شاهد الكثير منا في دهشة ما حدث في تركيا في الخامس عشر من شهر يوليو.. ومع أن هذا لم يحرك ساكنًا لدى بعض الناس، إلا أن تاريخ تركيا المضطرب والحافل بمحاولات الانقلاب لا يزال حاضرًا في أذهان مواطنيها.. ولكن خلال ساعات، فإن ما حدث كان كفيلاً بأن يجعلك تشعر أنك لم تتعرض لمفاجأة من قبل، لدرجة أنّ حاجبيك يرتفعان ويظهر العبوس على جبينك دهشة.. وبإمكان أي شخص على شيء من الدراية بتاريخ تركيا المعاصر أن يدرك أن شيئًا مريبًا جدًّا يحدث على الساحة.
عملي وسبب كتابتي لهذا:
منذ سنوات قليلة مضت سمعتُ للمرة الأولى عن حركة مدنية تركيّة لها أذرع في المجالات التعليمية، حوار الأديان وأعمال تخفيف الأزمات حول العالم وليس في تركيا فقط.. دفعني عملي الفني كمعلمة للتداخلات فيما بين الجوانب الاجتماعية والشخصية، وخبرتي في توثيق عمل المنظمات غير الحكومية ومنظمات المساعدة إلى أن أعتزم إجراء دراسة متعمقة حول أعمال حركة “الخدمة” كما يطلق عليها.. فمنذ طليعة هذا العام وأنا أقوم بتوثيق مصور لعمل حركة “الخدمة”، لكن الأهم أني عرفت أشياء عن المنتمين إليها ودوافعهم.
المنتمين إلى حركة “الخدمة” يضربون مثالاً في الشعور الإيثاري لخدمة المجتمع، حيث لا يتوقعون جزاءً سوى أن يُكوّنوا عالمًا أفضل
فمن خلال منظمات مثل معهد “جزيرة السلام”، تمكنت من التوسع في الخوض في تلك الدراسة ونشاطها، وقد اصطحبني هذا المشروع بالفعل الآن في رحلة إلى أماكن مثل هايتي، الهند، نيبال، بالإضافة إلى تركيا، وآمل أن يصطحبني إلى مناطق أخرى حيث توجد حركة “الخدمة”.. ومن الصادم أن الرئيس رجب طيب أردوغان قد اتهم تلك الحركة بدعمها لمحاولة الانقلاب بالإضافة إلى وصفها بالمؤسسات الإرهابية.
محاولة الانقلاب وما يحدث في تركيا الآن
لقد شعرنا بالارتياح والسعادة عندما نجحت ما تسمى بإدارة الناس والديمقراطية في الدفاع عن حكومة منتخبة ديمقراطيًّا، ولكن كما أشرت سابقًا، كان الشيء الغريب هو أن الانقلاب لم ينجح..
من الصعب على أي تركي وأي شخص آخر غير تركي على دراية بما يحدث أن يستوعب كيف كان الغموض يشوب تلك المحاولة، إلى جانب عدم التحضير، واختفاء الدعم من الجيش نفسه.. لا يمكن أن تقع العسكرية التركية –حامية الجمهورية العلمانية- في خطأ كهذا.
من الصعب أصف حركة “الخدمة” بأنها حركة دينية، وأصعب منه أن أصفها بأنها منظمة سرية.. فنشاطهم ملموسٌ وواضح، وينصب تركيزه على التوعية الاجتماعية وبناء مجتمعات أكثر تسامحًا ومسالمة.
ضف إلى هذا كفاءة الشرطة وسرعتها، والحشود المنظمة من المواطنين التي خرجت لحماية دولتها، والاكتشاف الفوري لمدبري الانقلاب وإدانتهم.. سامحوني إن بدا على الشك، ولكن هذا الموقف يمزج بالفعل بين مشاعر انتصار الحرية وتهديد الأغبياء.. لقد اتهم الرئيس أردوغان فتح الله كولن- رجل الدين الإسلامي المعتدل الذي يعيش في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة منذ عام (1999م)، والذي وضع حجر الأساس لحركة “الخدمة”
الحركة المدنية بمشاركة آخرين على مدى أربعة عقود منصرمة –بالتحكم في محاولة الانقلاب وامتلاكه منظمة إرهابية.
لقد طالب أردوغان على الملأ بتسليم فتح الله كولن بدون تقديم برهان، ووجه أعضاء مجلسه أصابع الاتهام نحو الولايات المتحدة أيضًا بتهمة دعم الانقلاب.
لم أر بعدُ أحدًا من أعضاء حركة “الخدمة” يحاول أن يفرض على أحدٍ الدخولَ في الإسلام.. فالدين ليس جزءًا من المناهج الدراسية في المدارس التركية.
لقد كان هذا الحدث سببًا في وجود عدد من الوفيات لا يُغتفر ربما (290 وزيادة)، إلا أنه على ما يبدو أن الأسوأ لم ينته بعد، فهناك أعداد متزايدة، فقد تم القبض على ما يقرب من (3000) عضو في الحربية، كما تم إيقاف حوالي (3000) قاضٍ ونائب عن العمل وواجهوا الاعتقال لزعم أنهم على صلة بحركة الخدمة التي تُدعى أحيانًا بـ(حركة كولن).. ([1])
إن لم تكن تكن تلك حملة ضد المعارضين أو عملية تطهير فكري، فلا أعرف ماذا أطلق عليها، لقد أعلنت الحكومة حالة الطوارئ، ودعا الرئيس أردوغان إلى إجراء تعديلات في الدستور وزيادة سلطات الرئيس.. كل ذلك بدعوى الدفاع عن الديمقراطية.
ما رأيت وما تعلمت من حركة “الخدمة”
دون الخوض كثيرًا في تاريخ الحركة (الذي يمكنك الحصول عليه بسهولة من مكان ما)، ولكن معتمدة فقط على خبرتي وأبحاثي حول هذا الشأن، أستطيع أن أقول:
الصورة لإيجابية التي تحظى بها تركيا نوعًا ما ترجع بشكل كبير إلى الخدمات التي أسدتها لها حركة الخدمة، ومن الواضح أن الرئيس أردوغان الذي كان يومًا ما صديقًا للسيد كولن لم يُقدّر تلك الخدمة.
” الخدمة” حركة مدنية تتألف من أشخاص من مختلف مجالات العمل، معظمهم أتراك ولكنهم متنوعون الآن، حيث أصبحت الحركة تضم جنسيات عدة، بدأت الحركة مستوحية منهجها من تعاليم رجل الدين الإسلامي المعتدل فتح الله كولن وهي على هذا المنوال منذ أربعة عقود مضت في تركيا، ويبدو أنهم محفَّزون بفلسفة الحبّ النشط، والخدمة، والتسامح كوسائل للمساهمة في بناء مجتمع عالمي سلمي.. وينصّ تركيزهم بشكل أساسي على ثلاثة مجالات لتطبيق تلك الرؤية عالميًّا:
الأول: إنشاء معاهد تعليمية ذات معدلات تنمية مرتفعة من المدارس الابتدائية حتى الجامعات.
الثاني: إنشاء منظمات حوار الأديان حيث يجتمع كبار رجال الدين من مختلف الأديان بالإضافة إلى الموظفين العموميين ليجدوا أفكارًا مشتركة ويتشاركوها على المستويين المحلي والدولي.
الثالث: تقديم الحل السريع للكوارث التي تحدث حول العالم مثل الزلالزل والأعاصير العاتية، علاوة على رعاية الأيتام ومساعدة من هم أقل حظًّا في مجتمعاتنا.
تبني هيئات الحوار في الخدمة علاقات قوية مع الموظفين العموميين وقادة المجتمع أينما كانوا.. وتفتح العائلات بيوتها لاستقبال الجيران لتناول العشاء أو الشاي سعيًا منهم لبناء مجتمع متفاهم.
نُشِرَ مؤخَّرًا مقالٌ لجريدة “نيويورك تايمز” أشار إلى حركة “الخدمة” بأنها حركة دينية سرية وثرية بشكل كبير تخضع لقيادة ردل الدين المسلم فتح الله كولن.. وأنا لا يسعني إلا أن أسأل، ما هو الشيء السري جدًّا والديني جدًّا في حركة “الخدمة”؟! ربما تبدأ المشكلة بكلمة “حركة” ووضفهم مثل الآخرين بأنهم مختلفون عنا.
تسمى حركة “الخدمة” أيصُا بحركة “كولن: إلا أن هذا قد يكون مضلِّلاً لأنه بينما تقوم الحركة على تعالم السيد كولن، تبدو الأفراد والمؤسسات التي تخضع لتلك الحركة أنها تتصرف باستقلالية بدون تواصل مباشر معه إلا أنهم يقرؤون ويطلعون على كتبه ومؤلفاته، التي يظهر معظمها في جريدة “نيويورك تيايمز” نفسها.
علاوة على ذلك، ليس هناك قيادة ظاهرة للمنظمة الأم التي تتوحد تحت رايتها شبكة من المنتمين لها.
استوحت الخدمة منهجها من تعاليم رجل الدين المعتدل فتح الله كولن وظلوا على هذا المنوال لأربعة عقود مضت في تركيا، وهم محفَّزون بفلسفة الحبّ النشط، والخدمة، والتسامح كوسائل للمساهمة في بناء مجتمع عالمي سلمي.
تتعامل المدارس بشكل مكشوف في تركيا وفي أي مكان آخر، وتبني هيئات الحوار علاقات قوية مع الموظفين العموميين وقادة المجتمع أينما كانوا.. تفتح العائلات بيوتها لاستقبال الجيران لتناول العشاء أو الشاي سعيًا منهم لبناء مجتمع متفاهم.. واليوم، تفرعت حركة “الخدمة” فيما يقرب من مائتي دولة، وهناك ما يزيد على ألفى مدرسة حول العالم- العدد غير دقيق- بالإضاقة إلى منظمات ثقافية أخرى.. من وجهة نظري، فإن الحكومة التركية نفسها لا تحظى بهذا التمثيل الدبلوماسي في تلك الدول، لذلك فإن الصورة لإيجابية التي تحظى بها تركيا نوعًا ما ترجع بشكل كبير إلى الخدمات التي أسدتها لها حركة الخدمة، ومن الواضح أن الرئيس أردوغان الذي كان يومًا ما صديقًا للسيد كولن لم يُقدّر تلك الخدمة.
هل هي حقًّ حركة دينية؟ حسنًا، إن الاعتقاد الدينيّ مُحَفِّزٌ قوي بالفعل ومصدرٌ للثبات في العمل بالنسبة لهؤلاء المنتمين إلى حركة “الخدمة”.. لكن إليكم الجزء المثير بالنسبة لي: إن ما يسميه البعض بترجمة صوفية للإسلام يقوم على مبادئ الحب والخدمة والتسامح مع الآخرين، كما أشرت الحب والخدمة والتسامح مع الآخرين، كما أشرت سابقًا، ينبع الكثير منه أفكار “جلال الدين الرومي” شاعر القرن الثالث عشر والمحبوب في الحضارات الشرقية والغربية على حد سواء؟… فهذا ليس التفسير للإسلام ليس تفسيرًا داعشي متطرفًا.
الخدمة” حركة مدنية تتألف من أشخاص من مختلف مجالات العمل، معظمهم أتراك ولكنهم متنوعون الآن، حيث أصبحت الحركة تضم جنسيات عدة.
إن القيم التي يحثون عليها قيمٌ عالمية، وذات صدى على كل المعتقدات العامة، وعلى الأشخاص غير المتدينين ذوي الاهتمام الاجتماعي. وأخيرًا، لم أر بعدُ أحدًا من أعضاء حركة “الخدمة” يحاول أن يفرض على أحدٍ الدخولَ في الإسلام.. فالدين ليس جزءًا من المناهج الدراسية في المدارس التركية، وفي الخارج يتمسكون بكل صرامة بالإرشادات التعليمية لتلك البلدان.. نظرًا لما رأيت حتى الآن، أصبح من الصعب بالنسبة لي أن أصف حركة “الخدمة” بأنها حركة دينية، وأصعب منه أن أصفها بأنها منظمة سرية.. فنشاطهم ملموسٌ وواضح، وينصب تركيزه على التوعية الاجتماعية وبناء مجتمعات أكثر تسامحًا ومسالمة.
ومع ذلك فإن هناك جانبين من شأنهما أن يثيرا الشكوك في صدور العديد من الناس، وعلى الجانب الشخصي استغرقا مني وقتًا طويلاً لفهمها.. السؤال الأول: الذي يطرح نفسه هو، من أين يأتي تمويلُ كل تلك الأعمال؟
السؤال الثاني: حيث يراودني شكي من جديد- هو حقًّا لماذا يفعلون كل هذا؟ أعتقد أن تلك الأسئلة تعكس محيطيَ المجتمعي والثقافي.
كان الانقلاب سببًا في وفاة ما يقرب من (290 وزيادة)، ويبدو أن الأسوأ لم ينته بعد، فقد تم القبض على ما يقرب من (3000) عضو في الحربية، كما تم إيقاف حوالي (3000) قاضٍ ونائب عن العمل.
أولاً: يبدو أن المنتمين إلى حركة “الخدمة” يضربون مثالاً في الشعور الإيثاري لخدمة المجتمع، حيث لا يتوقعون جزاءً سوى أن يُكوّنوا عالمًا أفضل، بالطبع إنما هو مجتمع راضٍ ومتأصّل يتيح الفرص للجميع.
ثانيًا: يتلقى معظمهم دعمًا من خلال الترّعات والعمل التطوعي، بداية من الأفراد البسطاء الذين يساهمون بخمسة دولارات وحتى رجال الأعمال الناجحين الذين يساهمون بالآلاف على نحو منتظم..
وبالفعل من المتوقع أن تحقق مؤسسات مثل المدارس اكتفاءً ذاتيًّا، تسهم في النهاية على الوجه المأمول في مدٍّ وتوسيع الحركة.
من المحزن أنه من الصعب على معظمنا بلوغ هذا المستوى من الإيثار على النفس، والشعور بالمسؤولية الاجتماعية، والرؤية بعيدة المدى على الرغم من كوننا نتاج مجتمع يسمو على الفردية والمال والسلطة.
من الصادم أن الرئيس رجب طيب أردوغان قد اتهم تلك الحركة بدعمها لمحاولة الانقلاب بالإضافة إلى وصفها بالمؤسسات الإرهابية.
سياسيًّا، لم أتناول أيَّ جانب محدد للحركة يظهر هذا النوع من الطموح، فهي ليست هيئة سرية.. في أي مجتمع يتمتع بالحرية، يجب أن يكون المواطن المسؤول منخرطًا على وجه التحديد في مستوى سياسي ما.
ومع ذلك فقد أعلن الرئيس أردوغان-الإسلامي المحافظ- عن طموحاته السياسية.. فهو يمارس تفسيرًا خاصًّا بعض الشيء للديمقراطية، ويقوم بتركيز القوة في المنصب الرئاسي، ويتخلص بشكل منظم من الأصوات المعارضة، ويقوم باستمرار بتوسيع الصداع بين جماعات المجتمع التركي المختلفة، بالنسبة لي، يبدو هذا أكثر كتهديد لديمقراطية تركيا العلمانية.
مخاوف ومسؤوليات
إذا ما الذي يحدث عندما نضع شخصا أو مجموعة تحت التصنيف؟ كيف لنا أن نغير الطريقة التي يستقبلهم بها الآخرون؟ ما هولة تقبّلنا الكلمات الحماسية والعاطفية لهؤلاء الذين يطعنون في الناس ويتحدون عنهم بالسوء؟ هل لدينا المقدرة النقدية كي نميّز الحقيقة عندما نتعرّض لأي موقف وخصوصًا عندما يمثّل هذا الموقف مسألة حياة أو موت بالنسبة لشخص آخر؟
ـــــــــــــــــ
([1]) هذه الأرقام كانت في بداية أزمة الانقلاب، أما الآن فقد تضاعفت هذه الأرقام وزادت إحصائيات المعتقلين والمفصولين من أعمالهم والملاحقين قضائيًّا عن هذا بكثير.