أمّا قَبل،

يُعتبر كتاب ” فلسَفة جدِيدة لفَهم القُرآن الكَريم “للأستاذ الدكتور عبد المجيد بوشبكة[1]، الصادر في طبعته الأولى سنة 2015م عن منشورات عالم التربية، من الكتب النّوعية التي تُقدم معالم أطروحة جديدة في تفسير القرآن الكريم، يمكن تسميتها ” أطرُوحة التّفسير الإنسَاني للقُرآن المجِيد“، وذلك من خلال مقاربته لمنهج الأستاذ محمد فتح الله كولن في تفسير وتدبر القرآن المجيد؛ فقد انبرى صاحب هذا الكتاب إلى البحث والتنقيب عن معالم جديدة في منهجية التعامل مع آيات الذكر الحكيم فهما وتدبرا، تفسيرا وتثويرا.

يؤكد الأستاذ عبد الكريم غريب في تقديمه لهذا الكِتاب أن المسلمين اليَوم مدعوون إلى تجاوز ما أسماه ب”العائق الإبستمولوجي الديني” الذي وضعه أتباع الدّيانات التوحيدية المسيحية اليهودية، لأن   الدّيانة الإسلامية هي ديانة للإنسَانية جمعاء، فقاعدتها ومقصدها تحقيق التقوى، لأنها جوهر الميزَان الذّهبي الذي جاء به القُرآن المجيد والأحاديث النبوية، الأمر الذي يقُود إلى تحقيق الوسطية بماهي خيرية عُمرانية وشهَادة حضَارية، تُزيل عن الإسلام بعضَ العَوائق التي واجهت مسيرته خُصوصا عائق الفكر المتخشب.

والأستاذ غريب ينَوه بهذا العمل الذي يتجه نحو هذه العَوائق فهما واستيعابا وتجَاوزا، خصوصا أن الذي يضطلع بهذه المهمة هو “الباحث المتنور والموسوعي في مجال العلوم الإنسانية والدينية، وهو الإنسان الذي لا يمكن التمييز بين أقواله وأفعاله، لكونها تنحو على الدوام إلى التّطابق”، وهذه الأطروحة التي رسم معالمها الدكتور عبد المجيد بوشبكة حسب الأستاذ عبد الكريم غريب، تنطلق من قولها تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ سورة  آل عمران  الآية  64.

1-في حاجة الأمة إلى تفسير جديد للقرآن الكريم كل ربع قرن:

ينطلق الدكتور بوشبكة من مقولة منهاجية للأستاذ فتح  الله كولن مفادها أن الأمة في حاجة إلى تفسير متجدد للقرآن الكريم كل خمس وعشرين سنة، وكتاب  ” أضواء  قرآنية في سماء الوجدان” يشكل لبنة أساسية في هذا المشروع الحضاري العملاق، الذي يستند إلى أن القرآن هو الذي أوصل الأجيال التي نشأت في جوه النوراني إلى درجة الكمال، لأنه يقدم نظرة جديدة وتفسيرا جديدا لموقع الإنسان في الكون بين الموجودات، وتشرب الصحابة لحقائق القرآن عبر التربية النبوية جعلتهم يغيرون واقع البشرية ساعتئذ من الظلم إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم ومن الشقاوة إلى عصر السعادة.

قلتُ: وما بدأه الأستاذ فتح الله كولن في كتابه  “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” أتمه في كتابه :”البيان الخالد القرآن الكريم لسان الغيب في عالم  الشهادة”، والذي يعتبر كتابا متمما لهذه الأطروحة التي تؤكد أن رسالة القرآن المجيد تحمل بُعدا عالميا كونيا يتغيى إسعاد الإنسانية، بدليل قوله  سبحانه الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ سورة الحجرات الآية 13، ولذلك يؤكد الدكتور عبدُ المجِيد بوشبكة أن الدّرب الذي سلكَه الأستاذ فتح الله كولن ليس متعلقا بالتّفسير الاجتماعي للقرآن المجيد، وإنما هو درب جديد فريد ذو توجه إنسَاني وأفق عالمي، يستصحِب البُعد الإصلاحي في إضَاءاته وبيانَاته وهِدايَاته.

قديمَا قالوا: المعَرَّف لا يُعرَّف؛ اهتم الدكتور بوشبكة في الفصل الأول بالتعريف بالأستاذ فتح الله كولن، من خلال الوقوف عند أهم المحطات التي أسهمت في صياغة هذه الشخصية، وأهم المؤثرات التي بلورت أفكار ورؤى هذه الرجل الذي يلهم الملايين من الناس في العالم اليوم، ثم حاول الكشف عن خصائص هذه الشخصية التي اصطبغت بالصبغة القرآنية، وذابت في الشخصية المحمدية؛ ليتوقف بعد ذلك على بعض مؤلفات الأستاذ  فتح  الله كولن المترجمة إلى اللغة العربية، من قبيل: ونحن نقيم صرح الروح، النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية عليه السلام، طرق الإرشاد في  الفكر والحياة، روح الجهاد، حقيقة الخلق ونظرية التطور، ترانيم روح وأشجان قلب، الموازين أو أضواء  على الطريق، القلوب الضارعة، القدر في ضوء  الكتب والسنة، التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، أسئلة العصر المحيرة، أضواء قرآنية في سماء الوجدان.

الأستاذ فتح الله كولن يتلمس النور القرآني، هذا هو وسم الفصل الثاني، الذي خصصه المؤلف لذكر كثير من العلماء المصلحين والدّعاة الربانين الذين حَاولوا كشف الحِجاب عن النّور المفقود وإماطة اللثام عن الدواء المنشود، فذكر من الشيوخ: محمد بن عبد الوهاب، وجمَال الدين الأفغَاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والمختار السوسي، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد إقبال، حسن البنا، كل هؤلاء وغيرهم كان يتلمسون طريق الإصلاح وسبيل النهوض، وهو النهج الذي انتهجه الأستاذ فتح الله كولن حيث جعل القرآن الكريم  بوصلة  سيره  ومنطلق دعوته، وفلسفة  إصلاحه ، يقول الأستاذ  كولن  في كتاب” جِيلُنا  وإشكَالاته  العَصرية“: جاءَ القرآنُ من الأزَلِ وسيدومُ إلى الأَبَدِ، فهذا الكتاب ذو البيان المعجز إنّما هو من الله تعالى الذي أحاطَ علمًا بأدقِّ التفاصيل لكلِّ شيء في الماضي والحاضر والمستقبل، وقيامُ القرآن بشرح المسائل العائدة لأيامنا الحالية وللعهود والعصور القادمة وتناولُهُ للمسائِلِ التي تهمُّ الإنسانيّة وكيفيّةُ تطوُّرِ هذه المسائل والأحوال التي ستصير إليها يُعَدُّ من معجزات القرآن وشيئًا خاصًّا به وحده… صحيحٌ أنَّ القرآنَ نـَزَلَ قبلَ أكثر من أربعة عشر قرنًا، إلّا أنه نـزل من الملإ الأعلى، وما أدراك ما الملأُ الأعلى! إنه نقطةٌ ترى الماضي والحاضر والمستقبل، ولقد صدر القرآنُ من عِلْمِ الله تعالى الذي يُمسك السموات والأرض والكونَ كلَّهُ في يدِ قدرتِهِ، ويديره ويقدِّر كلَّ شيءٍ فيه، ويعلمُ حتى نَبضاتِ قلوبِنا”.

أمّا الفَصل الثالث، فقد خصّصه الدكتور عبد المجيد بوشبكة   للدرب الجديد الذي سلكه الأستاذ فتح الله كولن في فهم القرآن العظيم، وبيّن أهمّية هذا الدرب في إدراك الشّفرة السرية للقُرآن الكريم، والتي تفتح ما انغلق، وترفع الحُجب عن أسرَار القرآن المجيد وأنواره، ولإبراز هذه  الحَقيقة  فقد  عرّج المؤلف  على  معنى التفسير  وحاجة  الأمة  إليه، من خلال الوقوف  على بعض المدارس التفسيرية وبيان مدى تضلع واستيعاب الأستاذ كولن لمناهج هذه المدارس ابتداء من  مدرسة التفسير بالمأثور إلى التفسير الموضوع والتفسير الإشاري، والتفسير الواقعي، والتفسير الفقهي…،وقد كان  الدكتور  موفقا  عندما  بيّن  مدى افادة  الأستاذ  كولن  من المدارس  التفسيرية على  مرّ العصور، ليخصص  الفصل  الرابع  لبعض  المعالم  الخاصة  بالأستاذ  كولن  في  فهم  القرآن  الكريم.

ودون تفصيل القول في هذه المعالم الكبرى في فهم القرآن الكريم، فنوردها كماهي :1-التقوى شرط الاستفادة من القرآن،2-تجاوز التقليد والشعارات الجامدة،3-الجمع بين التأمل في آيات الكتاب المسطور والكتاب المنظور،4-معرفة مجريات العصر،5-التفسير بين القصد والتكلف،6-الاستناد إلى القرآن والسنة والسيرة النبوية،7-معرفة أسباب النزول وأقوال المفسرين.

وبعد أن بين هذه المعالم بالأمثلة، انتقل المؤلف إلى إيراد بعض القضايا والموضوعات التي تُجلي هذه الفهم الإنساني للقرآن الكريم، فمثلا عندما   يتناول قضية القبلة بالتفسير والبيان، فإنه يعطيها مضمونا أكثر عمقا وشمولية، يقول فتح الله كولن في قوله تعالى في سورة الشعراء 218-219﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾:( أَجل! … إن هذا الشعور القلبي وهذه المعنويات مهمة جدا ولا سيما في موضوع العبودية لله. فعلى المؤمن أن يتوجه إلى الله في كل أمر بكامل الزّهد وبكامل التّقوى وبكامل الإخْلاص. وأن يكون هذا التوجه الغاية الوحيدة له، على ألا يفهم من هذا ترك الدنيا واعتزالها. فبينما يتم التوجه لتعمير الدنيا وجعلها جَنّة من جانب، كذلك يجب توجيه القلوب إلى الحبّ الإلهي من جانب آخر حتى يجعل من نفحة الإيمان إكسيرًا للحياة. أي بينما تعمر الدنيا وتنظم، يتم التوجه إلى الله لنيل رضاه وفتح باب الوصول إليه على مصراعيه.

وأليس هذا هو ما يقوله القرآن الكريم عندما يذكر:﴿ فَأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله ﴾(البقرة: 115). وأنا أرى أن هذه الآية مهمة جداً وذات معان عميقة في وصف الوضع العام للمؤمن الكامل، وفي عكس مقاييس علاقة المؤمن بالله تعالى وارتباطه به. يقول الفقهاء بأن الإنسان عندما لا يعرف جهة القبلة يسأل ويستفسر عنها ويحاول بإمكانياته العثور عليها. وتكون صلاته مقبولة في هذه الحالة حتى وإن صلى إلى جهة معاكسة للقبلة. ولكن ليس من الصحيح قصر معنى الآية على هذا فقط. فالإنسان في جميع أحواله: عندما يأكل وعندما يشرب… عندما يقوم وعندما ينام … عندما يكون بين أهله… عندما يتنـزه… في كل أحواله هذه عليه أن يكون متوجها لله تعالى مراقبا إياه، شاعراً به. أجل!… إن الآية تشير إلى هذه المعاني أيضاً.)

ثم نخلص إلى الفَصل الخامس  الذي  خصّصه  المؤلف  لأطروحته الجديدة وهي  “التفسير  الإنساني  للقرآن  الكريم“، من خلال قراءة  عميقة  و منهجية لتجربة  الأستاذ  فتح  الله  كولن، فمنهج  الأستاذ كولن   يستوعب  التفسير  الإشاري والحركي والأدبي والصوفي والاجتماعي، ولذلك  صنفه المؤلف تصنيفا  جديدا، يقول الدكتور بوشبكة في الصفحة 132:” هكذا وجدتني، مع  طول  سياحتي  وترددي على مواطن  توضيحاته، مقتنعا بأن لهذا الرجل لونا جديدا من التفسير، تبعا  لتميزه في الرؤية  كما  في  المعالجة ، بل  في  الفقه  كما  في  التنزيل، وذلك واضح  جلي في سيرته وكل  كتاباته،…إني  أرى  أنه   يجمع  في  فهمه  للقرآن  الكريم  بين  أكثر من  منهج ويضيف  إليه  من لمساته  إضافات  عجيبة قبل  أن  يحبره تحبيرا، فبعد  تأمل  في  كتابه  وتدقيق، بدا لي جانب من هذا الطريق، يلوح في الأفق ساطع  عميق، قد يصح  أن  نسميه “فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم“، لأن  الأستاذ  كولن يتميز  بتوجهه الإنساني  في  كل  أعماله.

إن هذا الكتاب اهتمّ فيه المؤلّف برصد رؤية فلسفة جديدة   لتفسير إنساني للقرآن الكريم، اضطلع بوضع معالمها الأستاذ فتح كولن، ثم بيّن دوره الكبير في التأسيس لهذا المنهج من خلال مؤلّفاته ومكتوباته، التي تتجلّى فيها النزعة الإنسانيّة، لأن الاعتماد على القرآن قراءة وفهما وتفسيرا وتمثلا، هو واسطة العقد في المشروع الإصلاحي “الكولاني”، لأن الفهم الخاص للقرآن الكريم أهل للارتشاف من معينه الذي لا ينبض، والاهتداء بهديه الذي لا يخيب، والاستعانة بمعيته التي لا تقره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – الدكتور عبد المجيد بوشبكة رئيس شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بمدينة الجديدة، ومدير مختبر دارسات الفكر والمجتمع، وأستاذ علوم القرآن والتفسير بجامعة شعيب الدكالي.