بين الفينة والأخرى تطالعنا فقرات إخبارية على القنوات الفضائية، والصحف السيارة، تعرض لمسابقات و”أولميباد” يتبارى فيها طلاب ما قبل مرحلة التعليم الجامعي في اليابان، ودول جنوب شرق آسيا، وأوروبا، وأمريكا.. يقدمون “ابتكاراتهم” من “الروبوتات” المتنوعة الأشكال والأحجام والوظائف، صمّموها وأداروها بأنفسهم. وهذا الأمر يبعث في النفس بخليط من مشاعر الدهشة والغبطة والغيرة في آن معًا، ويلح في طرح السؤال: متى تتبنى التربية الإسلامية تنمية تلك المهارات البارعة، لتثمر في أبنائنا قدرات متميزة؟
لكن مع العروض المدرسية، والزيارات الميدانية لمدارس “تيّار الخدمة”، وبخاصة مدارس الفاتح ومدرسة “جُوشْكون” الدولية بالجانب الآسيوي من مدينة إسطنبول، تغيرت تلك المشاعر وهدأت تلكم الشجون. وسريعًا تبدّل شعور الغيرة بمشاعر الفخر والاعتزاز والتقدير. فمنذ أكثر من عقدين من الزمن، تنظم “المؤسسة التركية للبحث العلمي والتقنية” مسابقات و”أولمبياد” وطنية “لاكتشاف” المواهب والقدرات المتميزة، ليحسن توجيهها واستثمار طاقاتها المبدعة في البحث العلمي. لذا تحرص مدارس “الخدمة” بمراحلها الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، عبر برامج نوعية ودورات مكثفة على إعداد أبنائها المتميزين لتلك المسابقات.
رؤية إيمانية علمية
مدارس الخدمة، تطبق الخطوات الهامة لتنمية العقل المتميز، وذلك عبر تهيئة وتوفير الظروف المدرسية والأسرية والتربوية والبيئية التي يسودها الاستقرار النفسي والأسري والاجتماعي والإرشاد والتربية المعنوية. فالتميز لا ينمو إلا في بيئةٍ ذلك شأنها. كذلك الابتعاد عن كل ما يعيق نمو وتطور ملكات التركيز، والتأمل، والتدبر، والتفكر، والتعقل، والإبداع.. فمثل تلك العمليات التعليمية والتربوية -المباشرة وغير المباشرة- تتعهد الأبناء بالحدب والدفء والرعاية، وتنمية القدرات، وإذكاء المواهب، والإجابة الدائمة والمناسبة عن أسئلتهم.. وتهدف لجعلهم يُحسنون القيام بعمليات التفكير ليصلوا لنتائج صحيحة، والعيش وفق “نمط حياة” إيماني وإنساني يتفادى نسق الأفكار السلبي وزيف وتزييف العقل، لتصل إلى الحقيقة والتميز والاستقلالية والمسؤولية. فهذه المدارس تعتمد على “رؤية إيمانية علمية” تطبق سبل التفاعل المعرفي والعلمي والتعليمي والقيمي والتربوي والسلوكي والمهاري، مع الحرص على تجديد وتنوع الأساليب، والمحافظة على المضمون، وهي أمور هامة في تعهد القدرات الإبداعية للطلاب.
كما تحرص على متابعة أنشطة ومقررات الطلاب التعليمية وتقويمها دوريًّا، لمعرفة مدى تحصيلهم الدراسي داخل المدرسة وخارجها، واستثمار أفكارهم، وتوجيههم لحسن التحكم في سلوكياتهم، مع دوام الربط والتواصل والمتابعة مع أسرة التلميذ عبر “إشعاع” المدرسة على محيطها. فالولد “ابن أسرته ومدرسته وبيئته”، فإحاطتهم بمناخ من سمات النظام والنظافة، والانضباط والالتزام، والمرونة والبساطة، والقدوة والتعاون، والتوافق والتوسط، والمشورة والمناقشة، والتحليل والاستنتاج؛ وتنشئتهم على قدر كبير من الحرية الشخصية المنضبطة والعطف والحزم والاستقلالية والمبادأة وعدم الاعتمادية، والتغذية الراجعة للمشاريع المُطبقة ولأفكارهم، لتتراكم وتتلاقح خبراتهم.. كفيل ببناء قدرات أعلى من الفهم والتأليف والتركيب والابتكار.. وهل الإبداع والذوات المبدعة إلا حصيلة تلكم القدرات؟
المعلّمون القدوة سلوكيًّا وعلميًّا
وقبيل هذا وذاك، تحرص “مدارس الخدمة” على تكوين المعلمين القدوة الأكفاء -سلوكيًّا وعلميًّا- لينهضوا بعملية التربية والتعليم وتنفيذ هذه البرامج والدورات والمشاريع المتنوعة، وترسيخ حب التلاميذ للمدرسة، وتكوين الطلاب “الأدلاء” الذين يتولون استصحاب ومتابعة غيرهم من الطلاب.. فبذلك يتم جني ثمرات التربية القيمية والإيمانية والأخلاقية والتعليمية المرجوة والأكيدة، وركيزتها بناء الإنسان منذ نعومة أظفاره.
ولِمَ لا؟ فالسيرة النبوية المُطهرة، توضح لنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرعى وينمي الخصائص الذاتية والفردية لكل فرد من صحابته الكرام رضي الله عنهم، مراعيًا حاله وطبيعته وقدراته وخصائصه ومميزاته.. فيجيب مرة بقوله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الأعمال، الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد” (رواه الطبراني)، ويجيب مرة أخرى بقوله: “أفضل الأعمال، الصلاة في أول وقتها” (رواه الترمذي)، وكذلك: “أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورًا” (رواه البيهقي). ونراه صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه فيرى فيه أهلية لصلاة الليل، فيقول فيه: “نِعْم الرجل عبد الله، لو كان يصلّي من الليل”(رواه البخاري). ويقول في أبي عبيدة بن الجراح: “لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” (رواه البخاري). ويدعو صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه قائلاً: “اللهم علّمه الحكمة، وتأويل الكتاب” (رواه الترمذي)، وقال صلى الله عليه وسلم: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” (رواه الترمذي).. إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة التي تضع الأسس الموضوعية للعناية بالمواهب، وتنمية الخصائص الذاتية، والقدرات المتميزة، واستمرارية معايشتها، ودوام تنميتها، وصقلها كيفًا قبل صقلها كمًّا.
تحرص “مدارس الخدمة” على تكوين المعلمين القدوة الأكفاء -سلوكيًّا وعلميًّا- لينهضوا بعملية التربية والتعليم وتنفيذ هذه البرامج والدورات والمشاريع المتنوعة، وترسيخ حب التلاميذ للمدرسة، وتكوين الطلاب “الأدلاء” الذين يتولون استصحاب ومتابعة غيرهم من الطلاب
مدرسة “جُوشْكون” الدولية أنموذجًا
قاعات درس متطورة، ومكتبة أنيقة، ومعامل علمية، وورشات تقنية للتدرب على تكوين وتشغيل الروبوتات، وقاعة عروض ثلاثية الأبعاد، وملاعب رياضية، وقاعات فنية للرسم والموسيقى، ومسرح كبير، ومطاعم فاخرة، ونُزل وإقامة مريحة، وجوائز بمدخل المدرسة مبثوثة، وفريق تدريسي ومهني كفء ونشيط كنشاط خلايا النحل.. كل هذا وغيره يستقبلك في مدرسة “جوشكون” الدولية بشرق إسطنبول.
ولعل الانطباع الأساس حول رؤية المدرسة التعليمية والتربوية، اعتمادها على إثارة الحواس عبر مُدخلات العلم والمعرفة، والحث على تشكيل المدركات والأفكار وتنشيط عمليات التفكير والتدبر الذي يُمكّن الفرد من إصدار حكم أو ممارسة سلوك، وعليه تقع مسؤولية توجيه حواسه لهذا أو ذاك: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً((الإسراء:36). وتشير الدراسات إلى أن أبناءنا يحصلون على نحو 75% من معلوماتهم عن طريق البصر، و13% منها عن طريق السمع، و6% منها عن طريق اللمس، و3% منها عن طريق الشم، و3% منها عن طريق التذوق، وهم يضاعفون من قوة التعلم لديهم يافعين وبمرور العمر. ولعل تهيئة الظروف المناسبة لتمكين الأبناء من أن يتعاملوا مع خيالهم، وقدرتهم على التحدث بلغة العلم -وهي لغة الرياضيات- ومن ثم تحويل تلك الأفكار المجردة إلى نماذج تطبيقية، من شأنه إثمار المزيد والمزيد من الابتكارات والاختراعات التي تخدم أمتهم وأوطانهم.
كما ذكرت دراسات “جان بياجيه” أن هناك ترابطًا في العلاقة بين الإدراك والصور العقلية والمحاكاة؛ فعمليات التمثيل البصري ترتبط بعضها ببعض، فالتفكير البصري من خلال الصورة ولغة الشكل، يرتبط ويوفر مخزونًا هائلاً في الذاكرة والخيال لا يحده حدود الواقع الراهن، بل يذهب في الماضي، ويعيش الحاضر، ويحمل مشاعل استشراف المستقبل نحو الابتكار. فللقدرات الإبداعية وبنية العقل المُتميز علاقات متداخلة كعلاقة التفكير بموضوعه، فكلما ازدادت المدخلات والتفاعلات الطبيعية والرؤى وفعل التثاقف الخاص بموضوع ما، ازداد التفكير فيه، ونشأت علاقات وروابط تربط عمليات التفكير بالذات المفكرة في تناغم مستمر. والمتأمل في القرآن الكريم، يجد تصويرًا رائعًا يُقرّب للأذهان نعيم الجنة وأنهارها وثمارها، وأطعمتها وأشربتها، وسكونها وسلامها وحال أهلها. وهو حث متواصل على التأمل في إبداع الله تعالى ينمي ملكات اكتشاف التناسق والتوافق والتكامل والروعة في الكون.
ومن خصائص تربية أبنائنا، تنمية قدرات التركيز، وهي أول خطوات التفكير، وتختص بجذب الانتباه لمجموعة من المعلومات المختارة، وقدرات تجميع المعلومات عبر وسائل الحس المختلفة، أو الوسائل التقنية الحديثة، أو عبر طرح الأسئلة، وقدرات ترتيب المعلومات ومقارنتها ليكون استخدامها أكثر كفاءة، وقدرات التذكر بتخزين ومراجعة واسترجاع المعلومات والمعارف.. ويمكن تشفيرها وترتيبها وربطها بأشياء مشتركة، كي يسهل تخزينها واستعادتها من الذاكرة الطويلة المدى.. وقدرات التحليل لإيضاح المتوافر من المعلومات، بالتحديد والتمييز بين مختلف أجزائها وفروعها وخصائصها الجزئية والكلية مع تحديد العلاقات بينها.. كذلك قدرات تلخيص النتائج تلخيصًا دقيقًا غير مخل، ومن ثم تعديل بناء نسق المعرفة لتنضوي تحته هذه النتائج الجديدة.. ثم القدرات التوليدية والإبداعية، لاستخلاص الأسباب التي تقع خلف المشكلة، ومحاولات التطبيق والتعميم للظاهرة، وتوليد معنى جديد من تغيير شكل المعلومة والتوقع بما قد يحدث مستقبلاً.. ثم قدرات التقويم لكفاءة وجودة الأفكار وصحتها عبر تأسيس معايير ونظم ثابتة لعملية التقويم، والتأكد من الدقة المتبعة في الأعمال.
ولا شك أن تنمية حب القراءة والشغف بالكتب، معلم أساس للعقل المتميز، والتعود على سمات القراءة الابتكارية؛ استيعابًا وفهمًا واستفسارًا وتساؤلاً واستنباطًا واستنتاجًا وترابطًا وتراكمًا وإجابة.. وينبغي عدم التبرم من إلحاح أبنائنا الفضولي، للمعرفة التي تعبر عن “قلقهم المعرفي” وتعطشهم للمزيد منها، ولإيجاد القدرات المتميزة والعقول المُبدعة لدى أبنائنا.. هم بحاجة إلى النقل والاقتداء والقدوة والتعلم الاجتماعي للممارسات الدينية والثقافية والحضارية. فالتميز في جوهره، ما هو إلا أسلوب تفكير وعمل يمكن محاكاته، لذا فكل من يسهم في تربيتهم بصورة أو بأخرى؛ كالأقارب والأهل والمربين والمعلمين والإعلاميين والرفاق وأفراد المجتمع وغيرهم، هو قدوة يؤثر -بما لديه من قدرات ومهارات- في تنمية العقل المتميز لديهم.
ويتم التدرب على كيفية تنظيم حياتهم وترقيتها وإحسانها وإتقانها، وفهم الأحداث والمشكلات وحسن التعامل معها، والسعي الحثيث لحل ما قد ينشأ من معضلات في إطار كيفية الإفادة من تراكم خبراتهم الشخصية التي قد تحصلوا عليها سابقًا فيما قد يستجد من أمور ومشكلات، وتحسينًا للتعامل مع البشر والبيئة، تكافلاً وتكاملاً وتعاونًا وتوازنًا وانسجامًا، وتطبيقًا للرباعية المحورية للأستاذين “بديع الزمان سعيد النورسي”، و”فتح الله كولن”؛ “عشق العلم، وعزم العمل، والبيئة الصالحة، والبحث المنهجي”.
المنتخب التركي للمسابقات الدولية في مجال العلوم
على مستوى تركيا، يتقدم عشرات الآلاف من الطلاب المتفوقين للتصفيات فيما بينهم. ومن ثم يسفر العدد عن عدة مئات، وتخصص ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية للفائزين تحصد مدارس الفاتح منها نصيب الأسد. ثم يتم اختيار 23 طالبًا يمثلون “المنتخب الوطني التركي للمسابقات الدولية”، وهو يحظى بدعم معنوي ومادي كبير. ففي “عصر المعلومات” وصناعة المعرفة، يلعب التفكير الإبداعي واستثمار المعلومات -وصولاً للعقل المبدع المبتكر- دورًا محوريًّا فيه. وأضحت الدول تـقوم بعدد مبدعيها وبراءات الاختراع لديها. فتشير الإحصاءات -على سبيل المثال- أن اليابان تُسجل نحو 1000براءة اختراع من مليون نسمة من سكانها، وهنالك في السويد 200 براءة اختراع من مليون نسمة، بينما في الدول العربية براءة اختراع واحدة من مليون نسمة.
فكيف ننمي مهارات “العقل المبدع” كجانب أساس في النمو المعرفي والإدراكي والوجداني والسلوكي لدى أبنائنا؟
نحن أمة “اقرأ”، أمة الجمع بين النقل والعقل، أمة الوحي المعصوم الخالد والاجتهاد المعرفي والعقلي. “أمة المعرفة” على شتى صورها، أمة “العقل الوازع” في العقيدة والتكليف، وأمة “العقل المدرك” والمتتبع للأوامر والسـنن الكونية الشاملة، وأمة “العقل المتأمل” المُختص بالتأمل وتقليب الأمور على وجوهها للحكم الواعي عليها واستخلاص النتائج. ثم إننا أمة “العقل الرشيد” أعلى درجات العقل الإنساني، لكونه يعلو ويستوفي ما سبقه من أنواع العقل، فضلاً عن مزيد من النضج والتمام. هذه الأمة قد أمرها ربها سبحانه وتعالى ورسولها الكريم صلى الله عليه وسلم بالتفكر والتدبر والتعقل والتعلم والعلم والعمل، والسعي لتقديم النموذج الوسطي الأسمى المُنقذ للبشرية.
مدارس الخدمة، تطبق الخطوات الهامة لتنمية العقل المتميز، وذلك عبر تهيئة وتوفير الظروف المدرسية والأسرية والتربوية والبيئية التي يسودها الاستقرار النفسي والأسري والاجتماعي والإرشاد والتربية المعنوية. فالتميز لا ينمو إلا في بيئةٍ ذلك شأنها
جملة القول: تعتمد مدارس “الخدمة” في رؤيتها، على الدليل والبرهان الذي يُقنع، والعلم والمعرفة التي تُشبع طريقًا آكدًا للعقل الذي يبدع، وعمليات التفكير وتنمية قدرات ومهارات العقل المُبدع التي تشمل كل وظائف العقل وخبراته المكتسبة من تعقل وتأويل وتدبر وتفقه وتفكر وتذكر ونظر وشهود وإبصار وحكمة.. هي مسؤولية فردية وأسرية ومجتمعية مشتركة. وذلك من خلال مناخ أسري واجتماعي وتعليمي وإعلامي، وعبر مناهج وأساليب ومقررات تربوية وعلمية وتعليمية لتنمية المواهب عمومًا، وقدرات التفكير المختلفة خصوصًا، يقول الله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ((البقرة:219-220). فقدرات التفكير كامنة في الإنسان، وتنميتها يمكّن الأفراد والمجتمعات من النهوض بهذه “الفريضة الإسلامية”، فلا تتقاذفهما الأحداث والصعوبات، دون إيجاد حلول شافية ناجعة لها. لذا حق القول لمن أثار الشغف والشجون: “عذرًا، فلأبنائنا أيضًا قدراتهم المتميزة