الأحداث في تركيا هي حديث المنتديات في الآونة الأخيرة في المغرب، خصوصًا بين فئة المتابعين للشأن السياسي والثقافي والفكري، وربما في مناطق أخرى من العالَم العربي، ويعكس هذا الاهتمام نوعًا من التخوُّف على مشروع الانبعاث الحضاري الإسلامي، حسبما يروج البعض، خصوصًا بعد الآفاق الواعدة التي فُتحت أمامه في ظل الربيع العربي كما يرى البعض، وتذهب بعض المواقف إلى افتراض وجود مؤامرة تستهدف المشروع الإسلامي برُمَّته أينما وُجد، كما تذهب بعض المواقف الأخرى إلى اتهام بعض الأطراف المحسوبة على الاتجاه الإسلامي بأنها متورِّطة في هذه المؤامرة، بل يتهمها بالعمالة لقوى الاستعمار العالَمي.
المتابعون للشأن السياسي الإسلامي في العالَم العربي ينظرون إلى ما يحدث في تركيا نظرة مسكونة باليأس، على اعتبار أن تركيا كانت نموذجًا ينبغي الاحتذاء به، لذلك فإن الأحداث الأخيرة المتمثِّلة حسب تعبيرهم في الصراع بين حزب العدالة والتنمية، و”الخدمة”، هو في حقيقته نوع من الإجهاز على المشروع الإسلامي برُمَّته، وأن المستهدف في الأصل هو النجاح الذي تَحقَّق على يد حزب العدالة والتنمية بكاريزما زعيمه السيد رجب طيب أردوغان، دون صرف أي جهد في بحث القضية من جهاتها المختلفة، وتقليبها حتى تبرز الحقيقة كما يجب أن تكون لا كما يُبرِزُها التعصُّب والانفعال العاطفي.
هل يحقّ لحزب سياسي مهما كانت خلفيته الفكرية ورؤيته الأيديولوجية في سُدَّة الحكم، أن يتغاضى عمَّا يقوم به أعضاؤه من تصرُّفات تتعارض مع القيم والمبادئ، التي رفعها شعاراتٍ للوصول إلى الحكم؟
هل تُحقق السياسة الانبعاث والنهضة؟
كل هذه العناصر وغيرها تفرض التأمُّل في القضية بموضوعية كبيرة، وتفرض طرح بعض الأسئلة من قبيل: هل مشروع الانبعاث مرتبط ضرورةً بالإسلام السياسي؟ بعبارة أخرى: هل السياسة هي التي تحقِّق التطوُّر والنهضة والانبعاث، أم أن هذه الآمال والطموحات في حاجة إلى أُسُس وركائز منهجية تسبق العمل السياسي؟ وهل تتبع السياسة الفكري والفلسفي، أم العكس؟
لا شك أن الأزمة في تركيا هي محطَّة امتحان عسير، لكنها في الوقت نفسه محطَّة للتأمُّل وإعادة التفكير في الأولويات، أكثر من كونها مرحلة لتصفية الحسابات كما يريد البعض، ولن يدير هذه المرحلة باقتدار سوى مَن كانت حصانته الفكرية والثقافية سليمة المصدر عميقة العروق، لذلك فإن من يضع نُصْبَ عينيه تصفية الحسابات والبحث عن توجيه الضربة القاضية إلى الجانب الآخر، هو الطَّرَف الذي سيسجَّل في لائحة دفاتر تاريخ الشعوب والأمم بأنه الفاشل.
قد ينجح الواقفون خلف المتاريس السياسية في تحقيق مكاسب سياسية أو غير سياسية، لكن هل سيُعتبر الأمر ناجحًا في مجال القيم والأخلاق، وفي تمثيل القيم، التي يُنطلق منها ويُدَّعى الإيمان بها والالتزام؟
قد ينجح الواقفون خلف المتاريس السياسية في تحقيق مكاسب سياسية أو غير سياسية، لكن هل سيُعتبر الأمر ناجحًا في مجال القيم والأخلاق، وفي تمثيل القيم، التي يُنطلق منها ويُدَّعى الإيمان بها والالتزام؟
تجربة الإسلام السياسي تحت المجهر
إن الأزمة في تركيا ليست أزمة الأتراك وحدهم، بل هي أزمة العالَم الإسلامي كله، خصوصًا العالَم العربي، لأنها تضع على المحكّ تجربة الإسلام السياسي، وتضع في الوقت نفسه مرحلة تاريخية مُفعَمة بالأحداث ومُفعَمة بالإنجازات تحت مجهر التحليل، فإما أن هذه التجربة ستؤكِّد جدارتها وتستمرّ، وإما أن تُبرِز عيوبًا في أصل المنهج، الأمر الذي ينبغي أن يدفع من يربطون به كل آمالهم وتطلعاتهم إلى إعادة النظر في الأولويات، وإعادة ترتيبها في ضوء المنظومة المركزية الموجّهة.
الذي أفهمه باعتباري متابعًا لما يحدث في تركيا، هو أنه من يدّعِ أنه يدافع عن قيم معيَّنة ويضعها في أساس ممارسته في مجالات الحياة كافة، بما في ذلك السياسة، فعليه أن لا يخرج عن ذلك وإن كانت كل الوقائع والأحداث ضدّه، بعبارة أخرى: على من يؤمن بمبادئه ويلتزم بها البقاء على أصالته مهما كانت الظروف، والأزمة في تركيا تكشف كل يوم أن الطرف الذي يستقوي بالسلطة يكسر كل المبادئ، ويتطرف في مواقفه إلى درجة يُخَيَّل فيها إلى المتابع الموضوعي أن رؤية مكيافيلية هي المعيار المتحكِّم، وأن السياسة قد انحرفت إلى نوع من الفجور السياسي الآخذ في التهام كل الأرصدة المشرقة التي تراكمت خلال العقد الأخير. هذا في الوقت الذي تقف فيه “الخدمة” والأستاذ فتح الله كولن في دائرة الرزانة الفكرية، التي تؤكد أن الظروف المحيطة والواقع الجديد لن يكونا عاملاً في تغيير المواقع والاجهاز على المبادئ، فرغم كل ما يقوله ويفعله رجب طيب أردوغان، ورغم عملية التشهير، فإن موقف “الخدمة” لم يتزحزح، فالحقّ هو الحقّ والموقف هو الموقف.
هل القيم مجرَّد وسيلة لتحقيق الوصول إلى الأهداف والمرامي، ومجرد عنصر ثانوي يُتخلَّى عنه إذا تَعلَّق الأمر بإكراهات معيَّنة تتعارض ومصالح الذات الممارِسة للفعل؟
القيم كأداة للوصول إلى الأهداف
الأحداث في تركيا دافع كبير لأهل الرأي لإعادة طرح الأسئلة الكبرى المتصلة بطبيعة علاقة الذات بالقيم، والمبادئ التي يتأسس عليها العمل بصفة عامة، ومن هنا يبرز السؤال المركزي: هل القيم مجرَّد وسيلة لتحقيق الوصول إلى الأهداف والمرامي، ومجرد عنصر ثانوي يُتخلَّى عنه إذا تَعلَّق الأمر بإكراهات معيَّنة تتعارض ومصالح الذات الممارِسة للفعل؟ وفي هذا الإطار هل يحقّ لحزب سياسي ما كيفما كانت خلفيته الفكرية ورؤيته الأيديولوجية موجود في سُدَّة الحكم، أن يتغاضى عمَّا يقوم به أعضاؤه ومن يرتبط بهم من قريب أو بعيد من تصرُّفات تتعارض مع القيم والمبادئ، التي رفعها شعاراتٍ للوصول إلى الحكم؟ وهل يحقّ لهذا الحزب أو ذاك أن يعادي كل طرف انتقد مثل هذه التصرُّفات من زاويةِ مَا قد تجلبه على الوطن من مفاسد؟ هل يحق للأطراف الأخرى أن تسكت وتتغاضى عن ذلك لمجرَّد أن الأمر يتعلق بشخصية حقَّقَت ما حقَّقَت من إنجازات؟ إنها أسئلة كبيرة تفرض كثيرًا من التفكير وكثيرًا من التأمُّل.
ترتفع بعض الأصوات في المغرب وربما في مناطق أخرى من العالَم العربي مردِّدةً عبارة “انصر أخاك ظالِمًا أم مظلومًا”، تلميحًا إلى قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وتلميحًا إلى أن الظروف التي تمرُّ بها المنطقة والوضع العالَمي برُمَّته تفرض التغاضي عن بعض الممارسات والتصرُّفات، مع العلم بأن هذا الحديث يشير إلى أن نصرة الظالم تكون بتوجيه النصح والحَثّ على إحقاق الحقّ، لا بالتغاضي عن تصرُّفاته المفتقرة إلى الحكمة.