من أوكد ما يلفت إليه الأستاذ فتح الله كولن ويشرطه لنجاح الخطط النهضوية، أن ترتكز على قاعدة من الانسجام، وألا يخالطها التهلهل الذي يجعل بنية الخطة مخترقة بما يسميه كولن “الثغرات”.

البعد التكاملي

ذلك لأن الرشادة في التقدير تفترض أن يشتمل كل برنامج أو منشأة أو تأسيس على مقومات حيوية تفي بتلبية الحاجة وتغطية النقص في قطاع حياتي ما. فإذا لم يتوفر البرنامج على هذا البُعد التكاملي، جاءت النتائج المتوخاة منه ناقصة، أو زائدة، أو غير ذات جدوى؛ لأنها -ميدانيًّا- تعجز عن أن تستجيب للمطلب الحاجي أو التجهيزي أو الارتفاقي، فلا يكون لها من ثمة لزوم.

وإن مما يثير الذهول أن نرى مؤسسات التكوين في عالمنا العربي تستنيم لنظم تعليمية بلا هدف. فما زالت المراكز الجامعية، والمعاهد التكوينية، والمدارس العليا تخرّج سنويًّا الآلاف المؤلفة، من غير أن تضع السياساتُ الوطنيةُ الخطط التي تستوعبهم، ليس فقط من أجل امتصاص البطالة، ولكن لجعل التعليم ينهض بدوره الأول والأخير وهو إنشاء القوى التي تتحول عند تخرجها إلى قوى ينتظرها عالم الشغل في شتى مفاصل الحياة، فتدور الماكينة بهم وبجهودهم، فتتوسع بهم أرضية التصنيع والتجهيز والزراعة، والبحث الكيماوي والذري والخدماتي، وتنشط حركة الإبداع، وتتقلص باستمرار حاجة المجتمع والأمة إلى الاستيراد، بل وتدخل عالم المنافسة، وتقتطع لها في الأسواق الدولية مساحات لصادراتها من المصنوعات والمنتجات.

لا زالت الجامعات العربية والإسلامية، تُكَوِّن الميكانيكيين، ولا تزال بلداننا تستورد العتاد والسيارات، وحتى المفكات والمسامير.. وما ذلك إلا لأن الخطة التمدرسيّة بالمدارس وُضعت بشكل ساذج، بحيث يضحى دور مؤسساتنا في التكوين هو تهييء دفعات الشباب المكون، وترشيحهم للهجرة الجبرية، وإفادة الآخر بما نتكبد فيه باهظ الأثمان؛ لأن التخطيط القومي والوطني لم يضع في حسابه ابتكار شبكات المؤسسات التي تصنِّع المجتمع، وتحوله من مستورد لكل شيء، إلى مكتفٍ، وإلى مُصدِّر.

هكذا تستمر أوطاننا في هدر الأموال الباهظة بلا كبير طائل؛ لأن التخطيط عشوائي، لا مهندس له يرشِّدُه، ولا عقل يسدده ويضعه على سكة النجاعة الحق.

من أوكد ما يلفت إليه كولن ويشرطه لنجاح الخطط النهضوية، أن ترتكز على قاعدة من الانسجام والتناعم.

الانسجام الجماعي

من جهة أخرى نرى كولن يشدد على وجوب توفير عامل الانسجام وتفادي الثغرات على مستوى التنفيذ والانضباط؛ إذ يرى أن البناء النهضوي يقتضي الجماعية. فالمشروع التنموي، وإن شجّع وعزّز المبادرات الفردية، ودعم أصحابها، بل وبحث عنهم وتبناهم، إلا أنه يحرص على أن يدرج المبادرات الفردية ضمن نسيج الخطة، بحيث لا تبدو عشوائية، أو زائدة عن منظومة الوحدات، أو معارضة لما تتوخاه الخطة.

فبذلك التصفيف الإدماجي الذي تخضع له الجهود الفردية، والمبادرات الأحدية، تضمن برامج النهضة شرط الانتظام، فيغدو النماء شاملاً، ومتكاملاً، وتغدو إمكانات التوسع العضوي، أو المتوازي، أو المتلاحق، أمرًا ممكنًا، بل ولازمًا؛ إمضاء لمشاريع النهضة في الاتجاه الشمولي المتكامل.

يقول كولن: “إن الهمم والمبادرات الفردية إن لم تنضبط بالتحرك الجماعي، ولم تنظم تنظيمًا حسنًا، فستؤدي إلى تصادم بين الأفراد -وبين فقرات البناء وفروع التأسيس-.. وبالتالي سيختل النظام”.[1]

فمن شأن جدولة العمل، وتقسيم الوظائف، وتوزيع المأموريات، أن يحدث الدينامية التي تهيئ مزيدًا من الفرص، وتفتح مزيدًا من الآفاق في وجه الخدمة والتثمير.

إن جدولة العمل، وتقسيم الوظائف، وتوزيع المأموريات يحدث دينامية تهيئ مزيدًا من الفرص، وتفتح مزيدًا من الآفاق في وجه الخدمة والتثمير.

الكفاءات الفردية

إن مبدأ الالتزام بشرط الانتظام والانسجام في برامج التنمية ومكوناتها، بقدر ما يشدد على أهمية التنسيق فيما بين الفروع والوحدات، لأجل السير بها في طريق التوسع المتكامل والتكاثر المتناسل، يشدد أيضًا على أهمية ترصُّد الكفاءات المتفرّدة، وإيجاد الموقع المناسب لها لتقوية الدفع. فمن الجهد المتفرق تنشأ القوة الفاعلة، شريطة أن يتم تنظيمها في نسق وسياق، “ينبغي أن لا تطفأ جذوة الطاقات الفردية بتاتًا، باحتساب ضررٍ قد تسببه، بل على العكس تجب العناية الرفيعة حتى لا تهدر ذرة واحدة من تلك الطاقة، وتوجّه نحو تحقيق الهدف المنشود”[2].

ولا يستتب النظام والتخطيط والانضباط، إلا في جو سمح، يكتنف علاقة الجماعات والفئات القائمة بالخدمة. وكل خلل في الروابط -حتمًا- يسري معه الخلل إلى المشاريع، فيؤذيها ويضرّ بها.

وإن كولن الذي عاش بروحية الحلقة، فهو حتى حين يتفرد وتغيبه الوحدة، يكون في حقيقة الأمر يعيش وسط أخلاء يستحضرهم في قلبه، وينادمهم. ذاك هو شأن المتبتلين ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾(الْمُزَّمِّل:8)، فلذا هو يرى أن للجماعة بركة تستمدها من رابطة المصافاة في ما بينها، ومن التآخي، ومن الطاعة التي يرى فيها كل فرد من المجموع فضل الآخرين عليه، وأنه لا شيء بوحدته، لولا ما ينعكس عليه من إخوته العاملين معه.

لا يستتب النظام والتخطيط والانضباط، إلا في جو سمح، يكتنف علاقة الجماعات والفئات القائمة بالخدمة.

مدونة السلوك

إن مراعاة واجب الانضباط، وتحقيق الطواعية، واستنزال التوفيقات بدعاء الجماعة، و(العمل الخيري أفضل الأدعية وأبرها وأحظاها بالإجابة الإلهية)، والحذر من تعاكس الإرادات، وتصادم الرؤى، وظهور الأنانية لدى المؤطِّرين، هي بعض وصايا مدونة السلوك التي وضعها كولن للعاملين؛ إذ لا ينبغي لرجل الخدمة -وهو في غمرة الأداء والبذل- أن ينسى أنه يسير على هدي أهل الشوق والعشق، فالتجرد يكون من أخص صفاته، وإلا يكون مجرد متربص، ومتدرب. وعليه أن يبذل الجهد الخالص ليرقى إلى العتبة، حتى تنفتح عيناه على النور الوهاج. كما أن الاستعداد بالفطنة، والإسراع إلى استيعاب كل مدد مفيد مما يعرض المجموع، أمرٌ من صميم واجبات العاملين.

ففيما تقدمه المدنية الراهنة من أفكار ووسائل في مضامير البناء والتسيير والسيطرة على الإنجاز، هو من المكاسب التي ينبغي أن تُنتَقى وتُدمَج في المنهاج، شريطة أن يُعمل على تأصيلها وتكييفها مع روح الخدمة.

إن من شأن اليقظة والتفطن أن يستبقيا باب الاجتهاد والتحسين مفتوحًا، وإمكانات الترقي في الإنجاز متضافرة. الأمر الذي يجعل الخدمة مسارًا يستقطب الأجيال، يلتحقون بها من مختلف الاختصاصات والاستعدادات، يضيفون إليها أدوارًا بعد أدوار، ويمضون بها قُدُمًا. فالنهضة استرسال وصعود في المدنية والأخلاق، والتاريخ حلقات يتنافس الأجيال في كتابتها بما يبذلون من أعمارهم وأعمالهم. على أن يكون الحرص الحريص في كل ذلك، هو أن يجعل العاملون من قاعدة الإيمان بالله مقياسًا أوحد للنجاح في كل شأن ينجزونه أو هدف يراهنون عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ٤٦، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، ٢٠١١.

[2]  ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ٤٦، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، ٢٠١١.

المصدر: د. سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، ص: ٢٣١-٢٣٥، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٢، الطبعة الأولى، القاهرة.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.