#في_ صحبة_ النور_ الخالد
كثيرًا ما يرد إلى خاطر الإنسان وهو يقرأ حياة الصحابة هذا الخاطر: ماذا لو عاش في زمن النبي ﷺ هل كان سيسارع إلى الإيمان به في أول الأمر؟ أم كان سيمكث فترة حتى يهتدي؟ ثم يفزعه خاطر آخر يقول له: أو ربما يكون تعيس الحظ فيخرج من هذه الدائرة المباركة أصلا.. شخصيًا كنت أتمنى أن أكون مثل بطلنا اليوم، واحد من العشرة المبشرين بالجنة، أسلم مع النبي ﷺ قبل أن يدخل دار الأرقم، شهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ وأعطاه رسول الله ﷺ لقبًا نبيلاً وهو “أمين هذه الأمة”، وبكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل بيته وهو يومذاك أمير على الشام فلم يجد في بيته إلا كسيرات من الخبز وقال له: (غيّرتنا الدنيا كلّنا، غيرك يا أبا عبيدة) نعم إنه الأمين أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه.
كان الرسول ﷺ يحبه ويثني عليه بالخير قائلا: “نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ”، وأرسله مع وفد نجران من النصارى عندما طلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً أمينًا يعلمهم أمور دينهم فقال لهم الرسول ﷺ: “لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ”، وهنا استشرف أصحاب رسول الله ﷺ لهذا اللقب النبيل الذي سيمنحه الرسول ﷺ لواحد من أصحابه، حتى قال بعضهم ما تمنيت الإمارة إلا في هذا الموضع، فَقَالَ ﷺ: “قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ”، فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ”.
إن أوسمة العالم كلها لتتضاءل قيمةً أمام هذا الوسام العالي الذي منحه إياه الحبيب المصطفى ﷺ.
وكم كانت محبة سيدنا أبي عبيده للرسول ﷺ عظيمة، وشواهدها كثيرة لكن نذكر منها شاهدًا واحدًا وهو ما حدث في غزوة أحد، تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه يَقُولُ: “لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَرُمِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَجْهِهِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي أُجْنَتَيْهِ حَلَقَتَانِ مِنَ الْمِغْفَرِ، فَأَقْبَلْتُ أَسْعَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَإِنْسَانٌ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَطِيرُ طَيَرَانًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ طَاعَةً، حَتَّى تَوَافَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَدْ بَدَرَنِي فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ إِلا تَرَكْتَنِي فَأَنْزِعَهُ مِنْ وَجْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَتَرَكْتُهُ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِثَنِيَّةِ إِحْدَى حَلْقَتَيِ الْمِغْفَرِ فَنَزَعَهَا وَسَقَطَ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَقَطَتْ ثَنِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ، ثُمَّ أَخَذَ الْحَلْقَةَ الأُخْرَى فَسَقَطَتْ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ أَثْرَمَ والأثرم هو الأهتم: الذي انكسرت ثناياه من أصولها. نعم لقد فقد ثنيتَيْهِ في محبة رسول الله ﷺ، وقد كافأه الله عز وجل فحسن ثغره بذهابهما حتى قيل ما رؤى هَتَمٌ قطّ أحسن من هتم أبى عبيدة رضي الله عنه. سبحان العاطي الوهاب.
لم تكن أمانة سيدنا أبي عبيدة هي الصفة الوحيدة التي تميزه، بل لقد كان ذا كفاءة في القيادة وتولي المهام الصعبة، فقد جعله الرسول ﷺ أميرا على كثير من السرايا وأرسله في غزوة ذات السلاسل مددًا لعمرو بن العاص رضي الله عنه، وجعله أميرًا على جيش فيه أبو بكر وعمر، وكان رضي الله عنه أول من لقب بأمير الأمراء، وكان أحد الرجلين اللذين اختارهما أبو بكر رضي الله عنه ليتولى خلافة رسول الله ﷺ في بيعة السقيفة، وقال عنه عمر رضي الله عنه وهو يجود بأنفاسه: “لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيًّا لاستخلفته فإن سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله؟”.
ويروي الأستاذ كولن في النور الخالد بعضًا من هذه المواقف المشهودة لهذا العملاق العظيم قائلا: ” أما صحابته الغُرّ الميامين الذين تلقوا منه النور والضياء فقد كانوا أمناء أيضًا، فهذا هو أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الذي كان واليًا على الشام في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن سمع أن هرقل يعد جيشًا ضخمًا لاسترداد الشام منه، ولم يكن مع أبي عبيدة حينئذ إلا نفر قليل لا يستطيع بهم الدفاع عن مدينة دمشق، إذ به يجمع سكان المدينة ويقول لهم بأنه جمع الجزية منهم على أساس أن يدافع عنهم، وهو الآن لا يستطيع أن يدافع عنهم أمام هرقل؛ لذا، فإنه يرد إليهم هذه الأموال لأنه لا يستطيع الاحتفاظ بها من غير وجه حق. وهكذا ردت أموال الجزية لأصحابها، وأمام هذا المنظر الذي لا يُصدق هرع الرهبان والقسس إلى الكنائس والأديرة وتضرعوا إلى الله أن يبقي المسلمين وأن ينصرهم. وعندما ودعوا المسلمين قالوا لهم: سترجعون إن شاء الله وتنقذوننا من ظلم هرقل. إن أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه قد عاش أمينًا وربانيًا إلى درجة أنه تربع على عرش قلوب النصارى”.
أما قصة استشهاده فيُضرب بها المثل الأعلى في القيادة الأمينة، فعندما دهمَ بِلاد الشام طاعون لم يسبق للناس به عهد من قبل، حيث استشهد فيه عدد كبير من جيش المسلمين، وجَّه عمر بن الخطاب رسولًا لأبي عُبَيْدة بِرِسالةٍ، جاء فيها: “إني بَدَتْ لي إليك حاجة، لا غِنى لي عنك فيها، فإنْ أتاك كِتابي هذا ليْلاً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُصْبِحُ حتى تَرْكَبَ إلَيَّ، وإنْ أتاك كِتابي نهارًا فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُمْسي حتى ترْكَبَ إلَيَّ”، فَفَهِمَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة ما يريده عمر، ثم قال: “يا أمير المؤمنين، إني قد عرفتُ حاجتك إليَّ، وإني في جُندٍ من المسلمين، لا أجدُ بنفسي رغبةً عنهم، فلستُ أريد فراقَهم حتى يقضيَ الله فيَّ وفيهم أمرَه وقضاءه، فحلّلني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندي”، فلما قرأ عمرُ الكتاب بكى. فقال الناس: “يا أمير المؤمنين! أمات أبو عبيدة؟” قال: “لا، وكأن قد”. أي قد اقترب من الموت.
لم يرد رضي الله عنه أنْ يترك جيشه لينجو بنفسه ويترك جنوده يهلكون، أبى أن يمتاز عليهم بأي ميزة، أي نفوس عظيمة هذه التي رباها الحبيب المصطفى ﷺ! يقول الأستاذ كولن في النور الخالد: “هذه هي الدرجة العالية التي بلغها هؤلاء الصحابة في الإسلام، لذا انفتحت أعين قلوبهم لعالم الحقائق في هبة واحدة.”