عجيب أمر هذه الخدمة! إنها صرح للتواصل، بل هي اليوم خبيرة في نسج خيوط التعارف واللقاء والمحبة والألفة، خبرتها في وصل أطراف الجسد الواحد لا تُجادل، حتى صارت حديث القاصي والداني. إن أطراف هذا الجسد مترابطة، لكن شعور كل طرف بما يربطه بالطرف القريب منه بله الطرف البعيد عنه عسير جدًا، إلى درجة الاستحالة في كثير من الأحيان. القرب حاصل بحكم الاتصال العضوي، لكنه بعيد بحكم عدم شعور الأطراف بعضًا ببعض، لكن الخدمة نذرت نفسها لهذه المهمة الجليلة دون أن تتحدث عنه.. هي لا ترفع الشعارات ولا تدبج العناوين، لكنها تتقن فن حياكة رداء الشعور الواحد، وتتقن نقش تفاصيل الربط والوصل بدقة دقيقة، ولأنها لا تجري خلف الشعارات ولا ترمي إلى تحقيق أي نوع من المصالح التي يركض خلفها الغير، فإن التوفيق قدرها.. هي تحبذ التحرك الناعم دون إثارة الانتباه إليها ولما يقوم به أبطال يتقنون فن صناعة الخير والسعادة.
هذا الإحساس الذي انتابني وأنا أتواصل مع أطراف مني في مدينة غازي عنتاب التركية، مدينة ذات حساسية خاصة لأنها أحد المراكز الهامة التي يقطنها الأكراد، منطقة حساسة أمنيًّا وسياسيًّا، هي مقدمة سلسلة طويلة من الجبال اتخذ منها طرف مسلح مرتعًا لتحركاته. خلال هذه الزيارة القصير عمرها، لكنها قرن من الدروس والعبر والتجارب، أثار انتباهي عدم الشعور بالغربة عن المكان وأهله. قال أحد الأحبة: لقد أشرقت أساريرك وانطلقت ابتسامتك وكانت غائبة طيلة الرحلة، بعد أن وطئت أقدامنا هذه المدينة.. ما سر ذلك؟ وقتها لم أعرف الجواب ولا السبب، لكن ما لم أدركه ابتداء وقبلاً، أدركته بعدًا؛ لقد وجدت روحي أرواحًا أخرى سارية في المكان، كانت أنفاسهم تملأ الأماكن والأرجاء، أنفاس أعرفها حق المعرفة، عرفتها في مدارس الفاتح في المغرب، وفي كلمات أخوة تناوبوا على تأثيث أرجاء هذه المدارس.. عرفتها في أكاديمية الدراسات والبحوث، وفي وقف الكتّاب والصحفيين، وعرفتها في ابتسامة أخوة صارت تربطني بهم وشائج محبة لا توصف.. عرفتها في مواعظ الأستاذ وفي دموعه، وفي بكاء شباب يملأ المساجد الجامعة في أهم المدن التركية.. وعرفتها فيما قرأت من كتب الأستاذ وفي إقبال المنصفين من المثقفين والمفكرين من العالم كله على دراسة فكره.. عرفتها في كل مكان زرته أو أقمت فيه، وعرفتها في كل مكان سأنتقل إليه.. نعم بصيغة الماضي، لقد صارت روحي تتحسس هذه النسمات العجيبة عن بعد في المكان والزمان.
قاعات القراءة مرافق اجتماعية يرعاها المجتمع المدني من أجل خدمة الوطن وخدمة الوعي الجمعي، تقدم الدعم الدراسي والتربوي لأبناء الأسر الفقيرة التي لا تستطيع مواجهة تكاليف الحياة
أضافت الزيارة القصيرة الطويلة إلى غازي عنتاب إلى رصيدي عن الخدمة حلقة أخرى وأنا أزور قاعات القراءة، إنها أماكن تشبه “الدرس خانات”، أو قاعات الدعم الدراسي المنتشرة في ربوع تركيا.. هي تشبهها من حيث الروح التي تحركها، وتشبهها في الهدف والمرامي السامية المتطلعة إليها، لأنها خرجت من معطف واحد، الأسلوب وحده يبدو مختلفًا. المميز المركزي هو التطوع ونكران الذات والعطاء دون الأخذ، بل هي تأخذ محبة الناس وتأخذ البشرى التي وعد الله بها عباده المخلصين.
المتطوعون بل أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. هذا الشعور انتابني وأنا أنصت بكل جوارحي لحكاية عجيبة عن إخوة تحدوا الخوف وتحدوا المستحيل وتحدوا اليأس وهم يقتحمون الأحياء الفقيرة والهامشية، مسلحين بالثقة في الله وصدق نواياهم، مستحضرين شعار من كان لله كان الله له. الأمن لا يدخل هذه الأحياء إلا بمساعدة الجيش وكل أنواع التحصينات من مدرعات وغيرها، وأما هؤلاء فدخلوا محصنين بصدق النية ومراد الخير، تقدموا نحو الأعيان وهم يعلمون بأن الموت يترصدهم، لكنهم لم يبالوا بذلك، وحتى وإن كتب الله عليهم الشهادة فسيدركون أجر الجهاد الأكبر؛ جهاد فتح القلوب وتنقيتها مما علق بها من أدران.. فهم لا يرهبون الناس ولا يقتلون، سلاحهم ابتسامة ونقاء سريرة وصفاء قلب.. قالوا للأعيان: ألا تريدون أن يتعلم أبناؤكم، ويصلون إلى الجامعات، ويكون بينهم الطبيب والطبيبة والمعلم والمعلمة والأستاذ والأستاذة والمهندس والمهندسة، ويكونون أفرادًا صالحين يستفيد منهم الوطن والإنسانية كلها؟ قالوا: بلى، نحن نريد أن يكون مصير أبنائنا أضمن، ومستقبلهم أفضل.. فقالوا سنتطوع وننشئ قاعات للمطالعة تقدم الدعم لأبنائكم في دروسهم وتساعدكم على تربيتهم ورعايتهم.. فسلمونا أبناءكم، سيكونون أمانة في أعناقنا، سيكونون أبناءنا.
قاعات القراءة مرافق اجتماعية يرعاها المجتمع المدني خدمة للمجتمع المدني من أجل خدمة الوطن وخدمة الوعي الجمعي، تقدم الدعم الدراسي والتربوي لأبناء الأسر الفقيرة التي لا تستطيع مواجهة تكاليف الحياة، بله أن تتكفل بمصاريف دراسة الأبناء، والنتيجة هي ضياع جملة من البراعم والزهور الواعدة، ووقوعهم هدية سهلة في يد العصابات الإجرامية وغيرها.. في هذه القاعات يجد البراعم الفضاء الجميل وقاعات الدراسة ووسائل الترفيه تحت أعين وتوجيه مربين يعاملونهم بحب وتفان، يجدون المساعدة في الدراسة وتقدم لهم المقررات الدراسية بالمجان، يجدون الطعام والملبس وأشياء أخرى.
هؤلاء البراعم يرتادون الدار سفراء للنوايا الحسنة في أسرهم، عندما تعتني بالأبناء فإنك تعتني بطريق غير مباشر بالأسرة، تمسح سريرة برعم من الأدران، فتمسح قلب الأب والأم وباقي أفراد الأسرة.
في الصالون الكبير جلسنا نحتسي الشاي الأسود، ونحن آذان صاغية لما يتفضل به المشرف على الدار المكونة من أربعة طوابق على مساحة تتجاوز 400 متر مربع هي ثمرة عمل تطوعي جماعي لمجموعة من الأصناف، أحدهم قدم الأرض التي أقيم عليها المبنى، وآخرون ساهموا في البناء، والبعض الآخر جهز، وآخرون ينفقون.. مظهر راق من مظاهر الوعي الجمعي، وشباب يؤطر ويعلم ويربي، كل خدمات الدار تقدم بالمجان لأبناء الأحياء الفقيرة المجاورة.. في هذه الأثناء يدخل يافع في العاشرة تقريبًا الصالون يسلم، ينزع حذاءه يدخل الصالون باليمنى، تحركاته ونظراته تدل على أنه شعلة من الذكاء والحيوية، صلى ركعتين، تحى ثم سلم، خرج باليسرى، ثم لبس حذاءه باليمنى.. عجيب كأنه يطبّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يمكن أن يكون الأمر مجرد اتفاق، لقد تشرب ذلك قدوة.. كنت أبحث في قرارة نفسي عما يلخص باختصار ما يلقاه هؤلاء البراعم، فجاء الجواب. الصورة تكتمل الآن، كل برعم من هؤلاء البراعم يرتاد الدار سفير للنوايا الحسنة في أسرته، عندما تعتني بالأبناء فإنك تعتني بطريق غير مباشر بالأسرة، تمسح سريرة برعم من الأدران، فتمسح قلب الأب والأم وباقي أفراد الأسرة، تطبع على قلب من يأتي الدار من البراعم أختام الحب والصدق، فتأتي الأسرة بكاملها إليك.. هذا ما كانت عبارات قلب المشرف على الدار تهتف به رموزًا. قال الأب: قبل أن يلتحق ابني بهذه الدار، كنت لا أصلي كنت مسلمًا بالعادة، بت أخجل من نفسي وأنا أرى ابني يحافظ على الصلاة.. بعد أن تغير سلوكه وصار يكثر من ترديد أقوال مرشده في الدار، فأحببت هذا المرشد.
في طابق أعلى عرفنا المشرف على غرف معدة للنوم أو المنامات، إنها نوع من البيوت الداخلية التي يرتادها بعض الأولاد الذين ينتمون إلى الأسر الكثيرة الأطفال، والتي يضيق البيت عن توفير ظروف تساعدهم على التحصيل الدراسي، لكن الدار توفر ذلك.. ليت شعري هل من سبيل لنقل هذا الواقع إلى الجوار، إلى الباحثين عن الواقعية؟ إن الواقعية هي أن تعيش روح الدين وتترجمه إلى حركية فعالة بكل صدق وإخلاص، ثم ارفع شعار “وأما بنعمة ربك فحدث”.