لفتَ الأستاذ كولن الانتباهَ إلى ما يمكن أن يعترضُ طريقَ حركة الخدمة مِنْ عقباتٍ وما يواجهها من مخاطر، وأكثرُ ما ركَّزَ عليه بينَ هذه العقباتِ والمخاطر ما يلي:

أ. الولع بالشهرة والمنصبِ

يرى كُولَنْ أنَّ الإنسان لديه طباعٌ جميلة تمثِّلُ جوهرَ وبذورَ أشياء جدُّ طيبة كالفداء والصدق والإيثار والاستغناء مثلًا، كما توجد لديه -إلى جانب ذلك- أسسُ أشياء سيئةٍ فُطِرتْ لديه لمجموعةٍ من الفوائد والحِكَم النسبية كالخصال السيئة التي تَشُلُّ الروح وتُميتُ القلب كحُبِّ المنصب والتفكير فيه، وحبّ الشهرة مثلًا.

فالعاجزون عن تخليص أنفسهم من الخصال السيئة -الطبيعي وجودها عند الكلّ تقريبًا مع اختلاف نسبها- إن عجزوا عن السيطرة عليها بشكل مشروع فربّما يلحقون أضرارًا كثيرة بأنفسهم وبالمجتمع الذي يعيشون فيه أيضًا.

مَنْ يفكرون دائمًا وأبدًا لصالح الأنانية لا يبرَحُونها ولا تَبرحُهُم، ومن يبحثون عما ينشدونه في مناخ “الأنا” المظلم لن يتقدّموا خطوة وإنْ قطعوا ما لا يُحصى من الفيافي والسهول.

ويوضح كُولَنْ رأيه الموضوعي هذا بمثالٍ يقول فيه: لو أنَّ أحدهم أراد استخدام عذوبة صوته وقدرته الموسيقية لتحقيق الشهرة والمال فَوُجِّه لأنواع أخرى غير ضارة كالابتهالات والقصائد بدلًا من “أن ينثُرَ الضبابَ والدخانَ حولَه” مصحوبًا بمعزوفات مستجهنة لكان ذلك هو الأنسب والأفضل.

ب. دُوّامة الأنانية

مَنْ يفكرون دائمًا وأبدًا لصالح الأنانية لا يبرَحُونها ولا تَبرحُهُم، ومن يبحثون عما ينشدونه في مناخ “الأنا” المظلم لن يتقدّموا خطوة -ولو بقدر مَخِيطٍ- وإنْ قطعوا ما لا يُحصى من الفيافي والسهول، ومهما كانت الأعمالُ المنفّذةُ ثقيلة ومتعبة فإنها لا تُعدُّ فضيلةً ولا تحظى بالقبول الإلهي طالما كانت لصالح الأنانية.

يقول كُولَنْ:

“قد تنشأ الأنانية من العلم أو الثروة والسلطة، أو تنبع من الذكاء، أو تتضخّم بالجمال، وغيره، ولما كان الإنسان لا دخلَ له في إيجاد هذه الصفات، فإنَّ أيَّ ادّعاءٍ أنانيّ يُعَدُّ وسيلة لغَصبِ حقّ المالك الحقيقي وجلبِ سخطه، وتؤدي في النهاية إلى هلاك أرواح هؤلاء المغرورين”.

ثم يحذر ويرسم لوحة الإنسانية الحقيقية هكذا:

الرغبة في عرض النفس للآخرين والتحدّثِ عنها على الدوام ناتجةٌ عن عقدة الشعور بالنقص، ويستمر هذا الوضع عند هؤلاء حتى تلقّيهم دروسًا جيّدة في تربية النفس والروح يصلون بها إلى فداء وجودهم لصاحب المُلكِ الحقّ، فكلُّ أمر من أمورهم تفوح منه رائحة الأنانية وحبّ المظاهر، وكلُّ مظهر من مظاهر تواضعهم إما خداعٌ ورياء، وإما محاولة لدفع الآخرين للحديث عنه…

التواضع مفتاح لجميع السجايا الحميدة، ومَنْ يملِكُه يستطيع امتلاكَ السجايا الحميدة الأخرى، ومن يُحْرَمْهُ يُحرَم -على الأكثر- من السجايا الحميدة الأخرى.

إنَّ ارتفاع أي شخص إلى مرتبة الإنسانية لا يكون إلَّا بتواضعه، ولا يظهر هذا التواضع ولا يتوضح إلَّا عندما يعجزُ المنصبُ والجاهُ والشهرةُ والعلمُ -الأمور التي يُقدِّرُها العوامُ- عن تغييره، فإن استطاع واحدٌ من هذه الأمور تغييرَ سلوكه أو تفكيره تعذّر الحديث عن أيِّ تواضع، وعن أيِّ ارتفاعٍ إلى المستوى اللائق بالإنسان.

يكاد يكون التواضع مفتاحًا لجميع السجايا الحميدة، ومَنْ يملِكُه يستطيع امتلاكَ السجايا الحميدة الأخرى، ومن يُحْرَمْهُ يُحرَم -على الأكثر- من السجايا الحميدة الأخرى

ج. حُبُّ الدعة

يصفُ فتح الله كُولَنْ حُبَّ الدعة بأنَّه “حبُّ الجسد”، ويرى في كثير من المواضع أنَّهُ السببُ الأهمُّ في تحلّل الإنسان وزواله، فيقول:

“كما تأسن المياه التي فقدت حركتها وركدت، كذلك يكون الذبول والضياع مصير الكسالى الذين تركوا أنفسهم للتراخي والركود، وإن الرغبة في الراحة والخمود هي إنذارٌ بالموتِ وباكورةُ الإشاراتِ إليه، ولكن الشخص الذي انقاد لمشاعره وأحاسيسه فقط وانشغلَ بها لا يفهم هذه الإشارة ولا يسمع هذا الإنذار، ولا يستفيد من نصائح أصدقائه وتحذيراتهم…”.

ويحذِّرُ من أنَّ الكسلَ والانقيادَ للراحة والدعة من أهم أسباب الذلّ والحرمان، وأن الأرواح التي ألقت بأنفسها في أحضان الكسل سيأتيها يومٌ تضطرّ فيه إلى التذلّل للآخرين كي تحصل على مستلزماتها المعيشية الضرورية، ويرى أنه إذا ما أضفنا إلى حبِّ الراحة والارتخاء التولُّع بالزوجة والأولاد صار التراجعُ عن خطِّ الخدمة والنضال أمرًا لا مفرّ منه.

ويسعى تاركو منهج الخدمة والنضال إلى الدفاع عن أنفسهم، وانتقاد رفاقهم في الخدمة متذرعين بحجج مختلفة متأثرين في ذلك بالحالة الروحية لما ارتكبوه من خطإٍ، هؤلاء الذين أصاب الشللُ إرادتَهم وعزيمتَهم يؤثّرون تأثيرًا سلبيًّا خطيرًا على الجسارة والقوّة الروحية للمُحِيطين بهم، وأمثالُ هؤلاء لا يستطيعون العودة إلى رُشدهم أبدًا ما لم يعترفوا بأخطائهم وعيوبهم بكلِّ صدقٍ وإخلاصٍ.

د. التناقضات

وبعد أن يلفت فتح الله كُولَنْ الانتباهَ إلى “أمراض” تودي بصحّة الحركة والعمل يحرّك مكّوكَ الفكر بين الأقطاب الإيجابية والسلبية بالنسبة للحركة والعمل ونضج الإنسان، فيقول:

كيف يمكنك الوصول إلى نقاء في الفكر وفي الأحاسيس، وكيف يمكنك تنمية ملكاتك الإنسانية وقابلياتك لكي تكون من الربانيين دون أن تتملّص من الشهوات الجسمانية والشهوات البهيمية.

كيف يمكنك الوصول إلى نقاء في الفكر وفي الأحاسيس، وكيف يمكنك تنمية ملكاتك الإنسانية وقابلياتك لكي تكون من الربانيين دون أن تتملّص من الشهوات الجسمانية والشهوات البهيمية وتعلن عصيانك لها وتمرُّدَك عليها؟

إن كنت ترغب في الوصول إلى “التوحيد” في حياتك القلبية وتذوُّقِ اللذائذ الروحية والغرق فيها… كيف يتسنى لك هذا وداخلُكَ يغصّ بتراقصِ آلافِ الرغبات والأهواء؟ وكيف يُتاحُ لك هذا وأنت طوعُ أمرِ رغباتك الجسديّة في كل مُنعطَف؟!

إن كنت تعتزمُ الانطلاق إلى الأعالي، والسموّ إلى عوالم وراء هذه السماوات… إن كنت تتمنى هذا فكيف يليق بك التعلّق بأوحال هذه الدنيا كطفلٍ ساذَج؟

أنت تنتظر على الدوام فجرًا جديدًا يُطِلُّ على أفقك، ولكن كيف يمكن ذلك دون أن تُزينَ قلبك بالمُثل السامية، ودون أن تستعيدَ مكانك وموضعَك القديم، ودون أن تكوّن صرخةً تُدوّي في مسامع الدنيا…!”.

إنّك تريد إيجاد حلول للمشاكل المزمنة المتراكمة منذ عصور وعصور… لكن إنْ لم تتحلّ بالأملِ، أو إن لم تملك عزمًا وعزيمةً على الانتظار سنوات وعصورًا فكيف يمكنك فعلُ ذلك؟!

إن كنت تروم عيش حياة الروح والقلب، وإن كنت تصبو إلى التسامي في مشاعرك وعواطفك… إن كنت تبغي هذا وذاك فكيف تحصل عليهما دون أن تتحلّى بصبرٍ وعزيمةٍ لا تنفدُ؟!

أنت ترى نفسك دون أيّ نقص أو قصور، وتريد من الآخرين أن يروا هذا الرأي أيضًا… ولكن أنّى لك ذلك وأنت تحمل على ظهرك ألفَ إثمٍ كلَّ يوم! وكيف يمكن هذا وتصرُّفاتك في المجتمع تنمّ عن تناقضات عديدة؟.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، ص141 ــ 146.

ملاحظة: عنوان الدراسة، والعناوين الجانبية من تَصَرُّف مُحرِّر الموقع.