لا شكَّ أن فتح الله كُولَنْ حين يُنادِي في المجتمع بحركةِ تسامحٍ وحوارٍ يرجو لها الانتشار في العالم كما تنتشر الأمواج على سطح البحر؛ يدركُ مجموعةً من الحقائق؛ من بينها أنَّ هناك مراكز ومجموعات نفعيّة داخلية وخارجيّة تتغذّى وتستفيد من وجود صراعٍ داخل المجتمع التركيّ وفي العالم أجمع، وبالتالي لا ترغبُ في تحقق السلْم الاجتماعي والحوار العالميّ والتسامح؛ ولهذا فإنه بينما يُنادي ويُعبِّرُ عن أمله ورجائه خلال كَلِماتِه وأمسياته مِنْ جانبٍ؛ تراهُ من الجانبِ الآخر يُعبِّرُ عن مخاوفِهِ وقَلَقِهِ، وكأنه يُحَذِّرُ منها الحضورَ والمجتمعَ والعالمَ أجمع.

سيواصل قطاع من الناس إفسادَ الطمأنينة والسلم المجتمعي عازِفًا على أوتارِ الضَّعفِ فيه، ومُشعِرًا أفراد هذا المجتمع بأنه يمتلك قوَّةً تبطش، بعدها سَيُعِدُّون فخًّا وكمينًا للإيقاع بالتسامح.

قلق كولن من إفساد السلم المجتمعي

السنواتُ القابلة ستكونُ عصرَ مودَّةٍ وتسامح؛ فسوف نحتضن الجميعَ بالمحبَّةِ ونحقِّقُ -إن شاء الله- شيئًا الدنيا في أَمَسِّ الحاجةِ إليه، إلا أنني قلق من شيءٍ؛ هو أن قطاعًا سيواصل إفسادَ الطمأنينة والسلم المجتمعي عازِفًا على أوتارِ الضَّعفِ فيه، ومُشعِرًا أفراد هذا المجتمع بأنه يمتلك قوَّةً تبطش، بعدها سَيُعِدُّون فخًّا وكمينًا للإيقاع بالتسامح، ومن الواضح أننا سوف نتعرَّض لاحقًا لامتحان بأشياء صعبةٍ جدًّا، وسوف تتصدّى أمَّتُنا لأعتى الخطوبِ بتحمُّلِ بعضِها وتكاتُفِها فيما بينها، ونَكَزُّ على أسناننا في هذا الامتحان، ونتمثَّل الحِكمةَ القائلة: “قابل الضارب بالصفح والسابَّ بالعفو”، ونحتضن كلَّ شيءٍ بمودّةٍ وشفقة دون أن نحقد أو نحمل ضغينة لأحد، ونسير إلى المستقبل متحابين.

قابل الضارب بالصفح والسابَّ بالعفو”، واحتضن كلَّ شيءٍ بمودّةٍ وشفقة دون أن تحقد أو تحمل ضغينة لأحد، وسِرْ إلى المستقبل رافعا شعار المحبة.

ويعبر كُولَنْ في كلمة أخرى له عن مشاعر مشابهة أيضًا فيقول:

“لقد تنازعْنا، وشقّ علينا أن يتقبَّل بعضُنا البعضَ الآخر؛ فخسِرْنا وحدَتَنا، وفقَدْنا جنَّتَنا نتيجةً لذلك، واستردادُنا ما فقدناه حتى اليوم يكمُن في أن نَقبَلَ بعضَنا؛ فهذا هو الشيء الذي يشعر إنسانُنا اليوم بِأَمَسِّ الحاجة إليه.

التسامح درع يحمي المجتمع

لقد رأينا أن مجتمعَنا منفتحٌ ومستعدٌّ بالفعل للحوار والتسامح، ورأينا فيه تمثُّل الأخلاق الإلهية تجاه ما اتُّخِذَ من خطوات في سبيل ذلك؛ إذ يقول الله تعالى على لسان نبيِّهِ: “مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً” ، فكلُّ مَنْ خطونا إليه خطوةً في إطار هذا الحوار جاءنا جَريًا، ونحن كأناسٍ متسامحين ننادي: “ضع يدك في يدي” من أجل المستقبل، وننتظرُ تلك الأيام التي يحتضنُ فيها مجتمعُنا -الشاعرُ في داخله بشوق سيدنا يعقوب عليه السلام وحزن سيدنا الحسين شهيد كربلاء -بعضُه بعضًا بكلِّ قطاعاته، ويرشده ويوجّهه إعلامُنا وعُلماؤنا إلى ذلك؛ ويُراجِعُ حكَّامُنا أيضًا أساليبهم مرَّةً أخرى، ويعتمدوا التسامح أساسًا في أفكارهم وعلاقاتهم المتبادلة، ونقولُ أيضًا: إن كان هناك من يُخَطِّطون ضدَّ مستقبلِنا ويفكِّرُون في تحويل البلاد إلى ساحة من الدماء؛ فإنّ التسامحَ هو الدِّرعُ الحامي والسدُّ المنيع الذي يُفسِدُ عليهم خططَهم ويحول بينهم وبين تحقيقها”.

إن كان هناك من يُخَطِّطون ضدَّ مستقبلِنا ويفكِّرُون في تحويل البلاد إلى ساحة من الدماء؛ فإنّ التسامحَ هو الدِّرعُ الحامي والسدُّ المنيع الذي يُفسِدُ عليهم خططَهم ويحول بينهم وبين تحقيقها”.

الإسلام دين التسامح

ويُبَيِّنُ فتح الله كُولَنْ في كلمة أخرى له أنَّ جذورَ الحوار والتسامحِ ضاربةٌ في جوهر الإسلام؛ فيقول:

“مِنَ العبث البحثُ عن التسامح بكلِّ أعماقه وأبعاده الحقيقيّة بعيدًا عنّا؛ فالتسامح سمتُنا هو ما يشكّل فكر مولانا جلال الدين الرومي ويونس أمره… وإن استطعنا إدراك المعنى الدقيق الكامن في كلمات حبيب الله سيدنا محمد ﷺ استطعنا فهمَ ما هو أساس ديننا، إنني أؤمن أن الدنيا -التي اختلَّ نظامُها- ستدرك الحقيقة ولو بعد أن تتخبَّط يمنةً ويسرةً، وأسألُ الله تعالى أن يُبنى المستقبل على المحبة والتسامح، لا على الحقد والكره والحدة والعنف” .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ251/ 252/ 253.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.