يرصد هذا العدد بالأدلة والوثائق، التشوه الذي تعرض له النموذج التركي في مساره الديمقراطي، إذ إن النظام الذي يحكم تركيا اليوم، والذي تسلم الحكم بوعود تطوير الديمقراطية وتوسيع الحريات، ألقى بجميع وعوده الديمقراطية عرض الحائط عندما تمكن من مقاليد السلطة؛ فقد جنح بمؤسسات الدولة التركية إلى مجرد أدوات تخدم مصالحه وطموحاته السياسية. ولم يكتف بهذا، بل مزَّق الشعب إلى معسكرات وطوائف متنازعة، فحصلت انشقاقات لم نر لها مثيلاً في التاريخ القريب. لقد تذرع بمسرحية 15 يوليو/تموز 2016 وعرّض القوات المسلحة لأكبر ضرر يمكن أن تتعرض له في تاريخ تركيا الحديث، وفرض وصايته عليها. واستغل مقصلة مراسيم الطوارئ للقضاء على معارضيه من كافة الاتجاهات في مخالفة لكل المبادئ والأعراف القانونية المعتبرة داخليًّا وخارجيًّا. كما هوى بتركيا من موقع صفر أعداء إلى صفر أصدقاء، بسبب تدخله في الشؤون الداخلية لدول المنطقة رغبة في إعادة هيكلتها حسب أهوائه.
وبعد تحقيقات الفساد الكبرى التي حدثت في ديسمبر/كانون الأول 2013 وتورط فيها بعض وزرائه، سعى لتسييس منظومة القضاء حتى باتت شبه منعدمة، وشرّد جهاز الأمن وضباطه الخبراء حتى بات جهاز الأمن عاطلاً. كما أحكم قبضته على وسائل الإعلام تمامًا بوسائل شتى، وبذلك أسكت جميع الوسائل التي يمكن أن تعبِّر عن الحقائق، وباتت تركيا أكبر سجن للصحفيين في العالم.
والذي يثير الأسى، أن كل هذا يتم على أيدي أناس كانوا يرفعون عقيرتهم بالأمس منددين بالظلم الذي يتعرضون له، ومحذرين من الاستمرار في تجاهل حقوق الإنسان وتغييب الحريات، ثم أبانوا عن وجههم الفاشي المستبد عندما آلت الأمور إليهم فاعتقلوا وشردوا ونفوا كل من خالفهم، وعزلوا مئات الآلاف من وظائفهم في مختلف قطاعات الدولة. وقد كانوا في حاجة إلى عدو يشرعنون من خلاله كل هذه التصرفات المروعة؛ فوقع اختيارهم على “حركة الخدمة” لسببين، الأول: رفض حركة الخدمة أن تكون أداة لهم في تحقيق طموحاتهم، لذلك أعلنوها خصمًا لهم وعدوًا، وراحوا يشحنون الشعب ويلهبون حماسه من خلال هذا العداء. والثاني: معرفتهم الجيدة بالطبيعة السلمية لأفراد حركة الخدمة، وتأكدهم أنهم مهما شوّهوا سمعة الخدمة ورجالاتها، ومهما بالغوا في ظلمهم وتعذيبهم، فإنهم لن يفعلوا مثلهم ولن يقابلوهم بمبدأ “الرد بالمثل”، ولن يرفعوا أيديهم بلكمة أو حتى وكزة، لذا كان اختيارهم حركة الخدمة كبش فداء لكل هذه الانتهاكات اختيارًا مناسبًا بالنسبة لهم.
ولكن فاتهم أن كل هذه الانتهاكات التي ارتكبوها، كانت وسيلة لشيء لم يكن في حسبانهم قط؛ فقد تعرَّف العالم على “الخدمة” بشكل أفضل، ورأى أن الخدمة ليست في خط واحد مع أولئك الذين يستخدمون الإسلام أداة لمصالحهم السياسية. وأثار ذلك فضول المهتمين والمتابعين لمعرفة المزيد عن الخدمة، نتج عنه حصول نوع من التعاطف والمساندة في بعض الأماكن بعد رحلة المعرفة هذه. هذا بحد ذاته لطف من الله تعالى وإن كانت فاتورته باهظة الثمن.