الوفاء، من الأزهار التي لا تنمو إلا في مناخ المحبة والإخاء. ونادرًا ما تلقاه في جو التنافر والعداء، بل يستحيل. فهو يطوف حول السعداء المتوافقين فكرًا وإحساسًا ورؤية طوافَ النسيم العليل، يغمرهم بعطره الشذيّ، وينعشهم بنَداه الطريّ.. فإذا لفحته رياح الحقد والغيرة والكراهية، جففت أوراقه، واقتلعت جذوره.. في منابت المحبة والمروءة يولد ويسمو، وفي أرض العداوة والبغضاء ينطفئ ويخبو.
“الوفاء أن يتّحد الإنسانُ وقلبَه”، هكذا عرّفه بعضهم، وهو تعريف في محلّه وإن كان ناقصًا.
هل يمكن الحديث عن الوفاء في مَن لا يملك حياة قلبية ويتقلب في خواء روحي؟ إنّ الصدق والوفاء وثيقا الصلة بالحياة القلبية. فهل لذوي الوجوه المزدوجة المرائين أن تكون لهم حياة قلبية حقًّا؟! أولئك الذين وقعوا أسارى الكذب والخداع، والذين ينقضون عهودهم ليل نهار، والذين لا يشعرون بعبء ما يتحمّلون من مسؤوليات.. مخدوعٌ من ظنّ أن يكون لهؤلاء حياة قلبية. وهيهات أن تجد وفاء من مثل هؤلاء! بل إنّ توقّع ذلك منهم لهو الغفلة بعينها والسذاجة في أفضح صورها.
أجل، من يثق بعديم الوفاء يشقى.. ومن يصاحبه في سفر طويل، يتعثر في الطريق وينقطع عن المسير.. ومن يتخذه دليلاً أو مرشدًا، تَسيح عيناه بدموع الخيبة والخسران، وتجري على شفتيه هذه الكلمات التي تتقطر ألمًا وعتابًا إزاء ما يقاسيه من إنكار وهجران:
رجوتُ منه وفاء،
فكواني بالجفاء،
أين أذهب؟ لستُ أدري!
إن المرء بحسّ الوفاء يغدو أهلاً للثقة ويرفرف عاليًا. والأسرة إذا أقيمت على دعامة الوفاء استمرت وظلت تنبض بالحياة. والأمة بهذه القيمة الرفيعة تتسنم ذروة الفضائل. والدولة إنما تحافظ على مكانتها في قلوب شعبها، بهذه الروح السامية. وإذا فقدت أمة قيمة الوفاء، فلا يمكن الحديث فيها عن الفرد الناضج المعطاء، ولا الأسرة العامرة بالأمن والسكينة، ولا الدولة المستقرة التي تنعم بثقة أبنائها. في مناخ كهذا، ينظر الأفراد بعين الشك والريبة إلى بعضهم، وتعاني الأسرة شقاء مضنيًا، وتُذيق الدولة أبناءها مرارات البؤس والنكبات، ويغدو كل شيء أجنبيًّا بعضه إلى البعض كالجمادات وإن تداخلت أو تراصّ بعضها فوق بعض.
الوفاء يؤلف بين الأفراد ويُدمجهم فيما بينهم متآخين متوافقين. بالوفاء تصبح الأجزاء كلاًّ متكاملاً، وتتلاحم القطع المتناثرة في وحدة متناغمة. وإذا ما بلغ الوفاء “الآباد السرمدية”؛ انهمرت أطياف النور الماورائية، وأضاءت دروب الكتل البشرية، وأزالت جميع العوائق التي تسد الطريق عليها.. بشرط أن تكون تلك المجتمعات قد نضجت بالوفاء، وأسلمت نفسها إلى أحضانه التي تجمّع وتؤلّف.
أَعلّقتَ قلبك بفكرة عالية؟ أشُغِفتَ بغاية سامية؟ أَعقدتَ بينك وبين أحد ميثاق مودة؟ إذن كن وفيًّا، وقدم في سبيل ذلك نفسك.. كن وفيًّا وإن تبددتْ في سبيل ذلك ثروتك. فلا قيمة أعز من الوفاء، ولا مكانة أعظم من الأوفياء، لدى الحق سبحانه ولدى الخلق على حد سواء.
جاءني من الحق نداء،
“أيا عاشق أقبل، فمن المحارم غدوتَ،
وهذا مقامهم،
فقد رأيناك من أهل الوفاء”. (نسيمي)
آدم إنما فتح الأبواب التي أوصدت في وجهه واحدًا بعد آخر بمفتاح الوفاء السحري الذي حمله في قلبه، فوصل إلى منابع “الغفران”، بينما إبليس الذي عصا وبغى في الحدث عينه، فقد رمى بنفسه في جحيم الجحود.
أما نبي الطوفان فقد عاش لقرون يعاني، ومع ذلك كان وفيًّا.. نبّه قومه وحذّرهم عاقبة ما يقترفون، كابد كل طريق فلم يجد صدى لكلماته في قلوب أكثرهم. ورغم ذلك ما تخلّى عن وفائه لـ”الباب” الذي أخلص له طوال حياته.. حتى إذا انقضّت السماوات والأرضون عليهم بالجبروت، تحوّل ذلك الوفاء الذي يحمله في قرارة نفسه إلى سفينة نجاة له ولمن آمن معه.
ثم انظر إلى خليل الرحمن وأبي الأنبياء عندما تصدّى لنار النمرود! كم كان وفيًّا فداه روحي! وحينما التقت أنفاس وفائه التي دوت في أرجاء السماء بهتاف “حسبي الله!” مع نسمات الرحمة التي هبت ملبية لندائه من وراء الماوراء، تحولت أحشاء النيران الجهنمية بردًا وسلامًا.
كذلك رائد القدسيين، وإمام السابقين واللاحقين إنما نال سعادة السياحة إلى ما وراء السماوات -تلك الرحلة التي لم تكتب لأحد سواه- بفضل حس الوفاء المكنون في روحه. أجل، بفضل الوفاء بلغ عوالم لم يَسبق أن بلغها ملَك من قبل، ونال من السعادة والتكريم ما لم ينله أيّ فان في هذا الوجود. ولكنّ وفاءه لأمته جعله يغادر عالم السعداء، ذاك الذي تنبهر فيه الأبصار حائرة وتذوب فيه الأفئدة نشوى، ويعود أدراجه إلى صحبه ورفاق دربه. أجل، عاد لكي يصارع الأحداث الجسام، ويواجه العقبات التي تعترض طريقه، ويرتقي بصحبه البررة إلى تلك العوالم السماوية. وفاؤه لصحبه ورفاق دربه، جعله يُعرِض عن الجنان وحور العين.. عهدُ وفاء قطعه لهم عاد به إلى هذه الدنيا الحافلة بالمعاناة والآلام ليكون إلى جانبهم، تاركًا كافة الأعطيات الروحية والمراتب المعنوية وراءه، وذلك في لحظة بلغ فيها بهامته قمم المكارم السماوية الباهرة.
إن جميع من ارتقى من أهل السمو، طُوِيت سجلات حسناتهم بالوفاء وختمت بخاتمه. وجميع من تعثر في الطريق خُتم على سجلات أعمالهم -وهي معارض حافلة من المساوئ- بخاتم الإنكار والجحود. أجل، إن البؤساء الذين نقضوا ميثاق الوفاء لِما تعهدوا به من مهامّ ومسؤوليات قبل أن يتقدموا بها ولو خطوتين إلى الأمام، وتنحّوا بأنفسهم جانبًا، خُتم على جباههم بخاتم الذلة والهوان ونُبذوا إلى أسفل سافلين. أما الذين لم يصبروا على “الحِمل المقدس” و”الرحلة المقدسة” ربع يوم وحادوا عن المسير، فقد أضاعوا الطريق الصحيح مذ ذلك الوقت حتى اليوم، وأصبحوا ضالين تائهين.
وأخيرًا دار الزمان دورته، وعادت إلينا أمانة “المعاناة المقدسة”، فأقسمنا بأغلظ أيمان الوفاء، ووضعنا كواهلنا تحت هذه المسؤولية الثقيلة الضخمة. كنا متوقدين حماسًا وتحفزًا، متشبعين عزيمة وتصميمًا.. ولكن هيهات.. اعترض طريقَنا فجأة تنينٌ مرعب، فنقضنا كل العهود التي قطعناها على أنفسنا.. عادت الأرجاء كلها تتصحر من جديد، وذابت كافة أنواع الشهامة والبطولة ذوبان الجليد واختفت بلا أوبة، وحلت الأشواك محل الورود، وانطفأت الأقمار وأفلت الشموس، وهجمت على الأجواء غيومٌ محمّلة بالقسوة والكآبة. أقفر البستان ومات البستاني، جفت الخلايا واختفى العسل. وراح بؤساء هذا الزمان الذي أصيب بقحط في الإنسان، يتملقون أرواحًا ميتة لا تملك ذرة من حس أمانة أو وفاء، ويَنظِمون فيهم قصائد بطولة وأناشيد نصر. لم تبق روح فظة إلا صفقوا لها مهللين “يا للذكاء، يا للشهامة”!
وإزاء ضياع حس الوفاء في تلك الفترة، ضجّ أحدهم بصراخ ثوريّ مدوّ مرددًا:
لا وفاء، ولا حرمة للعهد، والأمانةُ لفظ بلا مدلول،
الكذب رائج، والخيانة سلوك سائد، والحق ضائع،
القلوب بلا رحمة، والمشاعر منحطة، والآمال محبَطة،
ونظرات الناس تشي باحتقار عباد الله،
العقول تندهش يا رب، ما أفظع الانقلاب الذي وقع،
لم يبق دين ولا إيمان، الدين خراب والإيمان تراب. (محمد عاكف)
في هذه الفترة، احتل الساحةَ مشعوذون لا حصر لهم، دأبُهم الكذب والخداع والمبالغة. مشعوذون ينقضون عهدهم كل يوم مرة بعد أخرى، ويتراجعون عن الوعود التي قطعوها مرات ومرات نتيجة حرمانهم الأبدي من حس الوفاء. هؤلاء تلعنهم الأرض وسكانها، تلعنهم السماء وسكانها.
من أين ظهر كل هذا الحشد من فاسدي الجبلّة سيئي الأخلاق؟ أيّ خائن فتح لهم صدره ونمّاهم؟ أيّ شقي آواهم في قلبه وربّاهم؟ أيّ ألسنة مشؤومة استقبلتهم بالتحية والإكرام؟
آه أيها الوفاء، أين أنت؟ سئمنا هؤلاء الذين ينقضون مواثيقهم، ويخونون عهودهم كل يوم مرة بعد أخرى. مللنا أشباه رجالٍ كلُّ كلمة لهم مبالغة، وكلُّ سلوك لهم اصطناع.. مللنا نفوسًا منحوسة حُرِمت حس الوفاء.. أين أنتم أيها الأخلاء الأوفياء؟ يا من ينتظرون في المكان الذي تواعدوا فيه أيامًا متعاقبة دون براح وفاء لحس الوفاء! أين أنتم يا أبطالاً من صلب أبطال، يا رموز وفاء توحّدوا مع أرواحهم؟! أين أنتم يا جباهًا بيضاء ناصعة! يا فرسان فترة مباركة! يا من ضحوا بأنفسهم إكرامًا للوفاء! انهضوا، وانفذوا إلى أرواحنا.. اشحذوا آمالنا.. وأفرغوا كل ما تحملونه من معاني الوفاء في قلوبنا.. قلوبنا التي فقدت الشهامة والبطولة والوفاء منذ زمن بعيد.
أما وقد سلكنا طريق الانبعاث من جديد، فإلى معين الخَضِر(1) أوصلونا!.. هلمّوا… وأنقذوا أولئك القلة من الأوفياء الحائرين هنا وهناك… أنقذوهم من اليأس والإحباط رجاء.
ألا فلْيرعَ الله حسَّ الوفاء حيا في قلوب جيلنا الظامئ إلى الوفاء.
(*) نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي التركية، العدد 44 (سبتمبر/أيلول 1982).
الهوامش
معين الخضر في الأدبيات التركية تعني ماء الحياة.
Leave a Reply