حين الحديث عن مشاريع الإصلاح لدى الحركات الإصلاحية، نكاد نخلط بين عدد من هذه الحركات؛ والسبب أنها تكاد تتشابه بل تتماثل من حيث مجالات الإصلاح التي تحرص على العمل من خلالها. وهي على العموم تتراوح بين الديني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مع محاولات محتشمة في المجال الإعلامي والتعليمي. وقد جمعت هذه الحركة بين كل محاور الإصلاح التي تفرقت عند عدد من الحركات الإصلاحية المعاصرة بل وزادت عليها غيرها؛ وعلى رأسها مجال الإصلاح الديني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.
جمعت هذه الحركة بين كل محاور الإصلاح التي تفرقت عند عدد من الحركات الإصلاحية المعاصرة بل وزادت عليها غيرها؛ وعلى رأسها مجال الإصلاح الديني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.
فالمجال الديني بالنسبة لحركة الخدمة روح وفكر، وأن عدم التوازن بين هذين المجالين هو المسؤول الأساس عن الاختلالات التي عصفت بالأمة اليوم. لذا لاتخطئ العين العناية الفائقة التي أولتها حركة الخدمة للجانب الروحي حتى جعلها البعض ضمن التيار الصوفي العام، بل وألبسها لبوسه واقعًا وحكمًا والحال أن حركة الخدمة بروحها الصوفية مختلفة شكلاً ومضمونًا عن كل التيارات الصوفية التي عرفناها قديًما وحديثًا. وهذا موضوع سنفرد له القول في نهاية هذه السلسلة لما له من خصوصية وتميز عند حركة الخدمة. أما اليوم فنقف أمام مشهد سريع لنتأمل ملمحًا من ملامح الإصلاح الاقتصادي الذي غاب أو يكاد في كل المشاريع الإصلاحية. وكثير هم رجال الإصلاح وحركاته الذين تكبدوا المتاعب والمشاق في مشاريعهم الإصلاحية نتيجة غياب الدعم المادي والتخطيط لتوفيره. والواقع يشهد قبل التاريخ على عدد من الأعلام والحركات في مجال الإصلاح اتهموا بالخيانة أو العمالة أو شيء من أخواتها، فكان ذلك سببًا من أسباب ضعفها أو فشلها أو انحرافها عن أهدافها في الإصلاح.
وقد اطلعت على مباحث مطولة حول السياسة الخارجية لبعض الدول، فهالني مقدار الأموال المخصصة لتنفيذ جانب مهم من السياسات الخارجية لتلك الدول؛ والتي تعتمد بشكل كبير على دعم مادي مغري تقدمة إلى مؤسسات المجتمع المدني بل إلى دول معينة وهيئات دولية ومحلية من أجل تحقيق بعض أهدافها ومشاريعها. وبعدما كان الدعم والإعانات تسلم بطرق ملتوية، فهي اليوم واضحة للعيان. وكلما ازدادت النتائج ازداد الدعم والسخاء، وبقدر ما كان التبرم وعدم التعاون كانت الضغوط والتهديدات والجفاء، إلى حد تلفيق التهم وشرعنتها. وها نحن اليوم أمام جيل من المؤسسات التي تستقوي بغيرها لتحقق أهدافها، أو تتنازل عن شيء من حقوقها في الاختيار وتقرير المصير؛ وإلا الصقت بها من التهم ما يُخضعها أو يضعفها ويقضي عليها.
فوجئت حينما علمت أن عددًا من أعيان حركة الخدمة ورجالها الكبار، لا يملكون بيتًا أو شقة خاصة، بل يستأجرون سكنًا إلى حين ويقدمون كل ما يملكون من أموال إلى الخدمة
لقد فوجئت بفكر محمد فتح الله كولن وأنا أقرأ كتاباته القديمة وهو يحث محبيه على الاهتمام بالمجال الاقتصادي. ليس هذا فحسب بل إن الرجل كان يتكلم عن مستقبل المسلمين والتأثير الكبير الذي ستحدثه الإمكانات المادية والمالية على وجه الخصوص في العالم. فكان يحثهم على الاهتمام بالاقتصاد وأهله عبر تربيتهم على القيم الإنسانية العالية وتشجيعهم على خلق تجمعات لرجال المال والأعمال وتشكيل تكتلات وأقطاب في كل المجالات الحيوية. وكأن الرجل ينظر في مرآة المستقبل، وما هي إلا سنوات حتى أصبحت أفكار الرجل التي وصفت بالأحلام، واقعًا حارقًا للناس بات فيه من اتبعوا خطة الرجل وآمنوا بفكره من أعيان الناس وسادتهم. ليس هذا فحسب بل المثير في الأمر هو أن الحركة كانت تتسابق مع الفكر عند هذا الرجل، حيث كتب أمورًا مهمة في هذا الموضوع. ومنها للتمثيل فقط ما كتبه في “أضواء قرآنية” وهو يلقي الضوء على قوله تعالى في سورة الكهف:( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾يقول: …. ولكن النقود هي التي دلت عليهم. إذن فرجل الفكر والدعوة إن كان لا يرغب في التعرض للقبض عليه من قبل الأعداء أو من قبل الأصدقاء أو من قبل مجتمعه فيجب عليه ألا يبتعد عن حب الربح والكسب فقط، بل عن أي ضعف دنيوي في هذا المجال. فكم شهد الماضي من رجال ومن سلاطين كبار أصبحوا أسرى للمال الغدار. وكم من مرة أُسْتُغِلَّ هذا الضعف الموجود في فطرة الإنسان فمحيت مجتمعات وذلت أمم. ولكن مع هذا فإن انتشار الدين في العالم معتمد الآن على النقود، أي على الرأسمال أيضا وعلى قوة تمويل المشاريع الدعوية. ويرجى ملاحظة أن أصحاب الكهف عندما خرجوا إلى الخارج ببضعة دراهم حدث انفجار ديني ثان في ذلك المجتمع لذا فهذا جانب مهم في هذا الموضوع، أي يجب ألاّ يهمل موضوع التمويل المادي، ولكن بشرط أن تكون النصوص الإسلامية من آيات وأحاديث وتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ونبراسًا لنا. أجل يجب أن يكسب المسلم ويكون غنيًّا، لكن على شرط ألا يستولي حب المال على قلبه. بل يضع ذلك المال في مكان “حرز” بتعبير الفقهاء بعيد عن يد اللصوص ثم يصرفه في وجوه منافع الأمة. فلولا هذا التمويل هل كان يمكن تحقيق هذه المشاريع الكبيرة؟ … إذن فالقوة المادية كان لها دور كبير في نشر الدين الإسلامي المبين. لذا فمن هذه الزاوية فكل جهد يبذل في سبيل الحصول على المال يعد عبادة… يعد عبادة إن تم صرف هذا المال الذي جمع بكل مشقة مادية أو فكرية، في سبيل الدعوة السامية وليس في سبيل الأهواء والشهوات).
يعتقد الكثير من الخبراء أن كثيرا من المضايقات التي تعيشها حركة الخدمة كانت بسبب استقلال الحركة بذاتها وبقرارها، الشيء الذي أبعدها عن الخضوع لأي جهة كانت وأكسبها مناعة واحترامًا دوليًّا خاصًّا.
وبالقدر الذي نجد الرجل يدعو إلى تحصيل المال والأرباح ويحث على ذلك، بالقدر نفسه وزيادة نجده يحذر كل من يومن بفكره بألا يكون سجين هذا المال وألا يجعله خادمًا للمال بل مخدومًا به. وقد فوجئت حينما علمت أن عددًا من أعيان حركة الخدمة ورجالها الكبار، لايملكون بيتًا أو شقة خاصة، بل يستأجرون سكنًا إلى حين ويقدمون كل ما يملكون من أموال إلى الخدمة. من هنا فقط يمكن فهم المشاريع الكبرى والمدارس النوعية والمؤسسات النموذجية التي تنسب إلى حركة الخدمة في كل بقاع العالم. وحق لبعض الجاهلين بفكر ومنهج حركة الخدمة أن يخلطوا بينها وغيرها من الحركات والتجمهات التي تعيش عالة على جهات معينة من حكومات أو أحزاب أو أعيان. ويعتقد الكثير من الخبراء أن كثيرا من المضايقات التي تعيشها حركة الخدمة جائتها من هذا الباب. حيث استقلت الحركة بذاتها فاستقلت بقرارها، الشيء الذي أبعدها عن الخضوع لأي جهة كانت وأكسبها مناعة واحترامًا دوليًّا خاصًّا.
(يتبع)