الملخص:

لقد عول الإنسان على الكلمة منذ أن وعى دينامية التخاطب، وبنى مناطاته على أهمية اللفظة وحُسْنِ توظيفِها في تبليغ القصدية، وحرَصَ على ترشيد استخدامها، لتفي بأكبر قدر من مقصديته. ولأن مراهنة الأستاذ كولن الإصلاحية كانت ترمي إلى إيجاد الخميرة من الناس، أو المشتلة النوعية، ممن يمكنه أن يحدث بهم التغيير فقد أدرك ما للكلمة من تأثير في صناعة هذا التغيير فوظف مهاراته البيانية التي يتمتع بها منذ شبيبته، وقدراته التواصلية الهائلة مع الجمهور لاقتحام قلاع النفوس المحصنة، وتطويعها لحمل أعباء هذه الأمانة بمسؤولية واقتدار.

يرصد الكاتب من خلال هذه الدراسة منهج الأستاذ كولن التواصلي ببعديه الفسيولوجي والبسكولوجي نظريًّا وتطبيقيًا، وأهم المرتكزات المجردة التي تراعيها التوصيلية الدعوية للأستاذ كولن والتي أرشد إليها أبناءَ الخدمة في عملياتهم الميدانية، كما يكشف عن مدى وعي الأستاذ العميق بأهمية مراعاة عوامل الزمان والمكان والمناسبة، الذي جعله يبني نشاطه العلمي على مخطط تضبطه الأجندة، وتمليه الشروط الملابِسة لحركة الحياة، ومسيرة المجتمع.

المقال:

الكلمة وسيلةً للتغيير

لكل داعية مهاراته البيانية، ورباطتُه وقدرتُه على التواصل مع الجمهور، وله خصوصيات نفسية وروحية تلوّن خطابه وتطبعه وتميزه.

والكلمة هي وسيلة الفعل والتفاعل مع من نتعامل معهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وكل خطاب جيد التجهيزية، حين يجد طريقه إلى الساحة، لا محالة يكون له أثر تغييري، فوري أو بعدي، شمولي أو جزئي، وقليلة هي الخطب التي لا تترك تأثيرها على الذهنيات، حتى لو لم يكن لها مخاطَبٌ معينٌّ، أو كانت هلامية الأفكار والمرامي، بلا موضوع، لأن لاوعي الإنسان يختزن ما قد لا ندرك له مغزى، ويوظف مخزوناته بآلية لا سلطان للوعي عليها، فمن ثمة خطورة الكلمة، وعلوق آثارها في صفحة الوجدان، كيفما كانت طبيعة استقبالنا لها، ولابد أن ندرك أن كل حدث نلابسه في واقعنا الحياتي، هو ضرب من الكلم الذي يخاطب منا المواجد، على نحو من الأنحاء،  وبدرجة من الدرجات.

فالحدث نص كما القول تمامًا، له مجازاته وصوره، منطوقاته ومضمراته. ويقتضي فهْمًا ظاهرًا أو تأويليًّا، من ثمة كانت القراءة أو التلقي عملية تفعيلٍ شاحنة، تستبقي تأثيرها في الأذهان، سواء استبان المتلقي ذلك منها، أم لم يستبن.

حتى خطاب الأجيال المعاصرة، المنحوت على هذا النحو أو ذاك، وما يتداولونه بينهم مما يتعلق بواقعهم وحياتهم الراهنة، سوف يكون له –حتمًا- تأثيره وصداه على الأجيال القابلة، بما ستجد فيه من ثمار الرشد، أو ما تتبين فيه من بذور العقم واللامعنى، بالقياس إلى واقعهم وحياتهم وعصرهم هم.

لا يقوم الخطيب إلا وفي خَلَدِهِ يقينٌ بأن الوضع الذي يعيشه (موقف، واقع عارض، ظروف جاثمة)، فيما قبل كلامه، لن يكون هو الوضع ذاته فيما بعد كلامه، فحتى لو ظلت السكونية تسم الواقع، ولا تشي بما ينبئ عن تحلحله، فإن انبثاق الفكرة التغييرية التي يحملها الخطاب إلى الناس، لمن شأنه أن يُودِعَ جرثومَ التحولِ، ويغترس بذرة التململ التي تنتهي بإحداث الحراك، طال الزمن أم قصر.

من هنا عول الإنسان على الكلمة منذ أن وعى دينامية التخاطب، وبنى مناطاته على أهمية اللفظة وحُسْنِ توظيفِها في تبليغ القصدية، وحرَصَ على ترشيد استخدامها، لتفي بأكبر قدر من مقصديته.

يتميز كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” للأستاذ فتح الله كولن، بالكثافة العلمية الشديدة، بسبب حجم الغاية التي يتوخاها، وهي “إقامة صرح الروح”؛ أي إعادة صناعة حضارة راشدة، وصغر المساحة التي خصصها لذلك.

قدرات الأستاذ كولن التوصيلية

كانت مراهنة كولن الإصلاحية ترمي إلى إيجاد الخميرة من الناس، أو المشتلة النوعية، ممن يمكنه أن يحدث بهم التغيير. تعلم من قراءته السيرة النبوية، وتلقَّنَ مما طالعه في سير الأنبياء والرسل من أخبار، أن تجربة كل نبي طفقت تحمل إلى بقية البشر، أهم الدروس في صناعة التغيير، وأبرز الكيفيات في فن إيجاد عُدَّةِ هذا التغيير، وحسن تدبيرها.

وقبل ذلك وبعده، ينبغي أن تكون صلة الإنسان بالفكرة المثالية(1) التي يدعو إليها، والعقيدة المجتباة التي ينافح عليها، صلة على قدر من القوة والاستحكام واللصوق، ما لا يتطرق إليه أدنى شائبة من وهن أو فتور، مهما تبدلت به الظروف، وتراوحته الملابسات.

والمؤكد أن كولن كان يتمتع منذ شبيبته بالقدرة على التواصل، ومن الثابت أن هذه القدرة التي هي بالأساس تعبيرية، ظهرت مرهصاتُها الأولية عنده، في هيئته وسمته، إذ كان منذ الطفولة يولي من الاهتمام الملحوظ لهندامه، ما كان يظهر به متميزًا بين الأقران، بل وكان في بعض الطور من شبابه موضع ملاحظة ومؤاخذة بعض أصدقائه عن ذلك الاهتمام المظهري.

لخطاب الأستاذ كولن وزن روحي، ورجاحة عقلية، ووجاهة مستلهمة من فيوض “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلا”، وله ألق عال من الجاذبية الشعورية والسلطان التأثيري.

سيميائية الهندام

لاشك أن تعبيرية الهندام تعبيرية حالية، سيميائية(2)، تومئ إلى ما في النفس من استعداد للتواصل، والمفاتحة، والتفاعل. إننا- كما يقول المثل- نأكل لأنفسنا (وفق ذوقنا)، ونلبس للناس (وفق الذوق العام). والصلة بين البيان القولي والبلاغة السمتية، الهندامية علاقة ترابط.

ولقد اعتمدت الأعرافُ في كل عصر ومصر من الأشكال والألوان والهيئات والمواصفات، ما يتقمصه الفرد، إعرابًا عن السعادة أو عن الابتئاس.. إذ أوشكت رزنامة الأيام الأسبوعية أن تتوطد وتتحدد عند عديد المجتمعات والثقافات، من خلال أطعمتهم، وألبستهم، فضلاً عن نوعية برامجهم اليومية.

وكانت الحروب تخاض بألوان الرايات، وبنوعية العلامات والشارات، ولون العمائم واللأْمات كان عند العرب والمسلمين عنوان التأهب، ودليل الانخراط في الحرب. ومن الرجال والأعلام والرمزيات العِلْمية، مَنْ كان له سَمْتُهُ المظهري وسِمَتُهُ المسلكية التي تميزه وتُبْرِز شخصيتَهُ.

ولقد كان النورسي، وهو من أقرب الأئمة الذين تأثرت بهم حياة كولن، يعيش هذه العنوانية الحالية، وهذه الإشهارية الإعرابية من خلال هيئته المخصوصة، ولباسه المتميز. فالمظهر الزاهي، والزي المتفرد بالنسبة للنورسي في شبيبته، كان فاتحة التصريحات التي تسبقه في عملية التواصل مع الناس.

كانت مراهنة كولن الإصلاحية ترمي إلى إيجاد الخميرة من الناس، أو المشتلة النوعية، ممن يمكنه أن يحدث بهم التغيير.

بين الفسيولوجي والسيكولوجي

لا ريب أن الصوت، وهو مُقوِّم فيسيولوجي حيوي، يُعَدُّ وسيطًا أساسيًّا في عملية الإدلاء والتوصيل، ولقد جعل الله للكائن الحي جارحة السمع وسيلة لاستقبال القول، وأناط بها مهمة تلقي الحكمة، وتناول التعاليم.

في صوت الداعية الملهم، نعومة وإن خشنت النبرة، وفيه صقالة وإن غلظت اللهجة، فهو في كل الأحوال، يمس القلب، ويفتح مغاليق الروح.

ولم يصطنع الخطباء ورجال الدين في كل النحل والأديان الزي المميز، ولم يتمرسوا بالمسلك المتزن، ولم يتواصلوا من خلال اصطناع الكيفيات الملونة بألوان المناسبة والظرف والموضوع، إلا لأنهم يدركون أن النفوس قلاعٌ محصنة، لابد لها من سياسة اقتحام، وخطط مداهمة، لأجل تطويعها وانتزاع الاستسلام منها.

حين تكون المرامي دنيوية بحتة، ما أكثر ما تغدو السياسات التوصيلية والخطط التبليغية التي يتبعها العرَّابون، مكرًا محضًا، وتلبيسًا صرفًا، وتدليسًا صراحًا، إذ المقاصد الدنيوية حين تخلو من الوازع الأخروي، لا تعدو في غايتها، القصدَ الظرفي العابر. إذ إن ما نحققه من شأن مادي، كيفما كانت قيمته الدنيوية، البهرجية، لا محالة زائل، ذلك لأن كل اعتبار، وكل شأن ومجْد دنيوي يترتب على مكاسب مادية، إنما يكون مشروطًا في بقائه ببقاء تلك المكاسب المادية، ولما كان الدوام المؤكد والذكر المخلد في هذه الحياة، لا يكون إلا معنويًّا، كانت الإرادات الواعية، والنفوس المتبصرة، تُـثَـمِّـر ما تمتلك من مادة، لأجل تشييد الذكرى الباقية، الذكرى التي تتسجل لهم في سجل الآخرة.

الصوت، والسكينة أو الانتفاض، والشارة المظهرية، والأمارة الصورية، كلها مظاهر تَبْيِين، وعوامل تبليغ، والمزاج –في غالب الأحيان- يلون المضامين الصادرة عن الروح، وكذا العكس، فما أكثر ما لونت المضامين المعروضة وجه الروح، وصبغت المزاج بصبغتها.

في عملية التوصيل، تعكس الفيسيولوجية وجه الروح، فهي (الفيسيولوجية) ترجمانٌ عينيٌّ لما يعتمر الباطن من أحوال ومناخات.. وكذا الروح ينفد إلى الفيسيولوجية، فيضفي عليها من أحواله، ويلونها بألوانه. طالما أعطى الصوت للإنسان قوة ظهور لا توفرها له بنيته الجسدية، وذلك حين تتدثر الكلمة الثامرة بالجهارة المكينة، والإصاتة المليئة. وما أكثر ما أعطى الجسد للإنسان الصوت النافذ والجرسية المؤثرة التي تعزز من شأنه، وتوطد من مكانته.

وفيما يتعلق بشخصية الداعية، فإن علاقة الترابط التي تلحمه روحيًّا أو-على الأصح- تلحم الأتباع به، تجعل أسباب التجاوب والتناغم بينهما لامحدودة، فكل سلوك منه رسالةٌ، الحال والقال والفعل، جميعها جوانب تتظافر على تجسيد المعنى، وتوصيله.

الكينونة الفيزيكية للداعية تغدو ماهية رامزة، ووعاء من المرموزات المتجددة، والمفتوحة الدلالة على المعنى ونقيضه أحيانًا، شأن كل أثر رمزي في علاقته بالعقل الإنساني، لذا يصير الداعية محل بثٍّ للأمل والبهجة الروحية، فعلى أي مستوى يتم التواصل معه، يحصل التوفيق والغنم والمقبولية، الكلمة تصدر عنه، أو اللفتة، أو الصمت، أو الإيماءة، كيفما كانت تمظهراتها، تؤدي مضمونًا، وتؤكد معنى، وتلبي حاجة، من هنا قوِيَ تعلقنا بالمقتنيات التي نتمكن من نيلها من أهل الله. نتلقى منهم الذكر، ونستمد التسديد، ونعايشهم في المنام وفي اليقظة، فهم سندنا، ووسيلتنا إلى بلوغ رحاب الله، وليست محبتنا لهم، إلا من محبتنا لله U.فالموقف والملابسة والظروف، جميعها تملي عليه نوع التفعيل الذي يراه أبلغ في الأداء، وتهديه إلى كيفية التحسيس الأبلغ  في التأثير.

لقد كان كولن يتخذ من مجالس البث حصصًا لسبر الأنفس، والوصول إلى أغوارها، وظل يُحوِّل تلك الحصص إلى جلسات حفر في البواطن، ونفاذ إلى الأعماق. فكما يجهر الفلاح بئره، ويستظهر عناصرها، كذلك كان كولن يثور كيانات المستمعين بشتى الأساليب، تهييئا لهم للعطاء والانخراط..

الجمر الذي طالما تحدث عنه، ونَعَتَ به كلماتِه، كان امتدادا للاحتراق الذي طفق يعانيه في حياته التبتلية، ويخترق به الحجب إلى صميم ذاته، فوصوله إلى أعماقه هو محطة تجلٍّ تندرج ضمن برنامج العبادة والشكر الذي وقف عليه حياته ووجوده وكينونته.

التواصل يُحدِث مفعوليته التأثيرية ويوطد سلطانه على المتلقين، بمقدار ما يكون في النفس من حرارة وما يترشح فيها من اشتحان، جراء ما يقوم في تلك النفس من علاقة التطابق بينها وبين مناطاتها العليا من الرموز، من حيث تستمد طاقتها وقوتها.

لقد كان كولن يتخذ من مجالس البث حصصًا لسبر الأنفس، والوصول إلى أغوارها، وظل يُحوِّل تلك الحصص إلى جلسات حفر في البواطن، ونفاذ إلى الأعماق.

ومعلوم أن من متداولاتنا القيمية ما هو سافر صريح يظهر في الواقع وفي الحياة، ومنها، وهو الأغلب، ما هو خفي، وضمني، يتمثل في ذلك القطاع العريض من المضمرات المعيارية التي تثوي في اللاشعور، أو في بواطن الإنسان، من حيث يستمد مرصوداته الوجدانية، اللامُدْركة.

الزمن مصفاة تُرَسِّخُ الأعرافَ والمبادئ، وتُعَتِّقُ القيمَ، وتجعلها نسغًا أو (بلازما) تحيا فيها الأحكام والبداهات، وتصير سجايا في السلوك، وشيمًا في التصرفات.

فمن هنا كان ذلك الاستعداد للانبعاث لفعل الخير، والانحياز للفضيلة، قويًّا لدى أصحاب النفوس المهيأة للتجلية والتنقية، النفوس التي لم تتشوه فيها الفطرة بصدأ الأيديولوجيات، (والجهل والأمية وكذا الدين المؤدلج، واللادين.. جميعها أيديولوجيات.

من هنا نجد لأصوات الربانيين كل ذلك الجبروت الذي يجعلها تنفذ مباشرة إلى غايتها، وتخترق المدى إلى مقاصدها.

كلمات أهل الله سيارة بلا شبكات توصيل. الحس الروحي، والحدس الوجداني، يترصدانها، ويكفلان لها التداول بين الناس، فهي من ثمة مادة تتمرس بها الجماهير، وتتبناها الأوساط، لما لها من صبغة علوية، إذ هي صدى لكلام الله U، وبذلك تتنزل منزلة قدسية، من حيث تكتسي صفة القاعدة والمسطرة التقويمية، وتغدو مَجْلًى للحكمة، ومناطًا لفصل الخطاب.

في صوت كل رباني صدى لمئات الأصوات الذهبية، ينتظمهم السلك القدسي الذي ينتهي بهم إلى نبع القداسة: الرسول الأعظم .

بل إن كل صوت رباني، هو ترجيع لذلك الصوت العَيْن، الذي هو صوت رسول الله ، منه يستمد نفاذيته، وبه يصطبغ بالصبغة القدسية.

الداعية الملهم، يُفعِّل الناسَ بعُدة أصلية، يستمدها من مستودعها الأول، من الكتاب والسنة وتراث السلف الصالح. من هنا نرى لخطاب الأستاذ كولن ذلك الوزنَ الروحي، وتلك الرجاحة العقلية، والوجاهة المستلهمة من فيوض إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(المزمل:5)، ونجد له ذلك الألق العالي من الجاذبية الشعورية والسلطان التأثيري.

فكلمات الداعية حين يستجلبها من صيرفية الرسول ، هي كلمات تخرج عن نطاقه هو، إذ تضحى بصوت الرسول  وإن تلفظت بها شفتاه (الداعية)، وتغدو نداءات فيها جرس صوت الرسول  وصليل نبره الكريم، وإن صدرت عنه هو.

من هنا يكون الترادف والتظاهر والتمازج والتظافر هو خاصية كلام الصالحين وميزته، إذ المرشد المصلح ينهض في دعوته بدور المنفِّذ فحسب، لكن الذي يضطلع بوظيفة الملقن والمملي والملهم، هو منظومة السلف وسلك الأخيار والرموز، وعلى رأسهم سيد الأطهار، الرسول .

إن الداعية الدارك، في كل موقف انبرى فيه لإحداث التزكية، يتكلم باسم أولئك الخيار، ونيابة عنهم، فلا تكون -والحال تلك- نورانيته إلا من نورانيتهم، ولا يكون توفيقه إلا من توفيقهم هم، فهم المُولِّدُ، وهو المصباح.

لا يقوم الخطيب إلا وفي خَلَدِهِ يقينٌ بأن الوضع الذي يعيشه (موقف، واقع عارض، ظروف جاثمة)، فيما قبل كلامه، لن يكون هو الوضع ذاته فيما بعد كلامه.

الفيسيولوجية والتعبيرية

حين تلتفت إلى هيئة كولن في شبابه، تواجهك شخصية شابٍّ قد تجلت فيه أبعاد الأُهْبَةِ، واكتمل قالبها، فتى تام القوام، ثامر العود، عارم البنيان، في خطوط الوجه تنبجس وداعةٌ كأنها توقيع رشيق في صفحة كتاب. هيئة كولن الشبابية تعكس تكتُّمًا، وميلا إلى الصمت، فتَبرْعُماتُ الحلمِ المرتسمةُ في الجبهة وعلى المفرقين والناصية، بيانٌ لِما يميز النفس من تحوُّط، وتحفظ، وامتلاء.

لا ريب أن لتلك الطلعة مزاجا يستهويه حب التخطيط والمراهنات بعيدة المرمى. بين التحوط والتحنف آصرة وثقى، هي التوكل على الله، والتسليم له في ما يُقدِّر، وما يقضي.

قراءة في تعبيرية الحواس والجوارح

طالما استدلت الحدوس على طبْع الإنسان وشخصيته، من قراءة معالم نظرته، واستطلاع مكامن عينيه، ففي الحدقتين، وفي أحوال الإغضاء أو التسديد، وفي صراحتهما أو إشاحتهما، وتَخَوُّصِهما أو تَقَوُّسِهما، وفي حركتهما السطحية أو العمقية الأفقية أو العمودية، وفي سهْميتهما أو رفرفتهما، جفافهما أو نداوتهما، سقمهما أو صحتهما، تتجلى كثير من خصائص النفس، وتبرز جملة من صفاتها الباطنية، ونعوتها المزاجية والنزوعية.

ومثلما يقرأ الأطباء بيانات عن وضع الجسد من حيث السقم أو العافية، عبر بوابة العينين، كذلك يستقرئ البصير كشوفًا عن شخصية الإنسان مما يرتسم على صفحة العينين من مؤشرات تحيل إلى كنه هويته، وفحوى ماهيته، وإلى ما يميزه من خصائص سيكولوجية، ونفسية، وطبْعية.

لقد التفت كولن منذ بداية أمره  إلى الناشئة يعلمهم الدين، ويخرج الدفعات، يصنع منهم الاحتياط. وبمرور المراحل استجمع الأتباع ممن لقنتهم بكائياته كيفية التغير، والولادة من جديد.

قراءة في ملامح وجه كولن

من عينه يصدر كولن البيانات، وفي رحاب جبينه يعقد الجلسات، ويرسل البرقيات. النظر يسبق الصوت بالقول، فكأن الرموش أبجدية، والصوت يدٌ تصوغ الأحجار الكريمة.

في العين غضب، وصولجان. في معقدهما راية وسيف ومزهرية.. فيها حمام يصنع الأعشاش التي يكبر فيها الحب. في عيني الشاب كولن تزهر إشراقة الطمأنينة، ويلوح الوثوق في المحظوظية والكسب، ويتجلى التصميم على السبق وتخطي الحواجز.

لكن الإشراقة في ذات العينين، بعد أن انسلخت أشواط من العمر ذهبية، توارت وراء واجهة سافرة من الجراح والانكسارات والشموخ. كبنيان عريق الفخامة، اكتسب من ماضيه السعيد، حاضرًا مفعمًا بالجلال.

العين مجال بَهِيٌّ، يتجلى فيه اسم الرحيم، إذ هي مثابة الدمع، ومناط الحسرة، والأفق الذي تنحدر من صدده البشارات. تفادى كولن مزالق الفتنة وهو غضٌّ، وكبَّدتْه الفتوة استنزافات ما كان أصعب الإفلات منها، وما كان أشق تجاوزها. وخاض معمعان الدعوة، أشبه بمن يسبح ضد التيار، وارتاد المقهى يبث الذكر، وتتبع الدلالين في الأسواق ينشر الحكمة، ويسوق بضاعة محمد  إلى العامة، يعترضهم في الطرقات ويغشى مجالسهم في المزارات والولائم والمآتم، والتفت إلى الناشئة يعلمهم الدين، ويخرج الدفعات، يصنع منهم الاحتياط. وبمرور المراحل استجمع الأتباع ممن لقنتهم بكائياته كيفية التغير، والولادة من جديد.

في العين إيعاز بِحُبِّ الإيعاز، يرجح الإيماءة عن التصريح، والجنوح إلى الصمت، بدل الكلام.

إن ما تعودنا أن نَكْشِفَ عنه من أمورنا، هو هذه اليوميات من وقائعنا العادية، أما جسيم المهام، وباهر المأموريات، فيظل كامنا فينا، يسكننا كالدافعية، نعرفه وننكره، يشكل جزءًا من ذاتنا، ينطوي عليه الصدر، وينعقد دونه اللسان، فلا يبين له ملمح، هو كالقدر، يلقاك بلا ميعاد.

من جسامتها تستوطن المقاصد الكبرى منا في الصميم، وينوء بها الكيان، وتظل جاثمة على الفكر، فيكون لها ذلك المردود الجلي، من الجفول والسهوم والحزن الذي لا تستبينه في الأشخاص المسكونين بأقدارهم الاستثنائية، إلا عيون ذوي البصر البصير.

إنها ضرب من التألم الكامن، والأرق الدائم، ومن الانشغال الباطن، إنها سمة تعلن عن مهمومية الفرد، وعن ترشحه إما للدور الاستثنائي، أو للرحيل قبل الإبان.

الذين تسكنهم الفجائع، والمولعون بالعظائم، هؤلاء لهم حسّ كونيٌّ انطبع فيهم بالفطرةً، فكأنهم قمم جبارة، ترسو عليها الثلوج التي تذوب زمن الحر، فتملأ السدود، بل إنهم ذرى شاهقة، تَتَرصَّد الأرضَ والسماء، بما ترسله وتتلقاه من بثٍّ أثيرِيٍّ.

العين التي ترقب كل شيء، والتي هي عنوان اليقظة والفطنة، نراها بعد طول مسار، تتوارى في أستار الصمت، كالقرص وراء السحاب، كحوض مليء بالحصى الملون، كشجرة بُطْمٍ معمرة، صامدة، يعروها الانطواء، لكن عين كولن في كهولتها ماردة، تنذر بالبأساء، حمولتها من الأسرار ظاهرة، سفين بأشرعة يغالب العواصف، ظلال لموسم من الملاحم والقصائد والغلال.

في العين يجثم الزمن، يعلن عن طفولة تتأهب، وموعد انبعاث يؤذن بالسفور. العين مثخنة بالجراحات، فهرس لكتاب فيه المتن وفيه التهميش، الاحتساب طافح من ضفافهما، فيهما مدونة مقامات، وصيحة مجذوب، وقنوت سائح.

لبث كولن في أطوار من عمره يعتمر العمامة  يؤمُّ الناس بها، وكانت العمامة على رأسه تتقلب وتأخذ أوضاعا تعبر عن أحوال الباطن وما يملأ الصدر من خلجات القلب ونبضات الشعور.

رمزية اللباس بين الأصالة والمعاصرة

لبث كولن في أطوار من عمره يعتمر العمامة(3)، يؤمُّ الناس بها، وكانت العمامة على رأسه تتقلب وتأخذ أوضاعًا تعبر عن أحوال الباطن وما يملأ الصدر من خلجات القلب ونبضات الشعور. طالما أحس الإمام بأن العمامة وهي تتشامخ فوق المنبر، إنما كانت تجهز المشهد بما يصنع الرجال، ويبني الجسور نحو الفجر، ويحفز على الفضيلة.. لقد كانت في كل ذلك تثأر لما لحق الهوية من خزي.

كان النورسي يقول عن القبعة لما فرضت على الناس، دعوها (القبعة) تنحني وتسجد وتتمرغ رغم أنفها في المصليات، اعترافًا بالله(4).

قضى كولن حينًا من العمر يَـتَـعَـمَّـمُ، وكانت العمامة تخاطب الناس هي أيضا، توعز لهم بماضيهم.

على كل قبر من قبور السادة آل عثمان وسلاطينهم الجهاديين، تحمل شاهدة القبر تكويرا بصورة عمامة، إعرابا عن الهوية، والانتماء.. الناصية تنطق في حضرة الله بما قضَتْ من خشوع، وما أدَّتْ من سجود لربوبيته في الحياة، والعمامة تشهد لها، وتؤيد.

في تلك المرحلة التي شرع فيها كولن يتحرك، كانت الحكمة والدهاء يقضيان بإشهار كل سِمة توعز بالأصالة، أنى كانت تجلياتها، وعلى أي نطاق كانت. كان العراك محتدما بين إرادة التغريب وبين روح الأسلمة. أمة عملت تلك الظروف المكفهرة، على لَيِّ عُنقِها، والانعطاف بها نحو الكفر، والتنكر للأصل، والتخلي عن الذات.

كانت العمامة في تلك المرحلة شارة الهدى، وأمارة التقوى، وكان الإمام وهو يضعها فوق رأسه، يعزز خطابه بوسيلة رمزية ظلت تحظى بالاعتبار طيلة العهود، فمن ثمة كان المخلصون من الأئمة لا يرون في العمامة مجرد ملمح يقتضيه السمت، وتفرضه الوظيفة الدينية الرسمية التي كان نظام تلك المرحلة يلزمهم بها.

غابت اللغة العربية، وغاب النداء المحمدي في الأذان، وقُرِئ القرآن مترجما، ثم هُجِرَ على صعيد البلاد، إذ أُوصدت مؤسساتُ التحفيظ، وعطلت الكتاتيب والتكايا العاملة، كما عطلت أنشطة أخرى وطمست مختلف مظاهر الانتماء الروحي، وبقيت العمامة وحدها، أو تكاد، تذكِّر الناسَ، حين يدخلون- وما أقل عدد من يدخل المسجد ويحضر الصلاة- بماضيهم، وكينونتهم.

في مرحلة الانعطاف والتوجه بالدعوة إلى العالمية، رأينا كولن يتحول بِسَمْته، فيظهر بالهندام العصري، حاسر الرأس، على أكمل إهاب الحداثة والقيافة المعاصرة.

مستوى آخر من الخطاب يباشره كولن، تأقلما مع المتطلبات الكونية الراهنة.

في عيني الشاب كولن تزهر إشراقة الطمأنينة، ويلوح الوثوق في المحظوظية والكسب، ويتجلى التصميم على السبق وتخطي الحواجز.

لقد فتحت العولمة أبواب التواصل بين العالمين، ولَمَّا كان الغرب قد سك الذهنيات والأذواق والتطلعات على نموذجه الثقافي والسلوكي والمظهري، كان حتما على العاملين في كل الأنشطة والمجالات، لا سيما حقل الروح، أن يأخذوا بأسباب التقرب والتلاقي مع الآخرين، من ثمة كان لائقا بكولن أن ينهج منهج الدعوة في ضوء الفطنة والتبصر.

وهكذا رأيناه يتحول بمظهره وهيئته ولباسه، وكان من خلال ذلك التحول يؤْذن (يصدر فتوى) لخدام الدعوة ومؤطريها أن يلبسوا للمرحلة لبوسها، إذ كان على وعي بأن الأمم التي أنهكتها الأيديولوجية، ودمرت روحيتها الفراغات المعنوية (تحت نير الضغط الماركسي)، وكذا الأمم التي لبثت دولها تنافق وتستغفل الشعوب، فتظهر منحازة للدين(المسيحي)، وهي في الحقيقة تمارس كل ما يحرمه المسيح من استعمار وحروب واحتكار وسيطرة واستهتار بالمثل والقيم الإنسانية، فمن ثمة انحيازها للمسيحية، هو نكاية في الإسلام فحسب.

لم تكن تلك الأمم المدمرة روحيا ومعنويا، تنتظر من الإسلام أن يراجعها فيما اعتادته من شكليات الهندام والمظهر الجسدي (اللحية مثلا)، إنما كانت تنتظر منه، ومن كل عارض آخر في حقل الروحيات، أن يملأ الفراغ المعنوي الرهيب الذي طفقت تعيشه الجماهير، سواء وهي تحت راية الشرك، أو في كنف مخادعات الرأسمالية، وكان مظهر الداعية كولن (العصري) سانحة أخرى تُهيِّئُه لمباشرة خطاب العولمة بحظ آخر من التوفيق.

إذ كل ما يقربنا من المخاطَب والمتلقي ومن الآخر، ولا يقف عائقا في وجه التواصل، يعد تسهيلا إلهيًّا يفيدنا في المهمة الدعوية، وفاتحة مباركة إذا نحن أحسنا استثمارها.

كان كولن يرى أن الإسلام، وهو أعظم  رأسمال روحي يُحْمَلُ اليوم إلى البشرية، لابد أن يحسن عارضوه أساليب تقديمه في سوق كونية تداعت إليها الماركات الثقافية والمعرفية، وتنافست القوى العالمية المستثمرة للإعلام والاتصال على تنازع المواقع الإستراتيجية، والتدافع لأجل امتلاك الجغرافيات التي تمكن كل جنس وكل قومية وكل انتساب عقدي وحضاري من أن يمضي في بسط نفوذه، واحتياز الإمكانات المادية والمعنوية التي لا يمكن السيطرة عليها إلا إذا كان الشحن الثقافي والقيمي قويا ونافذا ومستحكما في الأشياع والأحلاف، فاعلا فيهم فعله الاستيلابي، مُجذِّرا سطوتَه  على أرواحهم، فهم تحت سلطانه كأنهم مُنوَّمون.

في جو تنافسي غير متكافئ ولا شريف كهذا، كان كولن يتِّبع خطة استئلاف القطاعات والتجمعات والمجتمعات، وتوصيل الدعوة إليهم على نحو عملي، غير صادم، ذلك لأن الإنسان المعاصر خرج من غمار الصراع الأيديولوجي والتنويم الدوغمائي، متحذرا من كل دعوة تعمل على استدراجه، مشيحا عن كل صيحة تريد أن تلفته إلى بضاعتها، إذ يتوهم كل استقطاب معنوي أيديولوجية خاتلة، وأحابيل مترصدة.

خرج إنسان العصر شبه فارغ الوفاض من الثوابت والمثل الممجدة بلا إكراه، لا رغبة له ولا ميل في تقبل أية أيديولوجية، ولا اعتناق أية ديانة.

في هذه الوضعية اللا مستقرة، واللاوطيدة المعالم، سلك كولن سبيل التوءدة في التبليغ، فتغاضى عن الشكليات، إذ رأى أن علة ضمور الحضارة الإسلامية، يعود إلى اهتمام المسلم بالشكل، وشكل الشكل، على حساب التوسع في الدعوة، وتعميق الجهد في تبليغ الدين للعباد. ألم يستغرقنا على مدار قرون من التجمد، فقه الفروع، وفروع الفروع؟

كان يرى أن لفظ الحكمة في قوله تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”(النحل:125)، يفيد معنى الاستئلاف، والتدرج في المحاورة(5). بل إنه يرى أن من الحكمة أن يكون المُبلِّغ على معرفة بلغة المدعوين، وعلى علم بأعرافهم وثقافاتهم، وعلى إدراك لسيكولوجيتهم وانثروبولوجيتهم، فضلا عن زاده من العلم والكياسة.

من هنا كان طلائع الدعوة، مدرسين يُعلِّمون الناشئة العلم، ويربونهم على الفضيلة، ويبذرون فيهم حب التفوق، وروح محبة الله، واحترام أكوانه ومخلوقاته ومبتدعاته في البيئة والطبيعة، ويغرسون فيهم قابلية الاعتبار بجلال صُنْعِ الله، بما يقرأونه في الأنفس والآفاق من آيات بينات.

كل ما يقربنا من المخاطَب والمتلقي ومن الآخر، ولا يقف عائقا في وجه التواصل، يعد تسهيلا إلهيا يفيدنا في المهمة الدعوية، وفاتحة مباركة إذا أحسنا استثمارها.

من ثمة فإن دعوة كولن إلى إيجاد فقه للهجرة، أو كما يسميه فقها وجدانيا (6)، كانت دعوةً إلى تجديد الرؤية، وتحيين النظرة، وتجهيز الخطة بما يضمن النتائج الميدانية، لأنه يريد للدعوة في عصر العولمة أن تأخذ منحى السير في الآفاق، وتعمير الأوطان، وتأثيث العواصم بالمرتفقات التربوية والروحية والخدمية، وجعل العلاقة الجوارية جسرا تمر من خلاله قيم الإسلام ومبادئه وتعاليمه، وهو ما تكفله-لمن كان حصيفا، ذا تدبير- المثاقفة الكونية كما تتم بين المجتمعات الحية، اليوم.

فمن خلال بناء المدرسة التي تشع بالعلم والعقلنة والتفوق، وعن طريق إقامة المسجد الذي تؤدى فيه الصلوات، وتقام التظاهرات الدينية، والمدنية، يتم لفت الناس إلى معالم الإسلام، ويتهيأ لروح العقيدة السمحة أن تطرق أبواب المجتمعات، بكيفية لا افتعال فيها، ولا تكلف، ولا تسرع.

سنرى الرزنامة الإشهارية التي اعتمدها كولن قد أدرجَتْ في موادها إقامةَ المَضائفِ التي تستقطب مختلف الجنسيات إلى موائد رمضان، وعقد مآدب الحوار الديني والحضاري التي تجمع أهل الملل والنحل من كافة الأرجاء، لأجل أن يتعرف بعضهم على بعض، ويتفهم بعضهم بعضا.

فبواسطة إشهار حقيقة الإسلام، وتقمص العقيدة بصدقية ومسؤولية، ننال احترام الآخر، وقد يجد فينا ما يقنعه بربانية ديننا الحنيف، فالإنسان المعاصر، مهما كان مستواه، يمتلك شيئا من المنطق الذي بفضله، لا يمكن احتواؤه أو التحايل عليه.

إن السلوك الرفيع والتعامل المهذب باب مهم للدعوة، وواسطة لعرض خصائص الدين، وبيان مدى صميمية مبادئه، وإن سلاح العلم والتعمق في المعارف، ومنها الشريعة، باب آخر يتيح لك أن تجعل المتلقي يستمع إليك دون أن يَسْتَتْفِهَكَ، فيضـجر، ويقوم عنك، ولا يعاود لقاءك.

إن روح التبييت للإسلام التي أضحت تحكم الآخر، وما يقر في الضمير الغربي والشرقي عن الإسلام من أحكام مسبقة، فضلا عن فشو ثقافة الإنكار الجحودي التي هي عقيدة العصر، فضلا عن مهانة وكاريكاتورية الواقع والمظهر الذي عليه المتأسلمون، كل ذلك يقف عائقا أمام أي حوار، ويجعل نتيجة كل مسعى دعوي غير ممنهج، وغير معقلن، وغير متكافئ مع مقاصد الدين، نتيجة صفرية، ومنقلبة بالسوء والإساءة على الإسلام والمسلمين.

من هنا، أسس كولن دعوته على قاعدة التهذب والتلطف، فما قد يصدم الذهنيات والعقليات ينبغي أن يؤخر، ويقدم عنه ما يكون للآخر فيه نجاعة، ومقبولية.. فلا حاجة لمن ينكر الدين، ويكفر بالربوبية أن يغريه أحد بالإقلاع عن جحوده مقابل نيل الفردوس، أو أن يُخوَّف بالجحيم.

هناك قواسم الحياة والتعايش والإنسانية، تجمع بين العباد، وفي وسع الداعين إلى الله، أن ينفذوا من خلال ما تتيحه هذه المساحات المفتوحة في وجوههم، وأن يعرضوا ويُجِيدوا العرضَ –دون تلبيس أو تدليس- بحيث يغدو المتلقي في وضع الحامد الشاكر للفضل، المُمْتنُّ بما تَحَصَّله من مكاسب تحققت له من خلال تواصله مع أصحاب الدعوة.

بعلوم النفس وتحليل الخطاب والتاريخ الحضاري للأمم والآداب والأنثروبولوجي، والاتصال، والتداولية، استعان كولن في بناء بيداغوجية توصيله. فآثار هذه الاختصاصات واضحة لمن يريد أن يتفحص طبيعة وتشكيل الخطاب الكولني، لا غرو في ذلك، فكولن –كما تفيد مكتوباته- من أَقْرأ المفكرين المسلمين المعاصرين، ومن أكثرهم تمرسا بالفكر الحديث، وتعاطيا للفلسفة والآداب العالمية.

لا يلمس الدارس آثار هذه القراءات والاطلاعات الواسعة على العلوم والفنون والثقافات العصرية في خطاب كولن فحسب، بل يجده يفتأ يُرْشِدُ إلى وجوب أن يوسع كلُّ داعية، ليس فقط من جغرافية علمه ومعارفه، بل وأن يكون هاضما لمستحصلات هذا العصر العلمية والفكرية والفلسفية، لما في هضم المعارف من سند حاسم في تأدية الدور الدعوي بالمهارة المطلوبة، وبالاقتدار الراسخ على تبيين الحقيقة الإيمانية، وتوصيل الرسالة للمتلقي باليسر وبالسلاسة التي تكون هي في ذاتها عاملا لتقريب الناس وتهيئتهم للتواصل والتحاور، وبذلك يتسنى للداعية أن يُبلِّغ، ويحقق الفتوح.

سلك كولن سبيل التوءدة في التبليغ، فتغاضى عن الشكليات، إذ رأى أن علة ضمور الحضارة الإسلامية، يعود إلى الاهتمام بالشكل، على حساب التوسع في الدعوة، وتعميق الجهد في تبليغ الدين للعباد.

أركان النظرية الإجرائية للفعل التوصيلي عند كولن

مرارا وجدنا كولن يُجْمِلُ الإشارة إلى أطراف العملية التواصلية، من باث، ومتلق، ورسالة، وملابسات الأمر الذي يبين أن التوصيل يقوم عنده على رؤية نظرية متمرسة، ومؤسسة على رسوخ التجربة والاحتكاك اللذين مضى عليه وهو يباشرهما في الميدان، أَزيد من نصف قرن.

ولقد ألفيناه يوسع الإطار النظري لتوصيليته، بحيث أحاط بجوانب أوسع مما رأينا النظرية الشعرية عند الشكلانيين(7)، أو التبليغية عند التداوليين، تراعيه وتأخذ به.

ففي كتابه (الاستقامة في العمل والدعوة)، عرض علينا منظومة مبادئ، حوصل فيها الأسس الإجرائية التي تنبني عليها عملية التواصل حين تغدو نشاطا ميدانيا، وإنجازا عمليا يباشر التغيير الفعلي، ويتصدى لإحداث الترميمات والتعديلات داخل كيان أصحاب المعنويات المأزومة روحيا، والمهزومة وجوديا.

فعملية التواصل -بالنسبة إليه- تكون إما ذات غاية بنائية وتأسيسية، وذلك حين تخوض في الدعوة إلى إنجاز رهانات، وتحقيق غايات، وتخطي تحديات. وإما تكون ترميما وإعادة تأهيل، وذلك حين تتصدى لمواطن الاعتلال، ومظاهر الاختلال في النفوس، تسَويها وتعدِّل منها، تهيئة لها، لتأدية وظيفتها في الحياة على أكمل وجه، وأمثلِه.

من هنا كانت عملية التواصل، عملية تستند في إجرائيتها على أسس ترتبط بالغاية التواصلية، وهو ما يقتضي من المفاعِل، أو مَنْ يباشر عملية التوصيل، لاسيما إذا كانت مهمته هي الدعوة، أن يكون ذا نظرة وافية تشمل أركان الموقف التواصلي، وتعم أطرافه ومقاصده.

لقد رأيناه وهو يتحدث عن كيفية معالجة مرض الروح، نعني الإلحاد، يضع أمام المرشدين جدولا بأحد عشر مستوى من مستويات العلاج التي على التوصيلية أن تراعيها في مداواة هذا الداء، حيث يبدأها بلفت المعنيين إلى وجوب أن تكون خطواتهم الإشفائية قائمة على المعرفة الموضوعية لحال المُبتلَى، ونوعية اختلاله الروحي، أهو إنكار ناتج عن الجهل، أم تمذهب وانتحال، أم هو بباعث نفساني اختلالي يكون غالبا هو سبب الإنكار، أم…؟

يضاف إلى هذه الخطوة خطوة أخرى، هي معرفة الوضعية المعرفية والثقافية للمعنِي، ذلك لأن تحديد المستوى الثقافي والتكويني للمصاب أمرٌ مهمٌّ يمكِّن من استبانة نوع العلاج الذي تتطلبه الحالة، وتقدير مدة التعهد.

لقد ركز الأستاذ كولن الجانبَ الأكبرَ من القواعد والتنبيهات في هذه الجدولة الإجرائية، على البعد الإحساني، إذ حسَّـَس المُرْشِدَ والداعيةَ بمسؤوليته ودوره حيال من يتواصل معهم، ورسم له إطار مسؤوليته الأخلاقية والأدبية التي ينبغي أن يخصهم بها، بل ولقد رأيناه يوجب على المرشد أن يكفل للمعنيين (المصابين) الحق الكامل في الحوار والإدلاء بآرائهم، دون ممارسة أي نوع من أنواع الضغط عليهم.

إذ ما أكثر ما توهَّم الواعظُ والداعي أنه بحكم وظيفته الدعوية، يمتلك سلطان الحسم، والكلمة الأولى والأخيرة في عملية التواصل مع مستمعيه أو من يتصدى لإنارة أرواحهم.

إن هذا الاعتداد الشخصي -زيادة على كونه يفسد الإخلاص، ويشوب نية الاحتساب- يُشوِّش على العمل الدعوي، ويعود على المقاصد بالنتائج السلبية. إننا في عصر ميزته الاستقلاليةُ في الرأي، بل إنه عصر اللارأي، الأمر الذي يجعل الشخص، أي شخص، يتوهم أنه في حِلٍّ من أن يتلقى التوجيه من غيره. من هنا شاع النفور من العروض الدعوية، والأطروحات النحلية.

ولا ريب أن مهمة عرْض الدين والدعوة إلى الإيمان، مهمة شاقة بطبيعتها السجالية(8)، ومأمورية لا مشاحة في تعقدها بحكم مقصديتها التغييرية، فهي مسعى يتوخى قلب البوصلة في اتجاه عكسي،  ينعطف بالفرد نحو وجهةٍ تُناقض تماما الوجهةَ التي هو سائر فيها.

إنها نوع من تأميم الإرادة المنفلتة من عقال الحق، واسترجاعها من حظيرة الشيطان، بل إنها احتواء للنفس، واحتضان لها، لمرامي إعتاقية خالصة، فما أشبه الداعية بمستنقذ الغريق، إذ يتوهم الغريق أن منجده يبغي خنقه، وتغريقه، وهو في الحقيقة يناضل من أجل تخليصه من براثن الموت.

لقد بين القرآن مدى دقة موقف الدعوة والهداية إلى الإيمان، فمن فداحتها عبَّر القرآنُ عنها بالثقل “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً”(المزمل:5).

لقد كان ذلك الخطاب إشعارا للرسول ﷺ بأن ما سيتلقاه من القول، سيُحوِّله نهائيا إلى يقين لا يضل بعده ولا يشقى، وبأن تجربة التحول تلك التي سيستهدفه U، ستكون من العمق والصميمية، ما يجعلها تجربة طافحة بالانسلاخات المعنوية، غامرة -في نتائجها- بالمكاسب الروحية والقلبية، إذ إنها تحويل للماهية، وتغيير في صبغيات الكينونة، بل إنها صهر، وإعادة تخليق..

من هنا كان عمل الداعية ينطوي على المجازفة، وإذا لم يكن حكيما، وموهوبا، ومعزز الخطى بالفتح الإلهي، فإن جهوده تظل عقيمة، أو في أحسن الأحوال تكون بلا كبير مردودية.

بعلوم النفس وتحليل الخطاب والتاريخ الحضاري للأمم والآداب والأنثروبولوجي، والاتصال، والتداولية، استعان كولن في بناء بيداغوجية توصيله.

وإذا ما أردنا أن نلقي نظرة على الحيثيات التي تقوم عليها نظرية التوصيل الكولنية، فسنقول إنها رجحت الجانب الإنساني، زيادة عن جانبها التقني الذي تقوم عليه معادلتها الجامعة بين أطراف العملية التوصيلية، نقصد: القول، والقائل، والمقول، والمقول فيه، والمقول له، فهذه النظرية مضى تداولُها تترى منذ عهد القرطاجني (وارث الأرسطية في حقل الأدب)، قبل أن يعيد صوغها في العصر الحديث الشكلانيون ومن سار على نهجهم، إلى أن رسختها ووسعت من إطارها نظريات التلقي، والإعلام، والتداوليات.. ولقد تطابقت في فحواها مع رؤية كولن في المرتكزات (أطراف العملية التبليغية)، إلا أنه أضاف إليها، نتيجة التمرس الميداني، من التعزيزات الإجرائية ما عمق من براغماتيتها.

إن المستوى الإنساني أو التعاملي جلي في رؤيته التبليغية، لإدراكه أن الدعوة تفعيل مركَّبٌ، يستهدف صقل أغلى ما يمتلك الإنسان، وأثمن أمانة استودعها الله عنده، نعني الروحَ التي لا يحتمل الإنسان بوازع الفطرة السليمة، أن يضع مقادتها في يدٍ غيرِ يدِهِ.

وإن عمل كل داعية هو على الحقيقة، إعتاق للنفوس من قيد الكفر، وتسريح لها من أسر الجحود.

فعمل الداعية، من هذا الصدد، أشبه -لكن من وجهة عكسية تماما- بما كان يجري في أسواق النخاسة، حيث يتم شراء النفوس المستعبدة، غير أن الهدف يومئذ كان احتكاريا، تقنينيا(9)، فالشراء يجري لأجل الكسب والاستعباد، أما ما ينهض به الداعية اليوم، فهو إعتاق محض للنفوس من نير الضلالة.

ليس ببذل المال وحده يتم -اليوم في نهج الخدمة- تحرير الناس من الضياع الروحي، وما أعظم أن نسترخص المال في عصر سيادة الرأسمال، ونسخره في الدعوة إلى الله، وصنع الصالحات.

إن رجل الخدمة يمارس نوعا من الدعوة الميدانية، لها مردوديتها المباشرة.

رجل الخدمة، من هذا الصدد، هو التجسيد الحي لدور الداعية، وهو ممثله، والقائم بدوره على صعيد الجغرافية.

رجل الخدمة ثمرة طيبة، تحققت على يد الداعية، وقوة مباركة تخرجت بإشرافه، وانْبرتْ تستزرع ما انغرس في روحها من أنواع الخير والإحسان.

في الخدمة تلتقي إخلاصية الداعية المرْشد، والداعية المنفذ، وتتظافر الروحية الجماعية في صنع الخير والفلاح.

همة هذا من همة ذاك، وكلاهما مسخر، يستمد التوفيق من الله.

وإذا كان الداعية المُرْشد قد وقف العمر كله في استصلاح النفوس، وتهيئتها للقيام بالصالحات، فإن الداعية المنفذ يسخر ماله وولده، ويستغل أوقاته، ويستنفر قواه، ويصرف جهوده، ويعيش الاغتراب المادي بالهجرة إلى الآفاق، ويستغرقه البذل ما وسعه البذل، ويعيش متكففا إلى أقصى حدود التكفف، لا ينتظر من أحد أن يثني عليه، أو ينوه به، يحتسب ما كابد لله، يقضي نهاره في السعي، ويملأ ليله ركوعا وسجودا، كل دمعة تنسكب من عينه، يعدها قربى إلى الله، وجُنة تحول بينه وبين النار.

وإذا ما عدنا إلى ما كنا فيه من حديثٍ عن إجرائية التوصيل الدعوي كما ضبطها الأستاذ كولن، فسنراه قد أحصى الجوانب التي قدَّر أنها تستوجب المراعاة، حتى يتمكن الداعية من أن ينهض بوظيفته التبليغية على أحسن حال.

ومن الواضح أن إرشادات الداعية في هذا الصدد، تخص الأفراد كما تخص الجماعات، إذ الدعوة تتوجه للفرد، إذا ما ربطت بيننا وبينه صلة، وسعينا إلى تنويره روحيا، وكذا تتوجه إلى الجماعة، فنفاعلها مفاعلة تقوم على الفهم الموضوعي لواقعها، وثقافتها، وتاريخية مجتمعها وما مر عليه من أطوار ثقافية وأيديولوجية.

لقد اتجهت الخدمة في أوائل عهدها، إلى العمل في تلك البلاد التركمانية التي خرجت من حظيرة الاتحاد السوفاتي، حيث عاشت عقودا أيديولوجية تقوم على الجحود واللادين.. وكان من أهداف الخدمة أن تساعد الناس هناك على العودة إلى إسلامهم.

كما أن الخدمة التي انتشرت في سائر الآفاق، كانت تضع في أهدافها، أن تعرف المجتمعات بالإسلام، فكانت من ثمة وصايا الأستاذ كولن لرجال الخدمة، تضع بين أيديهم منشورا يسترشدون به في الدعوة، وفي ربط الصلات بمن يحتكون بهم في ديار المهاجر.

أسس كولن دعوته على قاعدة التهذب والتلطف، فما قد يصدم الذهنيات والعقليات ينبغي أن يؤخر، ويقدم عنه ما يكون للآخر فيه نجاعة، ومقبولية.

لقد جرّد الأستاذ كولن تلك المرتكزات التي تراعيها التوصيلية الدعوية، ورتبها على النحو التالي:

1- معرفة الحالة الروحية المهزوزة للفرد الجاحد (أو المجموعة)، معرفة موضوعية، إذ إن الوقوف على طبيعة الحالة، وخلفياتها، ومظاهر اعتلالها، يساعد على رسم الكيفية التي تعالج بها.

وفي حالة الجحود أو الإنكار مثلا، لابد من تحديد نوع الإنكار، وطبيعته، وعلاته البيئية والمعرفية والنزوعية.

2- معرفة المستوى الثقافي، والأفق الاجتماعي للمصاب، فإن إدراك قدرات من نخاطبه يتيح لك التحدث معه بالمستوى الذي يستطيع فهمه (10).

3- التزود الكافي من العلم، والاستيعاب الوافي للمادة المراد تبليغها، كي نتمكن من استيعاب الحالة، واحتواء جذورها الجلية والخفية.

4- وفي مجال مفاعلة الظواهر الروحية المأزومة، يتحتم على المعالج أو الداعية، أن يتسلح بالحكمة في التواصل، ويكون ذلك بـتجنب أساليب الجدل ومحاولة الإقناع المجاني أو الإكراهي، لأن مغبة ذلك الجدل عكسية، إذ تتحول العملية التبليغية إلى تَمَرُّنٍ على المغالبة الشخصية والظهور الذاتي، وهو ما يخرجها عن سياقها الاحتسابي، لانحرافها إلى الأنانية، وإسباغ الأهمية على الذات.

إن من عوامل استبقاء صفاوة الإخلاص، أن يظل الداعية متصديا لنزعات نفسه الأمارة، فلا يتردد في قهرها بكل قوة لدى شعوره بأدنى نأمة من غرور يلابسه، من قبيل مشاعر الزهو، أو العَزْو إلى الذات فضلَ ما قد يحصل من نجاح إصلاحي على يده.

وفي هذا الصدد يُذَكِّرُ الأستاذ كولن–من باب تأكيد قيمة التجرد- بما كان النورسي يضبط به نفسه على الدوام، إذ طفق يكبح من جموحها الغروري، ويردد: يا نفسي المرائية، لا تغتري قائلة: إنني خدمت الدين، فإن الحديث الشريف صريح بـ(إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)، فعليك أن تعدي نفسك ذلك الرجل الفاجر، لأنك غير مزكاة(11).

فالغاية مما يشدد عليه الأستاذ كولن في هذا المجال، هو تلافي ما نراه تحول اليوم -على مستوى منابر الإعلام – إلى احترافيات نزقة، جعلت من حصص الوعظ تظاهرات يستعرض فيها الارتزاقيون ذواتهم، ويفضحون غرورهم، فيفسدون على الجمهور سجية التلقي والاستعداد، ويضرون بالمقام الترشيدي.

لذا نرى الأستاذ كولن، يؤكد وجوب أن يكون حادي الدعاة دائما، هو “اصطناع وحمْلُ نية إيصال الحقائق القرآنية إلى الآخرين، لا نية إبراز أنفسنا”(12).

فليس للداعية إلى الهدى، إلا أن يترشد هو ذاته، ويتواضع، ويأخذ بآداب التواصل، وأخلاق التخاطب، “في مخاطبة الآخرين، علينا إعمال الفكر، واستخدام الأساليب التي لا تجرح، ولا تكسر الخاطر”(13).

5- مخاطبة قلب المخاطب، وضميره، بكل مصداقية، إذ إن رأسمال العملية التوصيلية يظل دائما الصدقُ والحبُّ، بعيدا عن أي شائبة من غمز أو تعريض، فالتجرد هو وضوء شعيرة التبليغ، ولا يحصل التبليغ بلا وضوء نفسي.

6- عدم انتقاص المعترض أو تخجيله أو التهوين من شأنه أو تحقيره وإظهاره في مظهر المنهزم المكسور. فحفظ كرامة المخاطب، وصون عزته، أمر لازم، ولا مساس به.

7- معرفة نفسية المتلقي، ومعاملته في ضوء تلك النفسية.

8- العمل على تجنيب المتلقي المصاب، الاختلاطَ بالمنكرين، ومَنْ تخلو قلوبُهم من عشق العبادة.

9- إتاحة فرصة الرد والتدخل والاعتراض لمن نباشر مفاتحته، والتواصل معه دعويا.

10- أن يتجرد الداعية من توهمه أن المادة الخطابية والمضمونية المقدمة للمتلقين، هي ابتداع محض له، فالتشارك الفكري ظاهرة ثابتة، وكم من فكرة نحسب أننا مخترعو بكارتها، هي فكرة رائجة في مدونات وخطب مَنْ سبقونا، أو حتى من يعاصروننا، لكننا لم نطلع فقط عليها.

من مقومات الدعوة والتبليغ في هذا العصر، التحلي بحِلْية التواضع والمحو والحياء فلنكن ترابا إذا ما شئنا أن نكون منبتا للورد(14).

11- الافتتاح في عملية التبليغ، بشرح ركني الشهادة، استكشافا لخلفية المتلقي، وما قد يكون سبق له من تحصيل في مجال التوحيد والإيمان والثقافة الدينية، ومن ثمة نضع وصفة العلاج.

لقد كانت دعوة كولن إلى إيجاد فقه للهجرة، دعوة إلى تجديد الرؤية وتحيين النظرة، وتجهيز الخطة بما يضمن النتائج الميدانية، وجعل العلاقة الجوارية جسرا تمر من خلاله قيم الإسلام ومبادئه وتعاليمه.

هكذا يلفت الأستاذ كولن نظر رجال الدعوة إلى جوانب يراها تفيد في مجال التعامل الدعوي.

وواضح أنه شاء أن يوفر للعاملين في سلك الخدمة، مدونة أو دليلا، يكون مرجعا لهم في تحسس طريقهم في مضمار التواصل مع من يتواصلون معه.

وواضح أن هذه المدونة النظرية قد راعت أربعة أركان:

– ما يتعلق بشخص المرشد أو الداعية، ويتمثل عموما في ما ينبغي أن يتحلى به من مقومات التأدب والمصداقية الأخلاقية.

– ما يتعلق بالعدة الموظفة في عملية التبليغ، وتتمثل في الكفاءة العلمية، والخبرة، وموضوعية التشخيص ووصف الدواء.

– ما يتعلق بالإطار الحيوي الذي تجري فيه عملية التواصل، ويتمثل في تهيؤ البيئة، وبناء العلاقات التي تساعد على تحقيق القصد الدعوي، التنويري، واستزراع بذرة الإيمان.

– ما يتعلق بعلاقة الداعية بالمدعو، وما يكون للشخص الذي نتواصل معه، من حقوق، وتتمثل في حريته في إبداء الرأي، أو في الحوار، وفي حفظ كرامته.

على أن من أبرز ما تكرر التنويه به في منهج الأستاذ ورؤيته التوصيلية، استغلال عوامل الزمان والمكان والمناسبة.

لا شك أن المهمة الترشيدية التي استغرقته العقود المتتالية، قد رسخت فيه حس مراعاة الزمن، إذ إن دورة الأيام تشتمل على فُسَحٍ قدسية، ومواقيت مباركة، وأشهر حرم، وأعياد وفضائل.. وكلها مناسبات مهيأة لبث القيم الدينية، وغرس محبة العقيدة، وتزكية القابليات الروحية.

فإن البلاد التي تكون الأيديولوجية المادية تسودها، تقل فيها سوانح التزكية الروحية، إذ إن وجهة النظم الإلحادية، وجهة مادية بحتة، تتكرس بها الغفلة عن الإيمان بالله، وتنقطع الروابط بين روح الإنسان وما جبل عليه من نزوع إلى الغيب وإلى الـتطلع إلى الما وراء، من ثمة تستفحل الغلظة  القلبية، والتحجر الوجداني، فيفقد الإنسان كثيرا من مقومات إنسانيته، ويترتب عن ذلك -في كثير من الأحيان- ازدياد حيرته الوجودية، ويتسع الفراغ في أعماقه، فلا يزال إما متوترا غير مدرك لعلة توتره، وإما لهفان، مستعيضا عما يفتقده من سكينة بمزيد من الإشباعات الحسية، إرواء للعطش النفسي والروحي والوجودي، وإما متبلدا، متهافتا وراء اللذائذ الحسية، أشبه بالسائمة، همُّها  العلف والرتعة، متناسية أن حتفها في رتعتها.

إن وعي الأستاذ العميق بأهمية مراعاة عوامل الزمان والمكان والمناسبة، جعله يبني نشاطه العلمي على مخطط تضبطه الأجندة، وتمليه الشروط الملابسة لحركة الحياة، ومسيرة المجتمع.

لقد رأيناه ينوه بأهمية الأشهر الحرم، ويراها تحل ببركات معنوية محسوسة على المجتمع والأوساط، ومن ثم كانت دعوته إلى وجوب التجند القلبي خلالها، لتحصيل الغنائم، سواء بما يتاح للداعية والمرشد ذاته من سانحة للتجدد، أو من خلال ما يحصل على يده من بركات تعم مزيدا من الفئات والقطاعات.

فقداسة الزمان مثل قداسة المكان في الأهمية والتأثير، وإن استشعار العبد المؤمن لاستثنائيتهما، واستظهار ما تستحقه تلك الاستثنائية من مشاعر الإعلاء والتمجيد في نفسه وقلبه، لمما يُحوِّلها إلى سوانح وفضاءات تعم فيوضاتها، وتزكو مباهجها القلبية.

وإذ يرفع مكانة المواقيت المقدسة، نراه ينبه إلى الكيفية التبتلية التي ينبغي للمؤمن أن يعيش بها تلك المواقيت “إن استشعار الفيوضات التي تغمرنا من رأسنا إلى أخمص قدمنا، في هذه الأشهر المباركة، مرهون بداية، بالإقرار بها، والإقبال عليها،  لأن التوجه  يقابل بالتوجه”(15).

ولما لأهمية أيام وليالي الفضائل من أثر حميد على الأرواح والنفوس، نرى الأستاذ كولن يوصي بأن تتخذ مناسبات للاعتكاف، تتكثف برامجها، وتتسع أنشطتها، فيشترك في إحيائها البيت، والمسجد، والمدرسة، ومجالس العلم، والجماعات، أي أن نجعل منها مهرجانا تعبديا، تتحول فيه لقاءاتنا وصلاتنا إلى مواعيد نعقد فيها ندوات المذاكرة والذكر، تخصيبا للمغارس القلبية والروحية لدينا.

على أن إحياءنا لهذه المواقيت التي جعلها الله فرصا دورية مُواتية لتجديد الهمة وإخراج النفوس مما يعروها من أعراض الغفلة، لا ينبغي أن يمر دون أن نقوم بإجراء عملية تقويم لما ظفرت به القلوب من ربح، وما حققته البرامج والأنشطة الروحية من مكاسب،” فإذا لم تبلغ بنا هذه البرامج والأنشطة إلى ذاتنا، ولم ترشدنا إلى سبيل معرفة أنفسنا، فإن هذا يعني أننا نشتغل بما لا طائل من ورائه”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) كولن، الاستقامة في الدعوة ترجمة أورخان محمد علي. وعبد الله عنتر محمد. دار النيل ط1. 2015.

(2) أردت أن أقول سمْتِية، فالمعنيان مترادفان في هذا السياق

(3) كولن، الاستقامة ص257

(4) أوردنا فتوى النورسي هنا بالمعنى، حين سئل عن القبعة وهل تجوز الصلاة بها. انظر الرسائل.

(5) لقد جعل من أبرز شعاراته “وليتلطف”. وهو شعار الفتية أهل الكهف، في مباشرتهم للحوار مع أهل ذلك الزمان،حين انبعثوا  من رقدتهم.

(6) كولن، شد الرحال لغاية سامية، ترجمة عبد الله عنتر ود.عبدالرازق أحمد. دار النيل 2014. ص 119

(7) وتخصيصًا عند جاكوبسون.

(8) رأينا كيف يسجل كولن ما لموقف مواجهة الجمهور من مشقة.. انظر كتاب الاستقامة، وكتاب شد الرحال وكتاب ونحن نبني حضارتنا..

(9) من القنانة، أي الاستعباد

(10) كولن، الاستقامة،ص 97

(11) كولن، شد الرحال، ص216

(12) كولن، الاستقامة، ص 117

(13) كولن، شد الرحال ص24

(14) كولن، شد الرحال، ص 64

(15) كولن، شد الرحال ص 25