إن معيار “الإنسان-الكائنات-الله” هو محور الدائرة في كل حركية إصلاحية، بما تملكه هذه العلاقة من مشروعية تاريخية أكدت أن الإنسان باستطاعته التحول إلى حركية مغيرة في ظل انسجام العلاقة بين “الإنسان-الكائنات-الله”. فالانبعاث والنهضة مرهونات بمدى تمثل هذه العلاقة. فهل هذه الروح الثقافية الكامنة في لاوعي الذات، والتي هي نتيجة تجارب طويلة ممتدة في الزمن حتى صارت جزءً مترسخا في طبع الإنسان، ومصدرا للمعلومات في اللاشعور، هل ينبغي لها المحافظة على صورتها الموروثة أم تستطيع تجديد ذاتها؟

تجديد الموروث اللاشعوري

يرى فتح الله أن العصر وخصوصياته تستطيع الإضافة إلى الموروث أو إلى الثقافة الذاتية بما انتهت إليه تجربة العصر، وإلا كيف يكون الإنسان حركيا فعالا إن لم تكن له القدرة على طبع ثقافته الكامنة في لا شعوره والموجودة -كما يقول الأستاذ- “فوق الزمان” في عمق شخصيته.

يرى كولن ضرورة أن يكون الإنسان ابن عصره ووقته، فيطبع عصره بشخصيته، فجذور الإنسان الثقافية والفكرية لا ينبغي أن تمنعه من طبع وجوده في زمنه بطابع العصر.

بعبارة أخرى إن الكثير من الأعراف والمعتقدات والمسلمات هي جزء من الروح لكنها، “… غافية في اللاشعور، تحفزها المقومات الداخلية للعقل بين الفينة والأخرى، بواسطة دوافع وأسباب مؤثرة في هذه المكتسبات، فتنشطها وتفعلها وتنشئها وتصورها في أشكال؛ فأحيانا في شكلها القديم وأحيانا في تماثل قريب من شكلها القديم ولكن ربما بلون باهت، غير أن هذه المكتسبات مهما كانت مندرجة في طبع الإنسان فلا تظهر في الحاضر مجددا بعين الذات القديمة، لأن كل يوم جديد هو عالم خاص بذاته… لذلك لا نريد أن نكرر مكتسباتنا القابعة في اللاشعور كشيء قديم تماما، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف”.

الإنسان ابن عصره

رغم أن الأستاذ فتح الله ينطلق من روح التراث ومن الأصول الثابتة ومن اقتناع كلي بأن الإنسان يحيى بروح الماضي الممتد فيه دون إرادته، إلا أنه يرى ضرورة أن يكون الإنسان ابن عصره ووقته، ويرى ضرورة أن يطبع عصره بشخصيته، فجذوره الثقافية والفكرية وإن كانت ممتدة في الزمان، لا ينبغي أن تمنعه من طبع وجوده في زمنه بطابعه الخاص الذي هو طابع العصر.

ينبغي أن تكون الثقافة الذاتية من مصدر أصيل، والمصدر الأصيل هو الدين والقيم والأخلاق.

بعبارة أخرى إن الإنسان يستطيع أن يزيد في وعاء المعاني والأفعال والتصرفات التي تجعل “التوحيد” أكثر عمقا في القلوب والأرواح في فترة من الفترات، فإنسان كل فترة من الفترات مطالب بأن يكون وسيلة فعالة في دفع الفكرة إلى الخارج فتعبر عن نفسها. فما دور الإنسان في عصره وفترته إن لم يكن قادرا على مساعدة من لا يستطيع تعبير هاتف الفطرة الداخلي القادم من الأعماق، حتى لا تنسحق هذه الفطرة تحت ثقل طبقات الغفلة والأفكار الغامضة والمسلمات الخاطئة، المتكدسة عبر مختلف مراحل التاريخ الطويل. فالقول الأصوب كما يقول الأستاذ هو:

“أن نعيش تلك المكتسبات بزيادة ألوانٍ وأعماقٍ طرية، صحيحة النسب، مستمدة من الأصل” فالروح الثقافية تحتاج إلى:

“أن تصطبغ بلون شخصيتنا في العصر، وأن نسمح لها بأن تتسرب إلى عمق حياتنا في العصر، بعد تكيفها مع روحه، حتى لا تكون سببا في ظهور تنافر وتناقض بينها وبين ما تمثله من جذور وبين حقيقة انتمائنا إلى عصرنا وزمننا. بعبارة أخرى ينبغي رعايتها وتعهدها بكل ما يجعلها طرية في حياتنا.

ضرورة أن تكون هذه الثقافة من مصدر سليم وصاف، لأنها إذا كانت من مصدر هجين أو دخيل فلا يصلح لأن تمد انطلاقة الذات بالطاقة والقوة اللازمة للسير تجاه المستقبل.

أن تكون من مصدر أصيل، والمصدر الأصيل هو الدين والقيم والأخلاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ164/ 165/ 166.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.