#في_ صحبة_ النور_ الخالد
رغم عمره القصير في الإسلام إلا أن أثره في نصرة رسول الله ﷺ كان عظيمًا، فقد كانت له مواقفه الشامخة في المواطن الصعبة، وعند وفاته سنة 5 هجرية، بكى عليه أبو بكر وعمر، وحزن النبي ﷺ وأخذ بلحْيته، وكان النبي محمد ﷺ لا تدمع عينه على أحد، ولكنه كان إذا حزن، أخذ بلحيته. ولا تقلِّ حادثة إسلامه في المدنية عن حادثة إسلام عمر بن الخطاب في مكة رضي الله عنهما إنه سيد الأوس في يثرب قبل الهجرة، أسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل كلهم، إنه الصحابي الجليل سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه، يتحدث الأستاذ كولن عن قصة إسلامه على يد سيدنا مصعب بن عمير في النور الخالد قائلاً: ” ولم يبق في يثرب رجل ذو شأن إلا أتى إلى بيته (يقصد بيت سيدنا أسعد بن زُرَارَة رضي الله عنه) واستمع إلى مصعب لقد كان بعضهم يأتي وهو محنق، ولكنه يغادر البيت وهو قرير النفس. كان سعد بن معاذ من بين هؤلاء، فقد أقسم مغضبًا أنه لن يسمح لأحد بإحداث الفتنة في يثرب بعدما حُدّث أن مصعبًا يريد إحداث فتنة فيها. لذا شعر بأن عليه أن يقف في وجه هذه الفتنة ويخمدها. ودخل سعد إلى بيت مصعب رضي الله عنه فرآه وهو يحدث بصوته العذب الرخيم. لم يملك نفسه سعد فقال كلامًا خشنًا لمصعب رضي الله عنه، فقال له رضي الله عنه: “أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزَلْنا عنك ما تكره.”
فجلس ســــعد وقــــد ســــكن غضبه وبــــدأ يســـتمع إليه، وأحس بأنه ينتقل إلى عالم آخـــر لم يعهده من قبـــــل… عالم ترفرف فيـــه أجنحة الملائكة. ولم يطل به الأمر فقد أســــرع بنطق الشـــهادتين من أعماق قلبه ودخــل في صــفوف المســلمين.”.
ومنذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها إسلامه عزم على بدأ الدعوة في سبيل الله حيث رجع إلى قومه من فوره ووقف عليهم قائلاً: “يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟” قالوا: “سيدنا فضلاً، وأيمننا نقيبةً”، قال”: فإن كلامكم عليّ حرام، رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله”، فما بقي في دور بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلموا.
شهد بدرًا وأحدًا والخندق مع رسول الله ﷺ، وصارت عباراته في غزوة بدر مثلاً يحتذى في نصرة الحق، ونصرة رسول الله ﷺ فعندما استشار النبي أصحابه في غزوة بدر بقوله:” أشيروا عليّ أيها الناس” انتبه سيدنا سعد لمقالته بعدما كررها فقال له: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال ﷺ: “أجل”، قال: فقد آمنَّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَهُ أن تَلقى بنا عدونا غدًا. إنّا لصُبُر في الحرب صُدُق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينُك فسِرْ على بركة الله”.
نعم لقد كان حصيفا وحاسمًا بهذا القول لأنه أدرك أن الرسول كان يعني الأنصار، ومن ثم أكد للرسول على تمام نصرته وذهابه معه أيما مذهب.
أما موقفه المشهود في الحكم على بني قريظة فلندع الأستاذ كولن في النور الخالد يحدثنا عنه يقول: “في غزوة الخندق جرح سعد بن معاذ رضي الله عنه في ذراعه، وبدأ الجرح ينـزف دون توقف، واهتم الرسول ﷺ به فنصب له خيمة داخل المسجد، وكان يزوره على الدوام، كما كان الآخرون يزورونه أيضا ويبقون بجانبه، ذلك لأنه لم يفارق الرسول ﷺ منذ أن اهتدى إلى الإسلام، وكان الرسول ﷺ يعده شخصًا مميزًا، لذا عندما عيِّن حَكما في موضوع بني قريظة جيءَ به محمولا على حمار لأنه كان جريحا فقال النبي ﷺ: “قوموا إلى سيدكم فأنـزلوه.” ولم يقصر سعد قوموا لسيدكمله عنه في الإخلاص والوفاء للرسول الكريم ﷺ، عاش مخلصًا وفيًا، ومات مخلصًا وفيًا…
وفي ساعاته الأخيرة كان يدعو قائلاً: “اللّٰهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه.. اللّٰهم فإني أظن أنك قد وضعتَ الحرب بيننا وبينهم.. فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك.. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وببينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.”
كان بنو قريظة قد خانوا المسلمين -ولاسيما في أثناء معركة الخندق- وأرادوا طعنهم من الخلف، وأرسلوا من يتجسس لهم حول حصن النساء لكي يقوموا بالهجوم عليه، ولكنهم لم يجدوا الفرصة المواتية لذلك، هذا مع العلم أنهم كانوا قد اتفقوا وتعاهدوا مع رسول الله، نكثوا العهد وأعلنوا الحرب على المسلمين. ولم يقف ذنبهم عند هذا الحد، بل فتحوا قلاعهم وحصونهم لاستقبال أعداء المسلمين -مثل حُيَيّ بن أخطب- الذين كان من المُبعدين السياسيين من قبل المسلمين، مع أن مثل هذا التصرف كان يُعد انتهاكًا للعهد.
بالرغم من كل هذا فلو اعتذروا للرسول ﷺ عندما أقبل إليهم وطلبوا منه العفو لكان من الممكن أن يصفح الرسول ﷺ عنهم، ذلك لأنه كان يميل على الدوام إلى التعايش الجيد معهم، غير أنهم سلكوا سلوكًا معاديًا للمسلمين وللرسول ﷺ، فقد عشعش السوء في سويداء قلوبهم. وعندما أسقط في أيديهم استسلموا، ولكن بشرط واحد وهو أن يكون سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الحكم في قضيتهم. وقبل الرسول ﷺ شرطهم هذا، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه من فراش المرض، وجاء إلى الموضع الذي ينتظرونه فيه … فأصدر حكم التوراة عليهم وهو أن يُقتل الرجال وتُقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، ولم يكن أمام الطرفين إلا قبول هذا الحكم. وهكذا تطهرت المدينة من فتنة أخرى وأصبحت هي وما حواليها بلدًا آمنًا.
وهكذا حقق الله تعالى رغبة سعد بن معاذ وقبل دعاءَه.. وبعد فترة قصيرة نـزف جرحه وتوفي إلى رحمة الله تعالى.. كان قد استعجل الخروج إلى الحرب، فلبس درعًا تبين أنه ضيق عليه، لذا بقيت كتفاه عاريتين، وهناك أصيب بسهم تسبب في وفاته واستشهاده فيما بعد
قال عنه النبي ﷺ بعد وفاته: “والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتز له العرش”. وروت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها عن النبي ﷺ قوله: “إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجيًا منها، نجا منها سعد بن معاذ”.