لقد قيلَ وكُتِبَ الكثيرُ عن عمليات الفساد الكبرى في تركيا والتي بدأت يومي 17 و25 ديسمبر/كانون الأول (2013م)، ولقد تستّرت السُّلْطة الحاكمة على عشرات من المعلومات والوثائق التي حصلت عليها قوات الأمن أثناء العملية، ووقع الناس في دوّامة التخمينات حيال ذلك.
أما أكثر الشائعات انتشارًا على شاشات الإعلام المقربة من الحكومة فكانت كالتالي: إن هذه الأموال لم تكن ملكًا للمتهمين، بل إن رجال الشرطة هم الذين وضعوها في منازل المتهمين لإدانتهم، أي إن الأدلة الملموسة للجريمة وُضعت من طرف رجال من الشرطة ليتآمروا على المتهمين والمسؤول عن ذلك هم رجال الشرطة الذين تولّوا العملية.
تكلموا كثيرًا بكلام غير موزون على الرغم من مئات الأدلة التي تدين المتهمين ونجحت عملية إنقاذ الأشخاص الذين فهمنا أنهم من أصحاب “الامتيازات”، وذلك حسبما رأى العديد من الخبراء القانونيّين.
لقد أُعيدت -الأسبوع الماضي- الأموال التي صودرت منهم أثناء عمليّة اعتقالهم، أما الصحف فتناولت هذا التطوّر بقولها: “تمّ نقل الأموال في حقائب”، والأمر كذلك في الواقع! ومَن أصرّوا إلى الأمس القريب على مقولة “هذه الأموال لم تكن ملكًا للمتهمين” شعروا بصدمة كبيرة، ولم نسمع أي تفسير مقنع من أولئك الذين تحدّثوا من قبل عن هذا الادعاء المضحك على الهواء مباشرة في القنوات التليفزيونية، والمجتمع يسأل: “إذا لم تكن هذه الأموال ملكًا لهم فلماذا استرجعوها بفوائدها؟!” لقد انحطّ المستوى الأخلاقي إلى أسفل السافلين!
لعلّكم تذكرون أن حاكم البنك المركزي التركي حينما عمد إلى تحويل أمواله الشخصيّة إلى عملات أجنبية مباشرةً عقب ارتفاع أسعار صرفها قبل أربعة عشر عامًا في فبراير/شباط (2001م)، قامت الدنيا ولم تقعد، وفي مواجهة ردود الأفعال الغاضبة اضطرّ إلى الإعلان عن أنه سيتبرع بهذا المكسب “الجائر” للجمعيات الخيريّة لكن لم تقبل أية جمعية خيرية هذه الأموال “القذرة”، واليوم قال بعض المتهمين الذين استردوا أموالهم ونقلوها في الحقائب إنهم سيتبرعون بفوائد الأموال إلى منظمة الهلال الأحمر التركي التابع للدولة، فسارعت المنظمة على الفور إلى قبول هذه الأموال “المشبوهة”، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المعايير الأخلاقية التي كانت موجودةً في تركيا قبل أربعة عشر عامًا انقلبت رأسًا على عقب، وذلك بالرغم من الاثنتي عشرة سنة التي قضتها تركيا تحت حكم “أصحاب الجباه الساجدة”.
يا أهل الكوفة!
نشرت جريدة “زمان” مقالًا مثيرًا في صفحة التعليقات أول أمس السبت، وكان كاتب المقال هو رئيس الاتحاد العَلَوِي البَكْتَاشِي في الأناضول “جَنْكِيزْ هُورْتْ أُوغْلُو (Cengiz Hortoğlu)” إذ تحدّث في مقاله عن “الروح الكوفية”.
يرى “هُورْتْ أُوغْلُو” أن أهل الكوفة لم يقدّموا الدعم إلى الحسين ابن علي بعد أن دعوه إلى مدينتهم لسببين، وبهذا يكونوا قد أصبحوا شركاء في أكبر وأقسى واقعة ظلم شهدها تاريخ الإنسانية.
يسرد الكاتب السبَبَين للروح الكوفية، فيقول:
“الأوّل: الخوف من بطش يزيد بن معاوية، والثاني: التطلّع إلى تحقيق عروض الثراء والترف التي وعد بها والي الكوفة
عبيد الله بن زياد”.
وكان الكاتب أعاد التذكير بهذه الأحداث بمناسبة استذكارهم لها وروى مأساة سيدنا الحسين مع ربط الأحداث بيومنا، وقد عبّر عن النقطة الأخيرة على النحو التالي:
“تعتبر الروح الكوفية في غاية الخطورة اليوم بالنسبة للديمقراطية في تركيا، فإذا لم ندعم الديمقراطية وندفع ثمن الحفاظ عليها، سنفقدها إلى غير رجعة…”.
وللأسف، فإن الوضع الحالي في تركيا بالفعل كما صوّره “هُورْتْ أُوغْلُو”، لأن ألوان الظلم تتغيّر وتتلوّن على مرّ التاريخ، إلا أنها تقترن باسم اليزيد بن معاوية كرمزٍ من رموز الظلم، فلم يكن أحدٌ يشعر بالراحة بسبب الظلم الذي لاقاه الحسين بن علي ، حفيد رسول الله ، كما لم يرضَ أحدٌ داخليًّا بشرور وتجاوزات من وقفوا إلى جانب الظالم، بيد أن الخوف من اليزيد كان يجوب شوارع المدينة الموحشة، وكان يتسلّل إلى داخل البيوت كالغول، ولم يستطع أحد أن يرفعَ ويدفع ظلمَ هذه الزمرة الضيقة ممن فقدوا بصيرتهم.
إن معاذير الخوف كثيرة، كما أن حُجج الظلم لا حصر لها، وكان الناس يعمدون إلى تنويم أنفسهم “مغناطيسيًّا”، حتى وإن لم تكن قلوبهم راضيةً، وكانوا يختلقون الحجج من أجل إراحة ضمائرهم.
لكن أهمّ أصلٍ من أصول هذه القضية ينطوي على غريزة اليزيد وحرصِه على السلطة وشهوته للحكم وميله إلى إقامة سلطةٍ فوق القوانين والقيود ولهذا السبب لم يلتفت إلى براءة الحسين بن علي ، واتبع طريقةً للتعذيب استكثرت حتى شَربة ماء على الحسين ، ما شكّل مشهدًا للظلم لن ينساه التاريخ، وهل استراح يزيد وتوقف عن الظلم بعد استشهاد الحسين ؟ لا بل سيّر جيشه إلى المدينة المنورة، محاولًا قمع أيّ حراكٍ أو تمرّدٍ ومستبقًا محاولة ثأرٍ لدم الحسين الطاهر.
لم يكن لدى اليزيد شيء يقدّسه سوى نفسه والسلطة، ولأجل ذلك تورّط بإرسال الجيوش إلى مدينة النبي ، وقد أشاع القتلَ في أهل المدينة، وأضرم النيران بها، وما ذلك إلا خوفًا من فقد عرش السلطنة وكرسي الحكم، كما استصدر الفتاوى الباطلة لنهب خيراتها وحوّلها إلى كتلةٍ من اللهب.
لم يستطع اليزيد أن يتوقّف عند هذا الحدّ، فعندما وصلته تقاريرُ تُفيدُ أن أهل مكة يشعرون بالضيق لما حدث للحسين وللمدينة المنوّرة، سيّر جيشه إلى الكعبة المشرفة، والأنكى: أنه يفعل ذلك انطلاقًا من كونه هو خليفة المسلمين، ويعتقدُ هو وأنصاره بأنه يتولّى مسؤوليةً مقدّسةً بصفته رأسًا لدولة الإسلام، وقد حدث ما كان يُخشى منه: حيثُ أَمطرَتْ مجانيقُ جيشِ اليزيد الكعبةَ بالحجارة…
ماذا كان يفعل أهل الكوفة الذين احتضنوا سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وتحملوا من أجله المصاعب سابقًا؟ ماذا فعلوا حيال هذا الظلم؟ أليسوا هم مَن دعوا الحسين بن علي وأعربوا له عن حبّهم وتأييدهم ومبايعتهم له ثم شاركوا في أقسى جريمة شهدها التاريخ؟! حسنًا، كيف كانوا يضعون رؤوسهم على مضاجعهم بينما كان هذا الإنسان الشريف يُقتل؟ وكيف كانوا يقمعون المشاعر المتضادة التي تحملها قلوبهم؟
يقول “هُورْتْ أُوغْلُو”: “كان أهل الكوفة يخافون من يزيد الذي يمثّل سلطة الدولة وقوّتها، كما كانوا يفضّلون الصمت إزاء عروض الرخاء الماديّ الذي قدّمه والي الكوفة”.
وأنا من جانبي أريد أن أستسمح الكاتب الذي جعل من هذا الاستنباط العظيم قرينة للحكمة والشجاعة الديمقراطية وأن أستخدم مصطلح “متلازمة الكوفة” لوصف الأحداث المماثلة التي تحدث في كل زمان، ذلك أن الوقائع التاريخية لا تتكرر عينُها بل تتكرّر مثيلاتُها، ولقد شهدنا على مرّ التاريخ ظهورَ مئات الشخصيات التي تشبه اليزيد الظالم إلى جانب المئات من الذين يشبهون الحسين المظلوم رضوان الله عليه، ويظهر أمامنا دائمًا أهل الكوفة الذين يُسحَقون تحت تأثير الخوف من الطاغية وحسابات المصلحة… أما البكاء في صمتٍ فلم ولن يكون وسيلةَ نجاةِ المظلومين، فهم بذلك يتحوّلون إلى “شياطين خرساء” ولا يمكن وقف الظلم من خلال همسهم خلف الأبواب المغلقة بقولهم “كفى ظلمًا”…
يجب الصياحُ في قلب كلّ عصر: “يا أهل الكوفة! لا تخافوا من اليزيد ولا تحنوا رؤوسكم أمام عروض الإغراء من الوالي!”.
محكمةٌ تأسّسَتْ كمشروعٍ خاص
انقلبت الموازين في تركيا رأسًا على عقب بعد الكشف عن فضيحة الفساد يوم 17 ديسمبر/كانون الأول (2013م) لا سيما ميزان العدل المختلّ أصلًا والمتخم بالمشاكل.
فبالرغم من ظهور الأدلة المادية التي أفضت إلى استقالة أربعة وزراء بشكل جلي تدخّلت السلطة التنفيذية في عمل القضاء وعمدت إلى إصدار الأوامر لتغيير القضاة والمدعين العموم واعتقال الموظفين بالدولة من الذين أطلقوا التحقيق في هذه الفضيحة الكبرى.
وللأسف، تعززت لدى الشعب التركي فكرة “اللصوص أحرار طلقاء ومَن قبضوا على اللصوص في السجون”! كما هُدمت مشاعر الثقة بالعدل وسُوِّيَت بالأرض.
في تلك الأثناء كانت هناك مبادرات من أجل تغييرِ القوانين لإنقاذ بعضهم خصّيصًا، كما كان السعي مستمرًّا لاستكمال التجهيزات والاستعدادات اللازمة للتمكن من إدانة أناس أبرياء بعمل تعديلات متزامنة، وتشكلت المحاكم الخاصة لتنفيذ هذا الغرض وتحقيق المشروع في إدانة الأبرياء بإلغاء المحاكمة الطبيعية، وناقش الرأي العام -بما فيه الكفاية- تشكيل محاكم الصلح والجزاء وتعيين أسماء مختارة بعناية من القضاة في هذه المحاكم.
لقد علقت الحكومة مبدأ “المحاكمة الطبيعية”، الذي يعتبر أحد أهمّ المعايير في القضاء، وشكلت محاكم خاصة لمعاقبة أشخاص بعينهم لأنها تريد أن تعاقبهم، وهذه وضعية مخالفة للدستور والقانون الدولي على حدٍّ سواء، يضاف إلى ذلك أن الاعتراض على أحكام هذه المحاكم لا يتم لدى محكمة أعلى منها بل يتم لدى المحكمة نفسها التي أصدرت الحكم، وهذا خطأ قانوني لم يسبق له مثيل قبل ذلك! ولهذا وُجّه اتهام لهذه المحاكم بأنها: “تم تأسيسها لمشروع خاص” وإننا بسبب ذلك نُصوّبُ سهام انتقاداتنا نحو قضاتها ومدعيها العموم.
لقد تم عرضُنا على قضاة الصلح والجزاء الأسبوع الماضي باتهامٍ خاوٍ من أيّ مضمون، وبطبيعة الحال فإن قلق الرأي العام كان يلقي بظلاله القاتمة على الملف الخاص بنا، ولقد كانت الاتهامات الموجّهة إلينا لا تتحملها الضمائر ولا يمكن تفسيرها بالقواعد القانونيّة، فعلى سبيل المثال سجْنُ “هِدَايَتْ كَارَاجَا” مديرِ مؤسسة “سامان يولو” الإعلامية بسبب سيناريو مسلسل يعتبرُ خطأً تاريخيًّا فادحًا أحرج تركيا وفضحها أمام العالم بأسره، وعندما ألبسوا هذه القضية ثوبَ تهمةٍ من قبيل “تشكيل تنظيمٍ إرهابيٍّ وقيادته” اتّضح الظلم أكثر.
ولا شك في أن القبض عليّ وتوقيفي تحت مراقبة الشرطة والقضاة لمدة مائةٍ وعشرين ساعة بسبب اتهام متعلِّقٍ بمقالين وخبر صحفي يشير إلى حقيقة صادمة ستدخل سجلات التاريخ من أوسع الأبواب، ولن ننسى أبدًا أننا وجَّهنا أسئلةً إلى القاضي وقلنا له: “هل القضية تستند حقًا إلى مقالين وخبر؟” فرد علينا بالإيجاب، ففي الوقت الذي كانت فيه القضية صريحةً إلى هذا الحدّ وضعيفةً من الناحية القانونيّة فإن اعتراض النيابة على قرار إطلاق سراحي يؤكّد -مع الأسف- النظرةَ السلبية المتعلقة بالمحاكم المشار إليها.
أضف إلى ذلك التدخّل السافر لرئيس الجمهورية في عمل المحاكم؛ إذ أدلى بتصريح أمام الرأي العام فسّره العديد من خبراء القانون على أنه تدخل مباشر في عمل القضاء، الأمر الذي يجعله قد ارتكب جريمة قانونية وتدخل للتأثير على الحكم الذي سيصدره القضاء.
إن الملف واضحٌ وضوحَ الشمس، مهما فعلوا من أفاعيل ومارسوا من ضغوط؛ إذ إن ما قاموا به لا يرقى حتى إلى مرتبة الخيال، فالتهمة المادية صفر، والموجود هو عبارة عن سيناريوهات ملفّقة لا تتوافق في مستنداتها، فإذا كان الوضع كذلك فعلى القضاة الذين ينظرون في الدعوى ويرتدون ثوبَ القضاء ويجلسون على منصته أن يصدروا الأحكام بحسب ملف القضية.
لا يمكن أن نشهد قضاء عادلًا في محكمةٍ تصدر عنها الأحكام المسبقة فكيفَ إذا كانت المحكمة تُتّهَم أصلًا بأنها محكمة “تمّ تأسيسها لمشروع خاص”!؟
إن القضاةَ ملزمون بإصدار الأحكام بحسب الملف الذي ينظرون فيه ووفقًا للقوانين وضمائرهم، وإلا فإن الله سيُحاسبهم والتاريخ لن ينسى
ما يصدرونه من أحكام.
“يعتمد النظام الحاكم في تركيا اليوم على طريقة لجأت إليها الأنظمة السابقة في أقدم حقب تاريخ تركيا وأكثرها ظلامًا، فَهُمْ في البداية يختلقون أخبارًا لا أساس لها من الصحة ثم يصدرون تعليماتهم للنواب العموم بإعداد ملفات لهذه القضايا، وبعدها تنتقل القضية إلى المحكمة وسرعان ما يواصل “الإعلام المفتري” دعايته السوداء ليأسر عقول الناس“.