يدخل بعض الأعلام التاريخ من أوسع أبوابه، فترى بصماتهم واضحة في صفحاته، فالحديث عن الأستاذ “فتح الله كُولَن” هو حديث عن مطلع القرن الحادي والعشرين.
كان الأستاذ فتح الله كُولَن هو العقلَ المؤسس لحركة “الخدمة”، وتُعَدّ الخِدمة من العوامل الأساسيّة التي سترقى بالأمّة التركية إلى مسرح التاريخ في القريب المنظور، فقد اضْطَلَعت بدورٍ بارز في الإنجازات التي حققتها الأمّة التركية في القرن المنصرِم، بعد أن مُنيَت بالهزيمة والفرقة في آخر قرنين ونصف، وكلّ من له دراية بأيسر مبادئ علم الاجتماع أو من له علم – ولو يسيرًا – عن حركة تاريخ الحضارة، سُرعان ما يُدرِك أنّ حركة الخدمة التي انتشرت على مستوى العالم ستُسهِم في اكتساب القرن الحادي والعشرين لهُوِيّة جديدة؛ فبات مهمًّا للغاية التعرّف على العقل المؤسس لهذه الحركة لنعرِفه جيِّدًا وندرك مكانته.
لَطالما كان الأستاذ فتح الله كولن – ولا يزال – موضوعَ كثير من الدراسات والأبحاث في عدد كبير من الجامعات العريقة في أنحاء العالم كافَّة، وما أكثرَ المؤتمرات التي بحثت اتجاهاته المتعددة؛ وبعض هذه الدراسات منشور متداوَل، لكن ما أقلَّ الدراسات التي عُنيَت بسيرته الذاتيَّة؛ وكأنَّ السبب أنَّ محور اهتمامه كان يتمركز حول تقديم الخِدمات لا حول شخصِه هو، فهو لا يحبّذ أن يتحدث عنه أحد، بل يرى أنّ ما ينفَق من الأوقات في دراسات تتناول شخصَه يذهب هباءً، إذ لا طائل من ورائه.
وهذا من تواضعه، وهو سمة شخصيّته المتواضعة، لكننا نرى أنَّه لا بدّ من التعريف بشخصيته وحياته التي وقفَها لخِدمة الأمة والإنسانية جمعاء؛ لندرِك ونُلِمّ بحركةٍ كان هو الرائدَ الفكري لها.
ودلَّت هذه الدّراسة أنْ ليس في حياة الأستاذ فتح الله أيّ نقطة سوداء، فلم يكن لديه -منذ أن وُلد إلى يومنا هذا- ما يخفيه عن الناس من قول أو فعل، فما عاش حياته لنفسِه، فهو ليس ممن يلهثون وراء أهوائهم ونزواتهم؛ بل وقف حياته للأمّة وقومُه على ذلك من الشاهدين؛ حقًّا إنّه ليس في حياته ما يخفى أو يُستحَى منه؛ ولا ينبغي أن تقتصر معرفتنا به على الجانب الماديّ في حياته، بل يجب أن نتخذ من ذلك سُلَّمًا نطّلع منه على الخدمة كيف نمت وازدهرت بريادته، يقول “جميل مَرِيج”[1]: “الحمقى هم من يقتصرون على معرفة التاريخ كرونولوجيًّا”، فلا بُدَّ مِن سَبْر حياة الأستاذ فتح الله لِنَعِيَها كما يجب، وإذا ما أمعنا النظر في حياته سنرى أنّ ما يقوله أو يفعله من الوضوح بمكان، حتى كأنَّه نصٌّ ما أيسرَ أن يُحلَّل ويُفسَّر، فأفعاله وأقواله كأنها منظومة معانٍ، وسيكشف البحث في حياته ومؤلفاته أن هذا كلّه حقيقة لا تمت إلى المبالغة بِصِلة.
نشأ الأستاذ فتح الله كولن في بيئة ذات طابع خاص منذ طفولته، فأسهم من حوله جميعًا في بناء شخصيّته؛ فتربيتُه في الزوايا على يد الشيخ “أَلْوارْلي أفه”، وما أخذه عن والده في حبّ الصحابة الكرام، وما حصله من علوم في المعاهد الشرعية، كلّ هذا أسهم في تضلّعه بالعلم ومعرفته بالوجود، أمَّا أنَّه ليس كمثله شخص في بيئته فهذا ما لا يختلف عليه اثنان ممن يعرفونه أقرانًا كانوا أم معلِّمين.
إن التخصُّص العلميّ وفقًا لمفهوم العلم الحديث يجعل آفاق المتخصصين سطحيَّة ضيقة، فكثير من المتخصصين في فرعٍ ما من العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعيّة ليس في جَعبتهم عن العلوم الأخرى سوى معلومات سطحية، هذا إن علِموا عنها شيئًا؛ أمَّا الأستاذ فتح الله فلا يرتاب أحد ممن خبَره وقرأ كتبه أو تحدّث إليه أنّه متضلِّع في علومٍ شتى، تعجب له وهو يفيض في الحديث بعمق عن التطورات الطبيّة التي لا يعرفها إلا المتخصصون، وبوسعه أن يفعل مثل ذلك في تاريخ الفلسفة الغربية مثلًا، وإذا ما تأمّلت رؤاه وآراءه ومقترحاته في اللغة التركية وآدابها أدركْتَ أين بلغت به سَعة الأفق في هذا أيضًا.
بنى الأستاذ فتح الله حياتَه على مبادئ ومفاهيم جسّدتها قيم مُثلى؛ فالفكر والحركة والدّقة البالغة في كلّ الأمور خصال رئيسة في شخصيّته، بل إنَّ المفاهيم الأخرى المنشورة في المقالات الرئيسة بمجلة “سِيزِنْتي (الرشحة)”[2] لا تعدو أن تكون شرحًا لها، ومنها: الحبّ، والسَّلام، والوفاء، والاستقامة، والولاء، ومن تأمَّل حياته سيرى أنَّ هذه القيم ليست قوالب فكريّة فحسب، بل إنّها نمَط حياة، كان –وما يزال- مستقيمًا عليه في لحظات حياته كلّها، فـأحرِ به أن تكون هذه القيم والمبادئ روحَ حياته التي أسماها “دنياي الصغيرة”[3].
الثوابت المعياريّة لأقواله وأفعاله هي الكتاب والسنة أي الأحكام التي شرعها الله فيهما، فمثلًا تجده في أحاديثه وأفعاله يُعلِي قدْر الإنسان ويبحث قضاياه في حدود ما خُلِق له؛ ولرؤيته هذه أثر كبير على الإنسان، فعندما تلِج حيث يقيم في أمريكا تطالعك لوحة معلقة على الجدار كُتِب عليها “خُدِعَ الإنسان، ما أخسرَه!”، وهي إحدى اللوحات التي تطالع من يأتيه زائرًا، وكأنها تُهيب بالناس أن ينتبهوا إلى ما في عواقب فِعالهم من خسران، ولو أن الأستاذ فتح الله كتب رواية لأسماها “خُدِعَ الإنسان، ما أخسرَه!”، هكذا كان يقول.
الاتزان والاعتدال في الوعظ والإرشاد من أبرز خصائصه، وهذا لا يعني السلبية والجمود والتبعية؛ بل هو سلوك من يحتضنون الوجود بأكمله، وينظرون إلى كل القضايا في إطار هذا الكمال، ففي حديثه عن تاريخ الإنسانية يرى أنَّه يجب تقييمه في ضوء تاريخ الفرص الضائعة للسلام لا بتاريخ العداوات، فالبشر بينهم نقاط مشتركة في المجالات كافّة، فمثلًا إذا ما أنعمنا النظر في مقالاته المنشورة في كتاب “التلال الزمردية”[4] التي كسَت المصطلحات الصوفية حُلَّة قشيبة، فسنجد أنه لَطالما كان يكشف عن محلّ وِفاق في قضايا في الحضارة الإسلامية كانت محلّ نزاعٍ انتهت المناقشات العلمية فيه إلى الاتهام والسخرية أحيانًا، وكان الأستاذ فتح الله لا يألو في الكشف عن ثراء تلك النقاط.
ما توخينا استعراضه من موضوعات في هذه المقدِّمة هدفه الكشف عن أنّ فهم شخصية الأستاذ فتح الله ضروريّ؛ فمعرفة حياته من الجانب الماديّ لا تُغني شيئًا، بل لا غنى عن المثابرة على فهم حياته وسبرها وترك النظر إلى ما طفا على السطح، بل الغوصَ الغوصَ إلى الأعماق؛ فهدف هذا الكتاب هو التعريف به، وهذا لا يتحقق إلا بسبر شخصيّته، فالقراءة وحدها لا تغني شيئًا، بل لا بدّ من سبر أغوار ما تقرأ.
في كتاب اسمه “دنياي الصغيرة” نُشرِت مذكِّرات أدْلَى بها في حوارٍ، فسلطت الضوء على حياته، فاتخذتُ من هذا الكتاب مصدرًا رئيسًا، لا سيما أنّه عُنِي بأيّامه في مدينتَيْ “أَدِرْنَه” و”إِزْمِير”، وزدْتُ عليه ذكريات كانت في تلك الأيام، وهي بالغة الأهمية؛ إذ إنَّها تكشِف اللِّثام عن شخصيته المتميزة كيف كان يقرؤها مَن كانوا حوله في فترات حياته المختلفة، وتُسهم فيما نقدّمه هنا في محاولة منّا لفهم حياته؛ وأفدْتُ أيضًا بمذكراته والحوارات والصور على موقعه (tr.fgulen.com) وعلى صفحة “الأكاديمية”[5] في جريدة “الزمان”[6].
أمَّا حياته وعُزْلته في أمريكا وما فيها من أحداث – وأعني بذلك السنوات الأخيرة منذ عام 1999م – فسنعرِّج عليها بإيجاز؛ نظرًا لقِصَرها مقارنة بالمدة التي قضاها في تركيا.
ومن يُصغِ إلى مواعظه حينئذ ويتأمَّل فيما جُمِع منها في سلسلة “الجرة المكسورة”[7]، يتضح له ما كان يتكبده في غربته من أوصاب وهموم في سبيل الوطن والأُمَّة والعالم أجمع.
وكلّنا أمل أن يُسهِم هذا الكتاب في سبر شخصية ذات أبعاد جمَّة غفيرة كشخصية الأستاذ فتح الله كولن، لا أن يعرِّف به فحسب.
[1] جميل مَريج: مفكّر تركيّ، وكاتب وشاعر مشهور (1916-1987).
[2] مجلة شهرية بدأت تصدر في فبراير/شباط 1979م، يكتب الأستاذ فتح الله كولن مقالها الرئيس، وهي مجلَّة علميَّة، تقنيَّة، ثقافيّة، أدبيّة، تربويّة، اجتماعيّة، وما زالت تصدر حتى الآن.
[3] كتابٌ جُمِع من حوار أُجري مع الأستاذ فتح الله كولن عن حياته منذ نشأته حتى إطلاق سراحه بعد سَجنه عقب انقلاب 1971م.
[4] التِّلال الزُّمُرُّدِيّة: كتابٌ من أربعة أجزاء، أصله مقالات في مجلة “سِيزِنْتي” للأستاذ فتح الله كولن، موضوعه: التصوف في ضوء الكتاب والسنة.
[5] صفحة أسبوعيّة تُنشر في جريدة “الزمان”، وتُجمَع من مواعظ الأستاذ فتح الله كولن، نُشِرَت أوَّلًا باسم صفحة “الأكاديمية” ثم باسم “الكرسي” بدءًا من مايو/أيَّار 2006م.
[6] جريدة بدأت تصدر في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1986م بتوجيه وتشجيع من الأستاذ فتح الله، بلغ عدد قُرَّائِها مليون قارئ، وتُنشر في عدة دول غير تركيا، منها أمريكا، وبعض دول أوربا وشرق آسيا.
[7] مقالات تُنشر أسبوعيًّا على الموقع www.herkul.org في نافذة (قريق تستي “الجرَّة المكسورة”)، وقد جُمِعت من مواعظ الأستاذ فتح الله كولن في أمريكا، وأصبحت سلسلة في كتاب بلغ 12 جزءًا في نهاية عام 2012م.