كثير هم الذين يتحدثون اليوم بما لا يعلمون في حق حركة الخدمة، وقد سمعت بعض المحسوبين على المسلمين وهو يغمز أبناء الحركة من طرف خفي على أنهم متصلبون في مواقفهم، وذلك ما جر عليهم ما يعيشونه من فتنة وابتلاء. وفي ذات الوقت يثني على أعمال ومنجزات الحكومة التركية الحالية. فتوجهت لهذا بالقول: هل اطلعت على تقارير المنظمات الدولية الخاصة بهذا البلد؟ هل تعلم شيئا عن التصريحات الخاصة للمسؤولين في الدولة؛ خاصة الذين أُبعدوا أو استقالوا، ناهيك عن الذين أقيلوا أو سجنوا؟ هل علمت شيئا عن التقارير التي تصدرها المعارضة في الداخل؟ دعك من كل ذلك وحاول مطالعة ما يقوله أعضاء تنظيم “أرجنكون” أو على الأقل تصريحات “حزب الوطن”. وإن تعذر كل ذلك فيمكن البحث عن جواب لهذا السؤال: لماذا لا يردّ السيد أردوغان على الاتهامات الخطيرة والتصريحات النارية للسيد “دوغو-برينتشاك” زعيم حزب الوطن، أو تصريحات رئيس الأركان العامة السابق “إيلكار باشبوغ”؟
ومن جهة أخرى ماذا تعرف عن فلسفة ومبادئ وأهداف هذه الحركة؟ وماذا تعلم من تقارير الدول والمنظمات والهيئات عن الحركة؟ ما هو دور حركة الخدمة في الدفاع عن الديمقراطية ومحاصرة العلمانية في أهم معاقلها؟ كيف كان لهذه الحركة الدور المحوري في نجاح السياسيين المحسوبين على التيار الإسلامي بتركيا اليوم؟ وليعلم كل باحث عن الحقيقة أن التاريخ لا يظلم ولا ينسى؛ وفي يوم من الأيام ستنكشف كثير من الحقائق الصادمة، وسيفضح كل من خان أو ظلم، وأن سنة الله تمهل ولا تهمل. لكل ذلك أدعو كل مهتم أو باحث عن الحقيقة، إلى محاولة الاطلاع ولو بشكل عام على ما يجري وما يقال حول الوضع في تركيا وبكل تجرد؛ ودعك من أقوال الأطراف المعنية بما وقع في البلاد من خلافات، عملا بالقاعدة القانونية لا يمكن للخصم أن يكون حكما وقاضيًا.
الذين يُحمّلون حركة الخدمة نتائج ما تعيشه من ابتلاء، ويتهمونها بالتعصب؛ حري بهم الاطلاع على رؤية الحركة للواقع. فالأستاذ كولن مفكر مقتدر وعالم نحرير، خبير بمصطلحات الشرع فضلا عن تكاليفه.
أما الذي يهمني في هذا الموضوع فهو اتهام حركة الخدمة بالصلابة والتشدد، الذي لم يقل به أحد على الإطلاق لا من طرف الدول والمنظمات والهيئات الدولية، ولا من طرف الباحثين والدارسين لفلسفة وفكر ومنهج حركة الخدمة. بل على العكس من ذلك، فالذي كُتب ونُشر عن روح وقيم التعايش والسلمية لهذه الحركة، التي كان لها الفضل الكبير في إيقاف التطاحن والصراع داخل تركيا أولا، ثم نشرها لهذا المنهج عبر دول العالم كل ذلك لا ينكره إلا معاند أو حسود. بل إن عددا من كبار المفكرين والأكاديميين جعلوا ملهم هذه الحركة، السيد “فتح الله كولن” في مصاف فلاسفة المحبة والسلام العالمي حتى قدموه على بعضهم. وهو صنيع الأكاديمية الأمريكية المقتدرة “جيل كارول” والقس المقتدر-الفروفيسور “هالتر وونر”، والشيخ الفقيه الكبير “وهبة الزحيلي” والشهيد الشيخ الرباني”سعيد رمضان البوطي” والعالم الهندي الخبير “وحيد الدين خان” وغيرهم كثير…
لكن لابد ههنا من التنبيه على أمر غاية في الأهمية ولطالما اختلط على الناس شأنه، ألا وهو الصلابة في الدين والثبات على الحق من جهة والتشدد والتنطع في الدين من جهة ثانية. أما الأول فمأمور به شرعا وعقلا وواقعا، وأما الثاني فمنهي عنه شرعا وعقلا. فقد حاول بعض المغرضين التشويش على نجاحات حركة الخدمة، وتحميلها نتائج السياسات المتنطعة التي أوصلت الدولة الحالية إلى الباب المسدود. وبدل التواضع والاحتكام إلى القانون، ثم قلب الطاولة على الجميع وخرق كل القوانين والأعراف وإرجاع الدولة إلى القوانين العرفية التي ناضلت طويلا من أجل تجاوزها. أمام هذه الأزمة التي دُبرت بليل، عملت جهات معلومة بقيادة خصوم الوطن وخصوم حركة الخدمة الجدد والتقليديين من العلمانيين الكماليين على إلصاق تهم جاهزة بهذه الحركة واختارت منها ما تراه مناسبا للواقع الدولي الحالي، وما يجري بتركيا وهو وصفها بالتشدد والصلابة في الدين، الذي تطور فيما بعد ليوافق المظلة التي يختبئ تحتها كثير من الظالمين وهي الإرهاب والتخوين. وبذلك سخروا إمكانات رهيبة مادية ومعنوية في الداخل والخارج من أجل إقناع العالم بما دبروه بليل.
لذا فقد أجمع الدارسون من كل الديانات وبكل اللغات لفكر ومنهج هذه الحركة على القول إنه إن كانت مواقف حركة الخدمة في إطار ثباتها على الحق، فهذه سنة كونية أقرتها الأديان وأكدها التاريخ في كل زمان، تلك سيرة العلماء والصالحين والأنبياء؛ الذين نالوا من الظلم ألوانا، ومن الاتهامات أشكالا، بسبب ثباتهم على الحق وعدم خضوعهم للمساومات والإغراءات. وأما من الناحية العقلية فمن لراية الحق رافعا إذا استسلم الجميع للأمر الواقع؟ وكيف يعرف الحق إذا لم يتمثله رجال ونساء وشباب، ويتحملوا من أجله ما لا يستطيعه عامة الناس. وقد جرى في العرف أن مذاق الحق مر، وثمنه باهض لا يملكه أي كان. ثم ما معنى سنة الله في الفتن والابتلاءات إن لم تكن هي الثبات على الحق والدفاع عنه وامتحان الناس في ذلك. فهذا ما نزل به الدين وبينه محمد الأمين عليه الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. وروي عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (إن عظمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخِط فله السُّخْط).
إن فتح الله كولن وهو يتحدث عن الصلابة في الحق، لا تغيب عنه نصوص القرآن والمنهج النبوي الذي لم أجد شخصيا من العلماء المعاصرين من تمثله ونزله في حياته وجماعته.
إن الذين يحاولوا أن يلصقوا فرية التشدد أو التنطع أو الإرهاب بحركة الخدمة بارت تهمهم وفسدت ادعاءاتهم، بمجرد سماع الناس لتلك التهم. حيث أنهم سارعوا إلى التعرف على فكر الحركة ومنهجها وأهدافها، فالتقوا بأبنائها وقرأوا فكر وتوجيهات ملهمها الذي كثيرا ما يردد:” لا ينبغي للمؤمن أن يتعصّب؛ لأن المؤمن لا يحيد عن الحق، ورسالته هي إقامة الحق وإعلاؤه، فلا يمكن أن نتصور إنسانًا يعشق الحق، ومع ذلك يصدّ عن سبيله ويقاومه ويتجاهله؛ فإن فعل فقد أساء الأدب مع الحق، فالتعصب ليس من شأن المؤمن، بل الصلابة في الدين. والصلابة هي الجدّ والحزم في الأمر، والثبات والتمكّن، والعزم على الاستقامة في الأقوال والأفعال والأحوال، أمّا العنف والقسوة والتعصب فليس من الصلابة في الدين في شيء.” إن فتح الله كولن وهو يتحدث عن الصلابة في الحق، لا تغيب عنه نصوص القرآن وأحداث السيرة والمنهج النبوي الذي لم أجد شخصيا من العلماء المعاصرين من تمثله ونزله في حياته وجماعته كما فعل فتح الله كولن؛ ولمن أراد التأكد من هذا الأمر فليرجع إلى كتابه ” النور الخالد”. فبلوغ مرتبة الصلابة في الدين يقول الرجل ” يقتضي أن يَجِدَّ المرءُ ليخرج من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي، وأن يسعى دومًا إلى التعمق في الحقائق الإيمانية، وأن يعرض كل مسألة على العقل والمنطق ليؤسسها على قاعدة “العلم”.
والذين يُحمّلون حركة الخدمة نتائج ما تعيشه من ابتلاء، ويتهمونها بالتعصب؛ حري بهم الاطلاع على رؤية وفكر الحركة للواقع. فالأستاذ كولن ليس رجلا عاديا، بل هو مفكر مقتدر وعالم نحرير، خبير بمصطلحات الشرع فضلا عن تكاليفه. ومن مميزات الرجل كما شهد بذلك من عرفوه ومن درسوا فكره ورؤيته الإصلاحية، أنه لا يغفل عن دقائق الأمور التي تغيب عن كثير من الخواص، فكيف يفوته ما تمر به البلاد من مرحلة فارقة، وما يُخطط لها في الكواليس. ورجل عالم ومؤمن مثل فتح الله كولن، حين يتحدث عن الصلابة في الدين فهو على وعي تام بمقاصد الشريعة وكلياتها. فتأمل قوله: “إذا رغب المؤمن أن تَمضي حياته ضمن إطار الصلابة في الدين دون تردٍّ في وديان التعصب فليعرف وليستوعب جيدًا المقاصد الكليّة للكتاب والسنة بداية، وليقوِّم معارفه كلّها في ميزان هذين المصدرين الأساسيين”. فهذه هي رؤية حركة الخدمة، وكأن أهلها يعملوا بقول بعض أهل الله “الملتفت لا يصل”. وبذلك يصدق فيهم ما رواه مسلم في صحيحه عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:” عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ”.
لذا فأبناء وبنات الخدمة يتحركون وفق تلكم الفلسفة ولسان حالهم يردد:﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾(العنكبوت:2)، فالأستاذ كولن حينما يدعو محبيه والمؤمنين برؤيته، للثبات على الحق والصلابة في الدين، يعلم ما ينتظر الجميع من مضايقات وبطش وظلم ومساومات من طرف خصومهم والذين لا يروقهم ظهور كلمة الحق. كما أن هذا الرجل شديد الإيمان بعقبات الطريق وسنن الفتنة وتبعات الابتلاء؛ فتأمل كلامه: “ستجد أبطال هذا الإيمان الشامخ مواظبين -بحسب عمق إيمانهم-على السير في الطريق وقطع المسافات مطمئنين سعداء كأنهم يتنزهون في سفوح الجنان، في الوقت الذي يتعثر فيه الناس في سيرههم ويضطربون. هذا من جانب، ومن جانب آخر ستجدهم -بفضل ارتباطهم بالحق تعالى-قادرين على تحدي العالم أجمع، والاضطلاع بكل مهمة، وتخطّي كل حاجز. فلو قامت القيامات كلها لا يضطربون، ولو واجهتهم نيران جهنم واحدة تلو الأخرى لا يمسهم الخوف ولا يتراجعون. هاماتهم مرتفعة في عزة وإباء دومًا، لا يحنونها لأحد إلا لله. فهم لا يخشون أحدًا، ولا ينتظرون جزاء ولا أجرًا من أحد، ولا يقعون تحت منة أحد.” وكأني بهؤلاء الناس جراء ما يعانونه يزاحمون من قال فيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام:” يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقارض”.
لماذا لا يردّ السيد أردوغان على الاتهامات الخطيرة والتصريحات النارية للسيد “دوغو-برينتشاك” زعيم حزب الوطن، أو تصريحات رئيس الأركان العامة السابق “إيلكار باشبوغ”؟
إن أبناء الخدمة وهو ينشدون طريق الحق، واعون تماما بأهمية السنن الإلهية وضرورة الصبر على فتن الطريق، والتعرض إلى ابتلاءاته على مختلف درجاتها؛ بدءا بالغربة عن الوطن وفقد الأحباب، ومرورا بتجرع عبق الذكريات، وانتهاء بتطاول كثير من المعتدين على حريتهم وكرامتهم وأموالهم وأولادهم وأعراضهم. ذلك ما باح به أستاذهم وشاعرهم الكبير الأستاذ كولن نيابة عنهم حين أنشد: “مأواي فارقتُ، وأُنسَ أيامي غادرتُ، وفي قلبي حفرتُ، وأقبرتُ، نشيدَ حبوري، ولحنَ سروري…! فيا لهفات روحي، هل إلى تلك الأيام من عودة…؟ وإلى تلك المعاهد الجميلات من أَوبة. ؟!
نعم كل إنسان تنتابه لحظات ضعف ترفرف فيها نفسه وتهفوا إلى ما تحبه، إلا أن أبناء الخدمة أناس من طينة خاصة. إذ أن كل إنسان ابتلي بما يكابده من ظلم وفتن، إلا وسيبحث عن مسوغات لدفع الظلم عن نفسه وذويه وقد تصل به الحاجة إلى اتهام الناس فضلا عن محاسبتهم، عملا بالمثل السائر “صاحب الحاجة أعمى”. لكن أبناء هذه الحركة سُكوا من معدن فريد. فهم في جلجلة الفتن التي تعصف يمينا وشمالا، يغازلونك بابتسامة عريضة مرددين قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر”. نعم فبعد وابل من الابتلاءات أقل ما يتوقع منهم هو التوقف أو الانتفاضة. وبهذا السلوك يؤكدون لك معنى الصلابة في الدين والقوة في الحق. في هذا الصدد يقول الأستاذ كولن: “والحقيقة إن معرفة الإنسان بأن المصائب التي تصيبه هي نتيجة أعماله وما اقترفته يداه هي من أمر القرآن… المذنب ليس شخصا آخر، بل هو أنفسنا…ونقول: “يا رب! … لا وجود للمصادفة في حوادث الكون. يجوز أن يكون هذا عقابا لي على ما اقترفته… فاغفر لي ذنوبي”. ويقول الأستاذ مفسرا قول الله تعالى: وكلمة {أيديكم} الواردة في الآية الكريمة لا تعني الذنوب التي تقترفونها بأيديكم فقط، بل تعني كل الذنوب التي تشارك فيها أيديكم وأرجلكم وسمعكم وأبصاركم…”.
إنها نعمة الإيمان بالسنن الكونية في تناغم تام مع الإيمان بالسنن المحمدية، بيانا وتفسيرا لما جاء في الكتاب المسطور وأكدته سنن الكتاب المنظور. إن الإيمان الراسخ لدى هذا الجيل الفريد هو أن من يريد أن ينبت السنابل والورود في الصحاري القاحلة لا مفر له من أن يكون ترابا، وأن يكون بذورا تدفن في التراب وتستسلم للعفن والفناء. وأنها لن تنبت إلا إذا انسحقت في التراب وفنت فيه. إنها رؤية حركة الخدمة للإصلاح في ظل الابتلاء، وفلسفتها للبناء في قلب العاصفة. (يتبع).