلاء ويدفعهم للهجرة إلى أي كل مكان في العالم، كيف تفسرون ذلك؟
إدريس الكنبوري: أستاذي هذا المشروع يتجاوز الكلمات بكل صراحة، يعني أنت عندما تجد دولة بكل صولجانها وبكل مؤسساتها لا تستطيع أن تقوم حتى بخمس هذه المشروعات وتجد حركة تقوم بها، هذا شيء أولاً يسترعي التفكير، وفي ذات الوقت يدعو إلى الشعور بالألم، 22 دولة عربية وأكثر من 60 دولة إسلامية في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تستطيع أن تُقيم مشروعًا جماعيًّا أو فرديًّا يُساعد في كفكفة دموع الآخرين وإطعام الجائعين منهم وإنقاذ من تتعرض حياتهم للخطر، أحيانًا يحز في نفوسنا بكل صراحة أننا نرى ممثلين وممثلات أمريكيين تتجلَّى فيهم الإنسانية الراقية، التي تدفعهم للذهاب إلى الأماكن المنكوبة ومساعدة أهلها، وعندما يعودون يلفتون أنظار العالم إلى تلك المآسي من خلال استضافتهم في قنوات التلفزيون التي يتحدثون فيها باكين متألمين عن تجاربهم الإنسانية في مساعدة أصحاب الحاجات، ولا يملك المرء أمام ذلك إلا لوم أنفسنا كمسلمين، كيف نكون أقل غيرة على الإنسانية منهم، إن هذا الطرح مهم للغاية. وأنا أعتقد أن المسألة الرئيسية فيما قلتم تعود بالدرجة الأولى إلى الفكر الذي وضعه الأستاذ كولن، هؤلاء الأفراد يتحركون حول مشروع ولكنه ليس أيَّ مشروع، بل هو مشروع بُني حول فكرة، والأستاذ كولن كما قرأنا في كتبه يرُكِّز بالدرجة الأولى على الإنسان في هذا المشروع، ويعمل على أنسنة الإسلام، أي أن يصبح الإسلام فعلاً دين الإنسانية، أن يصل إلى منتهى ما وصلت إليه الإنسانية حتى لو كان ذلك في جزيرة أو لو كان في أي مكان آخر، يعني حاول أن يعطي الأستاذ كولن لهذا البعد الإنساني مفهومه الحرفي الحقيقي، كما أنه لا بد وأن يكون لهذا المشروع شفرة أو كود يجب فكُّه.
نوزاد صواش: كيف سنفكُّه؟
إدريس الكنبوري: أنا أعتقد أن فك شفرة أو كود هذا المشروع يكمن في التفكير فيه من منطلق القيم التي تربى عليها المسلمون، والتي يمكن أن نسميها القيم الصامتة، هي قيم موجودة في تراثنا الإسلامي لكنها قيم صامتة نقرأها ونحن نشعر بالخشوع ثم نعتبرها تاريخًا ونطوي صفحتها ونمضي، أما مشروع الأستاذ كولن فقد وقف عند هذه القيم الصامتة، وحاول أن يُنْطِقها، حاول أن يقول بأن هذه القيم يمكن إنطاقها من جديد، وعندما نقف عند أمور في حياة الصحابة أو أمور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة بعض الصالحين نتساءل، هل هذه القيم خلقت لكي تموت؟ وهل هي قاصرة على هؤلاء الرجال، هل هؤلاء الرجال كانت فيهم كروموزومات معينة لا يمكن أن تكون في أشخاص آخرين؟ هل كانوا يعيشون في أطر اجتماعية مختلفة عنا؟ وعندما تتبين لنا الحقائق نوقن أن هذه القيم يمكن بعثها من جديد، وأن المطلوب هو أن يكون هناك رجل في مستوى الأستاذ كولن وأن تكون هناك نفوس متقبلة لهذا المشروع مثلما عليه الآن أبناء الخدمة.
الأسرة والمرأة في نموذج الخدمة
نوزاد صواش: أستاذي لو غيرنا الموضوع ودخلنا في مجال المرأة، لقد زرنا بعض الجمعيات النسائية، والتقينا بسيدات أعمال فما الذي لاحظتموه؟ وما مكانة المرأة في الخدمة؟ أو ما دور المرأة من خلال ما رصدتم؟ وما هي القناعات التي تشكلت لديكم؟
22 دولة عربية وأكثر من 60 دولة إسلامية في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تستطيع أن تُقيم مشروعًا جماعيًّا أو فرديًّا يُساعد في كفكفة دموع الآخرين وإطعام الجائعين منهم وإنقاذ من تتعرض حياتهم للخطر.
إدريس الكنبوري: أولاً، قبل لقاء أمس، من يقرأ أفكار الأستاذ كولن يقف على مجموعة من الأمور، مصطلح الخدمة قريب من المرأة الأم والزوجة والأخت وقريب من مصطلح العطاء أيضًا، وهو كذلك مرتبط بالمرأة، فهي التي تعطي الحياة، أي مشروع لا توجد فيه المرأة في موقع مركزي فاشل، هذه مسألة قرآنية والأستاذ كولن أدرك هذه المسألة، واستطاع بنباهته ودقته استخراج هذا المفهوم، لقد لاحظنا أمس أن المرأة تجاوزت بعض الخطوط الحمراء وأصبحنا نجد نساء أعمال في إطار جمعية يقمن بأشياء عجيبة، نساء مرابطات في جمعيات يشتغلن ويجمعن ما بين أشغال البيت وواجبات الزوج والأبناء ثم واجبات الخدمة، وبالتأكيد هؤلاء أيضًا أزواجهن وأبناؤهن في الخدمة، إذًا هناك مشروع لا يتحدث عن المرأة ولا عن الرجل، هو مشروع أسري، كما أن الأستاذ أيضًا يركز على مفهوم الأسرة، الخدمة مشروع أسري شامل كما أن الرجل بحاجة إلى المرأة والمرأة إلى الرجل وهم جميعًا إلى الأسرة والأبناء، كذلك مشروع الخدمة في حاجة إلى الجميع، والمرأة أكثر دافعية على العطاء، أكثر قدرة على التحفيز، هي بمقدورها أن تحفِّز أبناء جنسها وأن تحفز الرجال على العطاء لأن فيها بعض الخصال التي فطرها الله عز وجل عليها؛ فيها الحنان والمودة والحساسية والعاطفة إلى آخره، بالأمس مثل السيدة التي قالت إنها تتخلى عن ثلثي أرباحها وتستبقي الثلث لأبنائها، علينا أن نتخيل، ليس فقط أنها تعطي الثلثين، يجب أن نتخيل مقدار الثلثين في هذه الأرباح التي تجنيها، إنها الملايين من الدولارات التي تتحصل عليها وتنفقها، هذا ليس من السهل، وهذه سيدة شيء عجيب بكل صراحة.
نوزاد صواش: حتى التجارة الخارجية، يعني لا يقمن بتجارة محلية فقط.
إدريس الكنبوري: وهؤلاء لهن امتداد، كما لاحظنا في الصباح سيدات أعمال على المستوى العالمي وعلى المستوى الإقليمي، لهن مشاريع في مختلف البلدان، في إفريقيا وآسيا وأوروبا ولسن تاجرات ولا سيدات أعمال صغار، هن سيدات أعمال كبار، بمقدورهن أن يصنعن من أموالهن أشياء عجيبة لأنفسهن لو أردن فقط الدنيا، بإمكانهن أن يوظفنها في السياسة ويحصلن بها على مناصب، فبإمكان المال أن يصنع أشياء كثيرة اليوم، لكنهم يصنعون بها الشيء المختلف، الشيء الذي لا يدركه الآخرون.
نوزاد صواش: هم لا يبنون مجدًا دنيويًّا لذاتهم، لو أردوا أن يفعلوا لفعلوا.
علاقة الخدمة بالسياسة والمجتمع
نوزاد صواش: أستاذنا الكريم لقد ترسَّخت في أذهاننا -نحن المسلمين- قناعة مؤداها، إذا أردت أن تغيِّر ينبغي أن تأخذ السلطة وتتخذ قرارات وتُملي هذه القرارت من أعلى إلى أسفل حتى يمكنك أن تُحْدِث التَّغيير، ما الذي وجدتموه مختلفًا في فكر الخدمة؟ وهل الأستاذ فتح الله كولن يرى أن درب السلطة ومسلكها هو الصحيح؟ أو ما هو منهج الأستاذ في التغيير؟ماذا رصدتم في ذلك؟
إدريس الكنبوري: حقيقة أخي الكريم، المسألة ليست في حاجة إلى الكلام الكثير، لقد قلنا أمس إن الإسلام ليس في حاجة إلى الكلام، وحسب ما وقفنا عليه فإن الحركة ترى أن الإسلام عمل، وهذا هو مفهوم ما يسمى بالتجديد الديني، الأستاذ كولن يقول: إن المشكلة ليست في تجديد الدين أو في تجديد فهم الدين، وإنما في تجديد ممارسة الدين. تجديد فهم الدين موجود في الكتب، هناك كتب كثيرة تتحدث عن تجديد مجموعة من المفاهيم، لكن أين هي على مستوى الواقع؟ الأستاذ وضع إطارًا لتنزيل هذه المفاهيم، يجب أن تمارس، أنت تجدد مفهومًا معينًا ثم تتركه، إذًا ما الفائدة؟
إذا لم تُنزِّل هذا المشروع فما الفائدة من تجديد المفاهيم؟ يجب أن يكون تجديد فهم الدين مصاحبًا لتجديد تنزيله، إذا لم تكن هذه القنطرة التي تجمع بين الطرفين فلا فائدة من تجديد فهم الدين كما نسمع اليوم، وبالعكس أنا أعتقد أن الحديث عن السلطة والحديث عن السياسة يجب أن نلاحظه من هذه النقطة بالذات، أن نقف عند التجربة التي راكمتها حركة الخدمة وأن نقارن بما تحصَّل لدى مجموعة من الناس الذين طمعوا في السلطة بعيدًا عن التنظير عمَّا يقول هؤلاء وأولئك؛ هذه حركة راكمت بهدوء على مدى سنوات طويلة، مجموعة من الخبرات، أقامت أعمالاً ومنجزات خيرية في عديد من مناطق العالم، ونجحت في أن تنتشل مجموعة من الناس من الفقر ومن الانحرافات ومن التخلف ومن الإبادات إلى آخره.
يجب أن يكون تجديد فهم الدين مصاحبًا لتجديد تنزيله، إذا لم تكن هذه القنطرة التي تجمع بين الطرفين فلا فائدة من تجديد فهم الدين كما نسمع اليوم.
وبالموازنة مع ذلك تجارب بعض الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة لم يصاحبها إلا العنف، لأنك إذا طمعت في السلطة أنت لست وحدك الذي تطمع في السلطة، هناك كثيرون أيضًا يطمعون في السلطة، وإذا أخذتها فهناك من سيقاتلك عليها، لكن الخير شيء آخر، العمل الخيري إذا أخذته فهناك قليلون سوف يقاتلونك عليه. وبين ما استطاعت حركة الخدمة تحصيله وفعله، فقد حقَّقت مكتسبات ومنجزات خيرية في العديد من مناطق العالم كما سمعنا وكما قلتم، ونجحت في أن تنتشل مجموعة من الناس من الفقر ومن الانحرافات ومن التخلف ومن الإبادات إلى آخره.
نوزاد صواش: إذا تسابقوا معك في الخير نافسوك في الخير، فهذا ما دعا الله إليه.
إدريس الكنبوري: هذا صحيح، لكن التنافس على السلطة يؤدي إلى أعمال دموية وإلى حروب أهلية، وهذا رأيناه، رأينا هذا البراديم للحركات الإسلامية التي تبني رؤيتها في الإصلاح على الوصول إلى السلطة، ولقد أثبتت التجارب العملية فشل هذه الرؤية، وإن كان هناك بعض من الناس ما زالوا ينتظرون ويأملون خيرًا من هذه الرؤية، لكني أعتقد أن السنوات المقبلة سوف تثبت لهم خطأ رؤيتهم، وسوف يعيدون الكرَّة إلى الوراء كما فعل كثيرون. هناك البعض ذهب إلى الزوايا الصوفية، وهناك البعض اقتنع بالتربية وهناك آخرون غادروا، والكثيرون الآن ينتقدون تجارب الإخوان المسلمين وتجارب الحركات الإسلامية الأخرى لأنها بنت نظريتها في الإصلاح على مسلك السياسة، والسياسة دائمًا من طبيعتها أنها تفرِّق، وأنها تصنع الصراعات ولا تبني، والتجارب التي حصلت وخاصة بعد ما يسمى الربيع العربي أكدت هذه النقطة، هناك إسلاميون وصلوا إلى السلطة، ما هي النتيجة؟ إنهم يدورون في فراغ، عملية انتخابية، مصالحة، توافق إلى آخره، والمحصِّلة في النهاية أن المجتمع يضيع، لازال الفقر منتشرًا، ومعدلات البطالة في ازدياد، ومؤشر التعليم في تأخر، لا يمكنك إحداث أي تغيير لأن الخلافات السياسية تجعلك دائمًا تؤجل ويبقى التأجيل مفتوحًا. لكن في المقابل لم نسمع عن أحد ينتقد مثل هذه الأعمال الخيرية، لم نسمع عن أشخاص ينتقدون مشروعات سواء كانت للخدمة أو لغير الخدمة.
نوزاد صوش: أستاذي فيما يتعلق بالمجتمع المدني، مفهوم المجتمع المدني وتفعيل الأستاذ للمجتمع المدني هل نحن أمام محاولة لنمذجة مجتمع مدني في بيئة إسلامية؟ هل يمكن أن نقول هذا؟
إدريس الكنبوري: أعتقد أن تجربة الخدمة لا تعني أسلمة المجتمع المدني كما يقول البعض، وإنما التجربة تعني ممارسة الإسلام أو إحياء الدين أو كما قلنا تجديد فهم الدين وتجديد ممارسة هذا الفهم، هذا كل ما في الأمر، لأن مصطلح المجتمع المدني هذا مصطلح أوروبي لديه سياقه، أنجز الشيء الكثير في المجتمعات التي ظهر فيها، وكان ذلك موافقًا لأديانهم ولثقافتهم، لذلك كان مصطلحًا طبيعيًّا ومشروعًا لأنه ملتصق بثقافتهم، نحن أيضًا يجب أن يكون لدينا شيء ملتصق بثقافتنا، لا يمكن لك أن تقلد شيئًا من غيرك إلا إذا كان موافقًا لموروثك الثقافي والديني، كما أن غيرك لا يستطيع أن ينقل شيئًا مختلفًا عن عقيدته وثقافته، فمثلاً نظام الوقف عندنا أو نظام الزكاة لا يمكن للغرب أن يأخذه عنا، أنا أعتقد أن هذا هو التجديد الحضاري، نحن يجب أن نجدد من داخل الإسلام؛ ولذلك فالسؤال الذي يجب أن يطرح، هل عجز الإسلام عن إبداع هذه الاصطلاحات، أو هل نحن كمسلمين عاجزون عن ابتكار اصطلاحات تتوافق مع ديننا؟ في الغالب نحن إذا رجعنا إلى المفكرين الأوائل الذين بنوا النهضة الأوربية وعصر التنوير سنلاحظ شيئًا أساسيًّا جدًّا، وقد سبق وأن كتبت عنه في السنة الماضية، والقليلون جدًّا من المفكرين العرب يلتفتون إليه، والبعض ربما يهمله ويتناساه عمدًا متعمدًّا، وهو أن الفكر التنويري في الغرب بني على أساس الأناجيل، وهذه مسألة نحن نهملها، جميع المفكرين روسو جون لوك سبونوزا، كلهم وغيرهم بالمئات بنوا فكرهم على أساس الكتب المقدسة، المجتمع المدني خرج من الكتاب المقدس، جميع المفاهيم خرجت من الكتاب المقدس، والسؤال هنا، هل نحن عاجزون أن نُخرج من القرآن الكريم شيئًا حضاريًّا يواكب العصر؟ ثم لا نجد إلا في المفاهيم والمصطلحات الغربية، هذه المسألة تُكرِّس التبعية. وما يميز مشروع الحركة أنه أجاب عن كل تلك الأسئلة، وأعطانا أملاً في إمكانية صناعة إنسان جديد يحافظ على أصالته ويواكب العصر، ولذلك أعتقد أن مشروع الخدمة مشروع مركب، وأن الصيغ الإدارية والصيغ التنظيمية التي يتحرك بها هذا المشروع لا أعتقد أنها موجودة في المجتمع المدني الغربي.
نوزاد صواش: لأنه يعطي أيضًا بعدًا أُخرويًّا.
إدريس الكنبوري: والغربي يعطي بعدًا دنيويًّا صرفًا، ثم يُسَطِّر أهدافًا معينة يُحققها على المدى القريب والمتوسط والبعيد ثم تنتهي الأمور، لأن الأمور كلها اجتماع فيما بيننا، لكن في مشروع الخدمة المأخوذ من النظرية القرآنية هذا مشروع مفتوح، نموذج المرأة الخادمة التي تخلَّت عن ثُلثي دخلها للخدمة ماذا تنتظر؟! هل تنتظر أرباحًا من هذا المشروع؟ بالطبع لا، لكنها تنتظر أشياء أخرى، هي تنتظر أن تأخذ من الله عز وجل في الآخرة، هي تدرك فعلاً ما تفعله، لا تنتظر أرباحًا، لو كان المفهوم مفهوم مجتمع مدني لكانت دفعت ثلثي مالها في انتظار أن تثمر تضحيتها مشاريع أخرى وأن تتطور الخدمة، وهذا يوافق ما يسمى عند الصوفية بالتخلية. السيدة أخلت نفسها من الطمع في الدنيا، وأصبح لديها قابلية ورغبة أن تفعل كل شيء طواعية لله عز جل، كما استمعنا إلى بعض الأشخاص الذين قالوا إنهم ذهبوا إلى البوسنة ويقضي بعضهم نصف السنة في سياحة في الأرض وبناء المشاريع واللقاء مع المساكين والفقراء، ما الذي دفع هذا الرجل إلى هذه التضحية؟ هل هناك سيف معين فرض عليه؟ لقد سمعنا أمام الجميع بعض الأشخاص الذين يتكفل بهم بعض أبناء الخدمة بعدما درسوا وتخرجوا، أحيوا سُنَّة الهجرة من جديد، فهاجروا إلى أصقاع الأرض، ثم قاموا بدورهم في مشروعات الخدمة، فساهموا في التكفُّل بالعديد من الأطفال كما فعل غيرهم معهم، من قال لهؤلاء أن يمارسوا دورهم الذي فُعِل معهم؟ هناك ما يسمى بالوازع الداخلي، أو ضمير المسلم، ضمير المسلم يعني أن المسلم أخ للمسلم، وأعتقد أن هذا هو المجتمع المدني الحقيقي في الإسلام.
نوزاد صواش: أستاذي إذا سمحتم بجمل وجيزة، كيف تصف وتُعرِّف الخدمة؟ وكيف تُعرِّف الأستاذ؟
إدريس الكنبوري: كما قلت من قبل، الذي ابتكر مصطلح الخدمة رجل عبقري، ورجل يريد الخير، لأن كلمة خدمة دائمًا مرتبطة بعمل معين تُقَاضَى عليه، يعني تُجَازى عليه ماديًّا، لكن مفهوم الخدمة كما وضعه الأستاذ هو أن تخدم الآخرين، وأن تتحرك في اتجاه احتضان الوجود كلّه بأصدق وأخلص النوايا، هذا هو الإسلام الحركي الحقيقي، وكما نقول عندنا في المغرب “خادم القوم سيدهم”، فهؤلاء مجموعة من السادة الذين يتحركون لخدمة الآخر، المفهوم في حد ذاته مفهوم عبقري بكل صراحة، وفيه عملية استشهادية، وفيه قتل لنواة الأنانية ونواة العجرفة لدى الإنسان في الداخل، هذا هو الشيء الأساسي.
الخدمة حقَّقت مكتسبات ومنجزات خيرية في عديد من مناطق العالم، ونجحت في أن تنتشل مجموعة من الناس من الفقر ومن الانحرافات ومن التخلف ومن الإبادات إلى آخره.
لقد تعرَّفت أول ما تعرَّفت على الأستاذ كولن من خلال كتبه، وأقولها بكل صراحة لقد فوجئت، واعتقدت في بادئ الأمر أنني أمام رجل من الدراويش، لكن عندما قرأت الكتاب الثاني والثالث أحسست أن الرجل وراءه مشروع، فهو لا يتحرك من فراغ، بل لديه تجربة فكرية وروحية قوية، صبَغ تلك التجربة التي تلقاها من التراث الإسلامي بلونه الخاص، وأوصلها إلى أبناء عصره مع تركيبات جديدة وقوالب جديدة وتفسيرات جديدة، يدفعك دائمًا إلى الحركة البناءة الفاعلة المنجزة، إنني أرى أن الأستاذ كولن رجل صالح أراده الله سبحانه وتعالى ليجدد لهذه الأمة دينها. الغريب في الأمر أننا أمس بينما كنا نتحدث فكرت في هذه النقطة، وهو أنه قُضي على الإسلام من هذا المكان، وفي هذا المكان أيضًا يجمع الأستاذ كولن هؤلاء الرجال، فهذه مفارقة تاريخية تحتاج إلى تأمل.
نوزاد صواش: شكرًا جزيلاً، أستاذي كان حوارًا دسمًا وعميقًا وطيبًّا، ومثل تلك الحوارات لا يريد لها الإنسان أن تنتهي، والكلام طبعًا ذو شجون فإلى أن نلقاكم في حورات أخرى نستودعكم الله.
Leave a Reply