الديمقراطية مسألة ثقافية، وقد لا يستطيع كل مجتمع ممارسة الديمقراطية ويعجز عن تقدير قيمتها. للأسف إن الديمقراطية لم تحظ بفرصة الازدهار في المجتمعات الشرقية وخصوصًا في بلاد المسلمين، تركيا كانت أكثر بلاد المسلمين التي صمدت في الديمقراطية مدة طويلة، والمشهد فيها واضح. والمجتمع التركي الذي تذوق طعم الديمقراطية والحريات لم يخاطر لحمايتها والدفاع عنها وعجز عن التحلي بالشجاعة ولم يدرك قيمة حرية الفكر وأهمية الإعلام الذي يعد بمثابة الماء والهواء بالنسبة للديمقراطية.
عجز المجتمع التركي عن إبداء رد الفعل اللازم في الوقت الذي كان يزج فيه بالصحفيين والأكاديميين والمفكرين داخل السجون، والتزم الصمت بينما كانت إرادته تنتهك وأصواته تسرق وبرلمانه يعطل وينتقل نظام الحكم في البلاد إلى نظام الفرد الواحد ويقضى على مبدأ الفصل بين السلطات.
واختار المواطن التركي الصمت تحت شعار “المهم ألا يصيبني مكروه!”، “وليبق الشر بعيدًا عني!”، ولما تعرض المعترضون للقمع، سكت الساخطون والمتذمرون ولم يحركوا ساكنًا.
كفرنا بصناعة الغرب
الديمقراطية مصطلح أجنبي قادم من الغرب، والمصطلحات مثل الفصل بين السلطات في الدولة والنظام الرقابي المتزن من “صنع الكفار!”. والمجتمع المسلم التزم الصمت تجاه هدم هذه المصطلحات وتقبل بضياعها، وربما لم يكن يقدر قدرها. هذه المصطلحات كانت مصطلحات يرددها الفصيل المثقف ولم يفهمها الشعب كما ينبغي. حسنًا، ماذا حدث للعدالة في هذه المنطقة؟
صَمَتْنا وانهارت العدالة
كنا نعتبر أن العدل من مبادئنا الأساسية، وأنه أحد المفاهيم الأربعة الأساسية في القرآن. وأن”العدل” من أسماء الله الحسنى. وفي كل خطبة يتلو الأئمة آية “إن الله يأمر بالعدل..”، كما أن عبارة “العدل أساس الملك” تنسب لسيدنا عمر (رضي الله عنه) في نظر المتدينين، وتنسب لأتاتورك في نظر الكماليين.
فهذا البلد يبرز فيه مصطلح “العدل” عند الحديث عن موضوع اجتماعي أو أمور تتعلق بالدولة والإدارة، بينما كانت الديمقراطية تحتوي على مصطلحات غير مفهومة وكان الشعب لا يفهم تلك المصطلحات المعقدة.
ولربما لهذا السبب أهل هذا البلد شاهدوا بِحِيرَةٍ رحيل الديمقراطية عنهم. حسنًا، ولكن لماذا صمت الشعب على انهيار مفهوم العدل وسحقه بهذه الطريقة؟ ولماذا التزموا الصمت تجاه ممارسة الظلم بأنواعه؟
المجتمع التركي تجاهل الديمقراطية ولم يكترث لهدمها، وكان يتوجب عليه البحث عن العدل على الأقل وبذل الجهد لحماية الحقوق والقوانين، لأنه لن يستمر الملك والدولة والنظام المجتمعي في مكان يغيب فيه العدل.
أحداث مؤلمة تشهد على غياب العدالة
أكثر من 700 طفل يكبرون داخل السجون، تقبع أكثر من 17 ألف سيدة داخل السجون وكثير منهن برفقة أولادهن أو تم التفريق بينهن وبين أولادهن، وكثير من القرى التي يعيش فيها الأكراد تتعرض للدمار الشامل.
ولماذا يلتزم هذا المجتمع الصمت بينما يزج برجال متقدمين في العمر إلى السجن بسبب حبهم للخير، ويبلغ بعضهم من العمر 86 عاما ويعجز عن السير على قدميه، ويعاني من أمراض مختلفة داخل السجن؟
لم يكترثوا أمام تدمير الديمقراطية، ولكن لماذا التزموا الصمت على قتل العدل واغتصاب القانون؟ لماذا يصدقون على القضاء على العدل وهو المصطلح الأكثر استخدامًا في الإسلام وورد ذكره في القرآن أكثر من مرة ويروى عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يطبقه حتى ولو كان على ابنته فاطمة؟
دعم الظلم والظالمين
لماذا تحول المتدينون الذين يؤكدون على أهمية العدل في الإسلام ويتحدثون عن مؤاخذة سيدنا عمر في القميص الذي لبسه أثناء روايتهم للقصص الدينية، إلى أكبر الداعمين للظلم والظالمين؟
المؤمنون يسجدون شكرًا وعيونهم تفيض من الدمع لأن لديهم رئيس يجيد تلاوة القرآن وهم يتجاهلون المظالم التي يرتكبها.
الطائفة القومية والمحافظة التي تروي قصة محاكمة السلطان محمد الفاتح العثماني مع معماري أرميني وإصدار القاضي آنذاك الحكم بتطبيق القصاص على السلطان ويقدمونها كنموذج للعدل التركي أصبحت أكبر دعامة لنظام الظلم القائم اليوم.
لماذا لم يستنكر المؤمنون رحيل العدل؟ وفي الواقع يتعلق الأمر باختفاء حس الفضيلة، فعند غياب حس الفضيلة لا يهم أي معتقد ديني ينتمي إليه المجتمع، فالضمير والإنصاف لا يعملان بعملهما.
المرحلة التي بلغناها تشير إلى تردٍّ أخلاقي أكثر من كونه مشهدًا سياسيًّا. من الممكن أن يجهل الناس المفاهيم الفلسفية المعاصرة ومسار الديمقراطية، لكنهم من دون أي شك يعرفون أن إرسال سيدة يوم مع مولودها يوم وضع حملها إلى السجن ظلم صريح لا نقاش فيه.
قد يعجز كثير من الناس عن إدراك وتحليل ما سيسفر عن الفصل بين السلطات، ولكن الجميع يعلم ما معنى فصل ناس لم يلجؤوا للعنف أبدا في حياتهم عن أعمالهم والتفريق بينهم وبين زوجاتهم وأطفالهم والزج بهم داخل السجون.
بإمكان أي شخص أن يلاحظ أحداث اعتقال ربات المنازل وهن مكبلات وحبس المسنين بحجة كونهم إرهابيين. وحتى إن كانوا غير متعلمين فإنهم يدركون جيدا أن امتلاء السجون بآلاف الأكاديميين والمدرسين والأطباء والقضاة خلال بضعة أيام ليس أمرا طبيعيًا ولا عاديًّا.
إقامة نظام الفرد الواحد
منذ عام 2010 تشهد البلاد اتجاهًا لإقامة نظام الفرد الواحد. وتظاهرات “حديقة جيزي” كانت رد فعل عنيف من المجتمع تجاه ذلك، ولكن السلطات قمعتها بعنف.
وتحقيقات الفساد والرشاوى التي شهدتها تركيا في نهاية عام 2013 كانت رد فعل من القضاء والبيروقراطية على تأسيس نظام الفرد الواحد وتلويث السلطة.
تم تصنيف القضاة وأفراد الشرطة الذين أدوا مهاهم بالتركيز على أصل الموضوع عوضًا عن مسايرة الادعاءات كعناصر انقلابية وسجنهم.
اكتملت وتيرة إنشاء نظام الفرد الواحد بإسهام كبير من المعارضة، حيث رسخ أردوغان هيكلا يسيطر خلاله على كل شيء ولا يُحاسب فيه.
الديمقراطية والقانون وجهان لعملة واحدة، وفي حال غياب القانون لا يمكن تحقيق الديمقراطية، لكن نادرًا ما قد يظهر العدل والإدارة العادلة في مكان يفتقر للديمقراطية. وقد يظهر سلاطين وملوك وأنظمة فرد واحد عادلة على الرغم من كونها حالات استثنائية.
المجتمع التركي تجاهل الديمقراطية ولم يكترث لهدمها ولكن كان يتوجب عليه البحث عن العدل على الأقل وبذل الجهد لحماية الحقوق والقوانين، لأنه لن يستمر الملك والدولة والنظام المجتمعي في مكان يغيب فيه العدل.
ومنذ الآن فصاعدا سنشاهد تفكك المجتمع وانهيار الاقتصاد وأنظمة التعليم والبيروقراطية مثلما يحدث في كل بلد يدار بنظام الفرد الواحد.
يمكن القول بيقين رياضي أن البلد الذي يفتقر للعدل والقانون وحرية الصحافة وأمن الممتلكات والأرواح سينهار وسيعاني شعبه من الشقاء.
ماذا يجب فعله منذ الآن فصاعدا؟
لا فائدة من التشاؤم وإهانة الشعب. الديمقراطية مسألة ثقافة، بعض المجتمعات تناضل من أجلها والبعض الآخر يفضل نظام الفرد الواحد. وفي حال عدم وجود طلب كاف وقوي لحماية الديمقراطية ومواصلتها فلا مغزى من المطالبة بالديمقراطية من أجل الشعب على الرغم منه.
أصبحت تركيا تفتقر لأرضية النضال من أجل الديمقراطية والقانون والحقوق. وإن استطاعت هذه المفاهيم أن تحقق للإنسان الأمور التي تمثل أهمية بالنسبة له فبإمكانه الهجرة إلى الأوطان التي تتمتع بها، أما العاجزون عن الهجرة فيجب عليهم التركيز على أعمالهم المنزلية وانتظار نهاية الفيلم عوضًا عن الاهتمام بقضايا اجتماعية سياسية خطيرة ونشر التغريدات وغيرها.