“تحليل الشخصيات أصعب من تحليل الحركات”، بهذه الأرضية يفتتح الباحث محمد أنس أركنه عمله المُخصص لاستعراض الخطوط العريضة لمشروع “فتح الله كولن”؛ المفكر التركي المقيم في الولايات المتحدة. وتخول نفس الأرضية التأسيسية للكاتب، مطالبته للمعنيين والمختصين في موضوع تحليل الحركات الاجتماعية، بتناول شخصية الأستاذ “فتح الله كولن” بالتحليل، معتبرًا أنها الشخصية المثالية التي ظهرت في عهد المواجهة بين الحداثة، وبين الإسلام والثقافة الإسلامية، وأنها شخصية تملك جذور تقاليد الثقافة الإسلامية النابعة من عدة عصور، وأنها شخصية شاهدت وعاصرت جميع التغيرات الجذرية التي حدثت في العصر الحديث، وأنها أخيرًا شخصية لها ماهية ثقافية واجتماعية عميقة. (فتح الله كولن، جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، صدر الكتاب عن دار النيل، القاهرة، ط 1، 2010، وترجمه للعربية أورخان محمد علي.

حركة “فتح الله كولن” حركة مجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم الصوفية؛ الفكرية منها والعملية.

يدقق المؤلف كثيرًا في الجانب السلوكي والعرفاني لـ”فتح الله كولن”، مضيفًا أنه يحتوي على معلوماته العرفانية حول الوجود والكائنات، وعلى تجاربه في هذا الخصوص، ومرد هذا التدقيق أن الاقتصار فقط على الأحاسيس المادية وما تعكسه من العالم المادي، يصعب علينا أن نتجاوز الحدود المادية التي تشكل إطار فكرنا، وبالتالي طالما بقينا في إطار الحدود التي رسمها العالم المادي في أذهاننا، فلن نستطيع فهم التجربة الروحية والمعنوية لـ”كولن”، لولا أن التجربة الروحية الإسلامية تستدعي مستوًى عاليًا ومختلفًا من المعرفة والمشاعر.
انبهار المؤلف بشخصية المحتفى به، يُخول أيضا التأكيد على أن “فتح الله كولن” من الشخصيات التي يصعب حقًّا تحليلها، وأنه من الحلقات الأخيرة لسلسلة العلماء المسلمين (كذا)، كونه صورة للتراث الإسلامي في العصر الحديث.

حركة فتح الله كولن والإسلام

يؤكد المؤلف في هذه الجزئية وبكل وضوح، أن حركة “فتح الله كولن” لا تملك بنية فكرانية (إيديولوجية)، ولا متسعًا لتأسيس فكرانية دينية أو سياسية، من منطلق أنه عارض تحويل الدين إلى فكرانية سياسية أو تفسيره على هذا النحو. لذا كان من الخطأ النظر إلى حركته كحركة دينية، تتحرك ضمن فكرانية إسلامية تقليدية.
ومن الخطأ أيضًا – يضيف محمد أنس أركنه- الوقوع في خوف أو قلق مما يجري حاليًا في العالم الإسلامي، واعتباره نتيجة للفعالية السياسية للإسلام، ثم تمهيدًا موجهًا للعلاقة الدولية، ولا سيما حركة “فتح الله كولن”، لأن الآلية الأساسية في هذه الحركة هي ماهيتها الدينية والثقافية والاجتماعية، البعيدة عن الصبغة السياسية والأيديولوجية، بدليل أن الأستاذ “فتح الله كولن” بقي طوال حياته بعيدًا عن الفعاليات والأهداف السياسية، ولم يقدِّم الإسلام في أي وقت من الأوقات كفكرانية سياسية، بل رأى أن هذا الأسلوب من التبليغ والدعوة سيلحق ضررًا بالدعوة الإسلامية، حتى أنه كرّر شرح موقفه هذا مرارًا وتكرارًا، سواء في خطبه للجماهير أو في مقالاته.

عندما يُذكر “رجل الخدمة” يتبادر إلى الذهن صورة إنسان ناذرٍ نفسَه للإنسانية، وللتضحية والإيثار، وذي قلب واسع يحتضن البشرية كافة.

وأخيرا، من الخطأ أيضا التعامل مع النظر إلى حركة “فتح الله كولن” وكأنها حركة دينية تقليدية صرفة، لاعتبارات عدة، أهمها أن لهذه الحركة سمة وماهية، وغاية اجتماعية وثقافية. وبَدَهي أن المحللين في الغرب تعوّدوا على النظر إلى الحركات الدينية، وكأنها حركات ردود فعل ضد الحداثة، محاولين على الدوام تصنيفها في إطار نظريات الأزمات.

أي نموذج تفسيري لمشروع كولن؟

ومن باب دحض بعض النماذج التفسيرية الجاهزة لدى الباحثين الغربيين، بخصوص قراءة و”تفكيك” الحركات الاجتماعية في الساحة الإسلامية، يؤكد المؤلف على أن حركة كولن (نموذجًا) ليست حركة رد فعل، وليس لها علاقة بثقافة الأحياء الشعبية الفقيرة أو ردود فعلها، وليس لها علاقة بالحياة القروية أو الريفية، بحكم أن القائمين على حمل أعباء هذه الحركة هم أكثر أفراد المجتمع ثقافة وقابلية، وهم ينتسبون إلى أفضل طبقات المجتمع، وهم أيضا أبناء المدن الذين تلقوا تعليمًا عاليًا في تركيا وخارجها، وعرفوا قيم العصر الحديث عن قرب واستوعبوها. إضافة إلى أنهم لا يقومون بنقد وردّ أي فكرانية للدولة ولا ينشطون لمعارضتها ومخالفتها، ولا يعملون بشعور الفقر والحرمان، مثل الحركات الناجمة عن ردود الأفعال الراديكالية، بل يقيمون كل تصرفاتهم وعلاقاتهم على أساس الحوار والتفاهم وقبول الآخر، ثم إن كل علاقاتهم مع المجتمع ومع الأفراد الآخرين قائمة على أساس إيجابي. وبدلاً من سلوك طريق القوة والعنف وطريق الهدم والانقلاب؛ (أي “المقاومة بالسلطان” بتعبير طه عبد الرحمن في كتاب “روح الدين”)، سلكوا طريق تقديم البدائل دون أن يخلوا بالنظام القائم، وتقديم الطرق لمصلحة البلاد في التطور والانفتاح. وتجد في جميع علاقاتهم أنهم اتخذوا الفرد والمجتمع والإنسانية هدفًا وغاية لهم.

 بعد نجاح “حركة الخدمة” الفذ في مجال التعليم والتربية، نرى أنها قدمت حلاًّ وجوابًا لمشكلة الأزمات الثقافية التي تعمقت في الساحة التركية لسنوات طويلة.

وفي معرض الرد على الأسئلة اللصيقة بالعلاقة بين حركة “فتح الله كولن” والتصوف، يُقرّ المؤلف بوجود بعض أوجه الشبه بين الآليات الرئيسة للحركة والطرائق الصوفية التقليدية، في استعمال بعض المفاهيم المتعلقة بالتربية الروحية والحياة القلبية، إلا أنها تختلف عنها في مجال تشكيل حركة مدنية مؤثرة، وفي طراز التثقيف، وفي منهجية سلوكيات الحركة. مضيفًا أن حركة “فتح الله كولن” حركة مجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم الصوفية؛ الفكرية منها والعملية، من قبيل التواضع والتضحية والإخلاص، ونذر النفس للخدمة، والتوجه نحو الحق تعالى، والعيش لإسعاد الآخرين، وتقديم الخدمات دون مقابل، والتوجه نحو الحياة الروحية والمعنوية والقلبية… ولكنها لا تجعل الإنسان يتوقع من نفسه، بل يتوجه إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى المجتمع أيضا. ومن هذه الزاوية، فإن العمق الديني وشعور العبودية يحملان أهدافًا اجتماعية، أكثر شموليةً وتكاملاً.
وفي ما يتعلق بمفهوم “الخدمة” في هذه الحركة؛ فهو يعرض شمولاً أوسع و ديمومة أكبر، مقارنة مع السائد لدى باقي الطرائق الصوفية (والتقييم للمؤلف دائمًا)، بحكم أنه يستعين، ليس بالقيم الدينية فقط ، بل بالقيم الوطنية والإنسانية والأخلاقية، وبالعلاقات الاجتماعية كذلك، ويتبع طريقًا عقلانيًّا ومعقولاً تجاه قيم الدولة والملة في علاقاتها الاجتماعية، حتى إنه عند ذكر “رجل الخدمة” يتبادر إلى الذهن صورة إنسان ناذرٍ نفسَه للإنسانية، وللتضحية والإيثار، وذي قلب واسع يحتضن البشرية كافة؛ وواضح أن هذا الأمر يستوجب حُبًّا كبيرًا للدين وللأمة وللإنسانية. لذا، فإن الذين احتضنوا الحركة كانوا مستعدين دائمًا للتضحية بالغالي والنفيس، في سبيل كسب رضا الخالق عز وجل، بحب عميق وإيمان راسخ.

على الرغم من حملات التشنيع ضد حركة الخدمة، إلَّا أن هذه الحملات التشويهية لم تستطع هز مشروعيتها في وجدان الأمة.

ويبدو أن حركة “فتح الله كولن” بآلياتها وماضيها التاريخي، لم تتوجه إلى أي هدف سياسي أو غاية سياسية، حيث كانت حركة مثالية تجمع القيم الدينية مع القيم الإنسانية والاجتماعية في وحدة متكاملة، وهي تقدم تجربة فريدة في هذا الخصوص. ويرى المؤلف في هذا الصدد، وخاصة بعد نجاح الحركة الفذ في مجال التعليم والتربية، أنها قدمت حلاًّ وجوابًا لمشكلة الأزمات الثقافية التي تعمقت في الساحة التركية لسنوات طويلة.
ثم إن “فتح الله كولن” كمؤمن حريص على إيمانه، وكمواطن مدني اعتيادي، توجه بنشاطه إلى الساحة المدنية بما يتطلب تضحيات كبيرة، وعملاً لسنوات طويلة دون انتظار أي مقابل، وتتطلب أناسًا نذروا أنفسهم لصالح المجتمع وفي سبيل إسعاد مستقبله.
والطريف أن بعض المقالات والبحوث التي تناولت تحليل حركة “فتح الله كولن”، حاولت إضعاف مشروعية هذه الحركة، وإظهارها كحركة فكرانية (إيديولوجية)؛ أي كأنها حركة رد فعل تحاول تقديم بديل للهوية الاجتماعية، ولكنها لم تنجح في هذا المسعى برأي المؤلف، لأن هذه الحركة وجدت في جو القيم المركزية للمجتمع، وهذا هو السبب وراء مشروعيتها الاجتماعية. وعلى الرغم من حملات التشنيع ضدها، فإنها لم تستطع هز مشروعيتها في وجدان الأمة، مضيفًا أن مشروع “كولن” ليس حركة منظمة فكرانية؛ فهو لا يبتغي تطبيق أي ضغط أو إكراه، لا على المجتمع ككل، ولا على أفكار منتسبيه وقراراتهم الوجدانية والاجتماعية، ولا على سلوكهم وتصرفاتهم، بل إنه يعد كل نوع من أنواع الضغط الاجتماعي والفكراني مناقضًا لروح الدعوة الدينية، على اعتبار أن هذه الأخيرة تخاطب الإرادة الحرة، والوجدان الحر، وحرية الاختيار بشكل مباشر، وتتوجه إلى الآليات الطبيعية الموجودة في فطرة الإنسان، لأن الخالق عز وجل وضع في فطرة كل إنسان وفي وجدان كل فرد آليات يعرف بها نفسه له، ولكي يعرف بها الإنسان ربه إلى الآخرين، وهذه هي الساحة التي تخاطبها الجماعة الدينية : الشعور السليم، والوجدان، والفطرة السليمة.

المصدر: موقع مؤمنون بلا حدود

رابط المقال: https://bit.ly/1jYhuKS