تتعلق القضية الثانية التي سنتناولها هنا بآراء كولن حول الدين والعلم فيما يخص المدخل العلمي الحديث للطبيعة. ولا يتردد كولن في قبول صحةِ وشرعية المنهج العلمي الحديث في دراسة الطبيعة طالما يتم الأخذ بنظر الاعتبار حدوده المعينة. ويرى كولن أن المناهج التجريبية هي أفضل وأنسب ما يمكن استخدامه عند التعامل مع العالم الذي يمكن إدراكه بالحواس المادية. وبالمثل فإن المناهج المنطقية القائمة على التفكير الاستقرائي أو الاستدلالي أو التحليلي، والتي تشكل مع الأساليب التجريبية جوهر المنهجية التي يقوم عليها العلم الحديث، هي مناهج صحيحة وفعالة فقط داخل مجالات قدرتها.

أبرز ما تسعى إليه رسالات الوحي الإلهي، وتحديدًا كما يتضح في القرآن الكريم، هو إبلاغ البشر إبلاغًا واضحًا بالحقائق التي تفوق إدراك العقل البشري ويعجز عن اكتشافها بنفسه.

العلم الحديث وإدراك حقيقة الوجود

ويؤكد كولن على أن المنهجية العلمية الحديثة غير قادرة على النفاذ إلى “حقيقة الوجود” أو “جوهر الوجود” وإدراكه. ويرجع هذا إلى أن هناك ميادين في الواقع تفوق قدرة هذه المنهجية. إن عجز العلم عن معرفة الحقيقة فيما يخص جوهر هذا الوجود شيء في غاية الأهمية في اعتقاد كولن، وخصوصًا مع اعتبار القصور في المناهج التجريبية.

سيفقد العقل قدرته على معرفة الحقيقة الثابتة التي يقوم عليها عالم الطبيعة إذا ما اعتمد على المنهج التجريبي.

يهتم العقل البشري بالوصول إلى المعرفة اليقينية للحقيقة الثابتة التي يقوم عليها عالم الطبيعة، ولكن هذا العقل سيفقد قدرته على معرفة هذه الحقيقة الثابتة إذا ما اعتمد على المنهج التجريبي. فعلى سبيل المثال يتوق العقل إلى اكتشاف حقيقة وجود الأشياء، وتحديدًا أصل هذا الكون. ووفقًا لما يراه كولن في هذا الصدد فإنه كلما تعامل العلم مع قضية أصل الأشياء “فإن ما يفعله هو أن يشرح كيفية حدوث الأشياء”. إن العلم في حقيقته لا يجيب على مسألة حقيقة الأشياء بشكل يرضاه العقل البشري، كما يتهرب العلم من العقبة المتمثلة في تقديم تفسير لأصل الوجود “أو يظن أنه قد تهرب منها بالفعل عن طريق إرجاع أصل الوجود إلى “الطبيعة”، أو “النشوء الذاتي”، أو أي من مثل هذه النظريات أو المفاهيم كـ”الحتمية” و”المصادفة”.

يؤكد كولن على أن المنهجية العلمية الحديثة غير قادرة على النفاذ إلى “حقيقة الوجود” أو “جوهر الوجود”.

وظيفة العلم الحقيقية

يرى كولن أنه من المهم أن يظل العلم مخلصًا لطبيعته كفرع من معرفة الله، وذلك بأن يكون على قدر كافٍ من الأمانة يجعله يعترف بأوجه قصوره المنهجية في إدراك الحقيقة بأكملها، وأن يقر كذلك بأن ميدان الحقائق الأبدية والمطلقة يتجاوز تمامًا اهتمامه واختصاصه المعرفيين. ويُعتبر هذا الإقرار الفلسفي شيئًا ضروريًّا بالتأكيد من أجل الحفاظ على الشرعية والانسجام في العلاقة بين الدين والعلم. وعلاوةً على هذا فلن يبلغ العلم قيمته الحقيقية إلا إذا أخلص لدوره ووظيفته الشرعيين باعتباره فرعًا أكاديميًّا لمعرفة الله، وليس من خلال اغتصاب وظيفة الدين والادعاء بأنه علم الحقيقة[. وفوق كل هذه الاعتبارات من الواضح أن كولن، باعتباره عالمًا دينيًّا، يهتم بإبراز أوجه عجز المدخل العلمي لفهم الطبيعة من الناحيتين النظرية والتطبيقية.

يرى كولن أن المناهج التجريبية هي أفضل وأنسب ما يمكن استخدامه عند التعامل مع العالم الذي يمكن إدراكه بالحواس المادية.

ونستطيع القول على ضوء جميع ما ذُكر: إن كولن يريد أن يُبقي للدين مجال الاستقصاء الذي يتجاوز ما هو علمي. وهذه الرغبة في وجود دور للدين هو أمر مبرر تمامًا؛ فأبرز ما تسعى إليه رسالات الوحي الإلهي، وتحديدًا كما يتضح في القرآن الكريم، هو إبلاغ البشر إبلاغًا واضحًا بالحقائق التي تفوق إدراك العقل البشري ويعجز عن اكتشافها بنفسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: زكي ساري توبراك وآخرون،السلام والتسامح في فكر كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2014م، صـ77/ 78/ 79.

ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.