إن دروس التنمية البشرية وصناعة التغيير لا تبلغ قطرة واحدة في محيط التأثير الذي صنعه رسول الله ﷺ في صحابته من حوله، لقد انصبغ هؤلاء في هذه المدرسة المحمدية حتى صار كل واحد منهم يوازي نبيًا من أنبياء بني إسرائيل في التبليغ والدعوة والإرشاد، ولئن كان تأثير انبياء إسرائيل في أقوامهم محدودًا فلقد بلغ تأثير هؤلاء الأصحاب الكرام مبلغًا عظيمًا قلَّ نظيره في الإنسانية، وواحد من هؤلاء كان بطلنا في هذه الحلقة إنه الشاب الوسيم الجميل بهي الطلعة زكي الرائحة الهاشمي القرشي مصعب بن عمير رضي الله عنه مبعوث النبي ﷺ إلى الإسلام في يثرب بعد بيعة العقبة الأولى، وحامل لواء المهاجرين في غزوتي بدر وأحد…
فتعالوا بنا نطالع بعضًا من سرته العطرة. وقبل أن نبدأ في مطالعة هذه السيرة الزكية سنقف برهة مع مدرسة الدعوة التي أسسها الحبيب محمد ﷺ والتي نشأ في كنفها هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه قبل أن يبعثه الحبيب إلى ديار الهجرة يقول الأستاذ كولن في النور الخالد: “لقد أنفقت السيدة خديجة رضي اللّٰه عنها معظم ثروتها في المآدب التي كان النبي ﷺ يصنعها ويدعو لها أشراف مكة لكي تتيسر له فرصة تبليغهم ودعوتهم إلى دين الحق… ولكنها لم تأت بنتيجة.
يصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه مجلسًا من هذه المجالس فيقول ما معناه: دعا رسول اللّٰه ﷺ أشراف مكة إلى بيته فأكلوا الطعام. ثم بدأ رسول الله ﷺ بالحديث فقال إنه رسول الله، وإنهم أقرب الناس إليه. لذا، يجب أن يكونوا عونًا له. ثم ختم حديثه قائلاً:
“فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصَاحبي؟” فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، قَالَ: فَقُمْتُ وَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، قَالَ: فَقَالَ: ” اجْلِسْ”، ثُمَّ قَالَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُومُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لِي: “اجْلِسْ”، حَتَّى كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدَيَّ” (رواه أحمد في مسنده)
لقد كان هذا رد فعل أقرب الأقربين إليه فهل يأس أو تخاذل أو تراجع، كلا، فما كان لمثل هذه القمة السامقة التي اصطفاها الله على سائر الخلق أجمعين أن تتراجع أو تبرد عزيمتها يتابع الأستاذ كولن قائلا: “وهكذا مرت الأعوام ورسول اللّٰه ﷺ لا يعرف الكلل ولا الملل بل يستمر في دعوته وفي تبليغه، ولم يعره أقرباؤه أذنًا صاغية أبدًا. فبدأ بالبحث عمن يستجيب له من الناس البعداء عنه. غير أن العثور على أناس ذوي قلوب حية ليس بالشيء الهين. فقد رجموه بالحجارة في الطائف، وطُرد من أكثر الخيام التي زارها في الأسواق المقامة. ولكن إصراره في الدعوة كان يجذبه إلى عالم المفاجآت. فقد ساقه القدر إلى العَقَبة حيث التقى ببعض الأشخاص الطاهرين. في العقبة الأولى تعرف على اثني عشر نفرًا، وزاد عدد هؤلاء في العقبة الثانية في السنة الثانية إلى بضع وسبعين نفرًا. فأبلغهم رسول اللّٰه ﷺ بعض الأمور، فإن كانوا مؤمنين به فعليهم الإيمان به ضمن هذه الشروط. وقبِل هؤلاء كل ما قاله رسول اللّٰه ﷺ دون أي تردد. وهنا طلب العباس رضي الله عنه منهم أن يفكروا مليًّا قبل أي قرار، إذ شرح لهم أن قبولهم هذا يعني أنهم يضعون أنفسهم في مواجهة العرب أجمع، فلم ينكص أحد على عقبيه، وبايعوا النبي ﷺ على أن يفدوه بأرواحهم، فأرسل معهم النبي ﷺ مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلمهم دينهم”
نعم هذه هي مدرسة الحبيب التي تربى فيها مصعب بن عمير رضي الله عنه، وها هو يتولى زمام المسؤولية، وتوكل إليه مهمة التبليغ والدعوة، وإذا كان بعض الأنصار قد أسلموا وبايعوا فلا يزال في بقية أهل المدينة من لم يؤمن بعد لذا فالمهمة ليست يسيرة، لكن خريج مدرسة الحبيب ﷺ مؤهَّلُ لها.
ثم يتابع الأستاذ كولن حديثه عن هذا المبعوث قائلاً: “كان مصعب رضي الله عنه الابنَ الوحيد لأغنى عائلة في مكة، وكان في السابعة عشر من عمره عندما أسلم. كان هذا الفتى من قبل إذا مر من أزقة مكة لوحت له الفتيات بمناديلهن من النوافذ، فقد كان أنيق الملبس. ولكنه ما إن دخل الإسلام حتى نبذته عائلته، وعندما ذهب إلى المدينة لم يكن يملك سوى ملابسه، وعاش هناك فقيرًا، حتى أنه عند استشهاده في معركة أُحد -وقد تقطعت أوصاله- لم يجدوا ما يكفنونه به رضي الله عنه.
ما إن وصل هذا التلميذ الجليل -تلميذ رسول اللّٰه ﷺ إلى المدنية حتى شرع في الدعوة والتبليغ، فلم يبق في المدينة باب لم يطرقه. وكان إخلاصه للدعوة وتفانيه في سبيلها يجعل كلامه يدخل إلى القلوب ويأسر الأرواح. فيسرع مستمعه للدخول إلى الإسلام ونبذ الكفر. لقد أحدث مجيئه إلى يثرب موجة شديدة وهزة قوية، فكأنه كان نبع نور صاف يتسرب إلى القلوب فيملكها.
أسكنه أسعد بن زُرَارَة رضي الله عنه في بيته، ومع أن صلاة الجمعة لم تكن قد فرضت بعد، ولم يشرِّف النبي ﷺ يثرب بمجيئه بعد، إلا أن أسعد بن زُرَارَة رضي الله عنه كان يجمع المؤمنين ويصلي بهم صلاة الجمعة.
ولم يبق في يثرب رجل ذو شأن إلا أتى إلى بيته واستمع إلى مصعب رضي الله عنه، لقد كان بعضهم يأتي وهو محنق، ولكنه يغادر البيت وهو قرير النفس. كان سعد بن معاذ رضي الله عنه من بين هؤلاء، فقد أقسم مغضبًا أنه لن يسمح لأحد بإحداث الفتنة في يثرب بعدما حُدّث أن مصعبًا يريد إحداث فتنة فيها. لذا شعر بأن عليه أن يقف في وجه هذه الفتنة ويخمدها. ودخل سعد إلى بيت مصعب رضي الله عنه فرآه وهو يحدث بصوته العذب الرخيم. لم يملك نفسه سعد فقال كلامًا خشنًا لمصعب رضي الله عنه فرد عليه سيدنا مصعب رضي الله عنه قائلا:
“أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزَلْنا عنك ما تكره.”
فجلس ســــعد وقــــد ســــكن غضبه وبــــدأ يســـتمع إليه، وأحس بأنه ينتقل إلى عالم آخـــر لم يعهده من قبـــــل… عالم ترفرف فيـــه أجنحة الملائكة. ولم يطل به الأمر فقد أســــرع بنطق الشـــهادتين من أعماق قلبه ودخــل في صــفوف المســلمين.
وكما هز إسلام عمر بن الخطابرضي الله عنه مكة، كذلك هزَّ إسلام سعد بن معاذ يثرب، فقد انتشر هذا الخبر المذهل فيها وفي القبائل المجاورة لها.
وهكذا فكما كان رسول اللّٰه ﷺ مشغولًا بنشر الدعوة، كان أصحابه المخلصون الصادقون يبذلون ما في طاقتهم لنشر الإسلام والحق في أحسن شكل وأجمل صورة. كان العالم كله في انتظار هؤلاء ليرفعوا المشاعل التي تضيء أرجاءه. ولم يكن إرسال مصعب إلى يثرب وطلحة إلى دومة الجندل والبراء وخالد -بعد سنوات- إلى اليمن إلا ثمرة الرغبة نفسها… رغبة تبليغ الدعوة ونشرها في العالم”.