تكاد أجندة تركيا لا تخلو يومًا واحدًا من الحديث عن حركة “الخدمة”، حيث تتعرض الحركة في الآونة الأخيرة لاتهامات من قبيل تدبير مؤامرة ضد الحكومة لمصلحة جهات أجنبية، وتشكيل تنظيم موازٍ داخل هيكل الدولة، وجمع معلوماتٍ ووثائق، وتسجيل مقاطع مصوّرة بشكل يخالف القانون والأخلاق، واستخدامها كوسيلة للابتزاز. ولا ريب في أن هذه الاتهامات الخطيرة لا يمكن التغاضي عنها، ولكن الأمر العجيب في هذه المسألة أن من كالوا هذه الاتهامات الخطيرة لم يستطيعوا أن يقدموا أي أدلة أو وثائق واقعية مقنعة يبرهنون بها على صحة هذه التهم حتى هذه اللحظة، كما أن المسؤولين الكبار من حركة “الخدمة” وعلى رأسهم الأستاذ فتح الله كولن يرفضون هذه الاتهامات جملةً وتفصيلًا وبشكل قاطع.
مخطط للقضاء على الخدمة
وترى حركة “الخدمة” أن الحزب الحاكم ينفذ مخططًا من أجل القضاء عليها منذ عام (2004م) وذلك بعد اتخاذ مجلس الأمن القومي التركي مجموعة من القرارات تصف حركة “الخدمة” بأنها “كيان يهدد الأمن القومي”، ومن جهتها تحاول الحركة الدفاع عن نفسها من خلال وسائل الإعلام التابعة لها.
ليس من الصواب توجيه انتقادات إلى حركة “الخدمة” في وقت تتعرض فيه لعمليات تهدف للقضاء عليها
والحزب الحاكم إذا تخلى عن تلفيق الأدلة وتزوير الوثائق التي يتهم من خلالها الحركة بأنها تهديد قومي يجب القضاء عليه، فإن الورقة الوحيدة التي يمكنه استخدامها لمحاربة الحركة هي اعتبارها حركة معارضة تستخدم وسائل الإعلام المقربة منها في استنكار الإجراءات التعسفية التي يتخذها الحزب الحاكم في الآونة الأخيرة.
استخلاص العبر
وأما أنا فقد بذلتُ كل ما بوسعي حتى لا يتضخم الخلاف الذي ذكرته آنفًا ويتسبب في حدوث فرقة بين أبناء الشعب الواحد في تركيا، وأعتقد أن هذه المسألة لم تكبر وتتفاقم لهذه الدرجة لو تحمل الكتّاب وأصحاب الرأي -الذين أؤمن ببصيرتهم- المسؤولية على عاتقهم وتدخلوا من أجل حل هذه المشكلة وإخماد “نار الفتنة”، وطبّقوا “مسألة التحكيم” الذي يأمر به الإسلام عند الخلاف، وما آمله الآن هو أن نتخطى نحن مسلمي تركيا هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.
ويقينًا بقوله تعالى: ﴿…وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/216)، فإن ما ظاهره القهر يمكن أن ينطوي على كثير من الخير، لذلك ينبغي للجميع أن يستخلص العبر من هذه الأزمة الدراماتيكية.. وأنا أؤمن بأن أتباع الحزب الحاكم سيستخلصون الدروس اللازمة من هذه الأحداث عاجلًا أو آجلًا، كما أن أتباع حركة “الخدمة” سيحللون هذه الأحداث بكل جوانبها.
هل حركة الخدمة بلا أخطاء؟
إن بعض قرائي الكرام يوجهون إليّ في هذه الأيام أسئلة منها: “لماذا لا تنتقد حركة “الخدمة” بقدر ما تنتقد الحزب الحاكم؟ وهل “الخدمة” في رأيك بريئة من أي اتهام ينسب إليها؟.. وأرد على هذه الأسئلة في النقاط التالية:
هناك محاولة دولية مدعومة من القوى الداخلية في تركيا تهدف إلى إخراج الوجود الإسلامي بالكامل من المؤسسات الحكومية وعزله تمامًا عن الحياة السياسية وتهميش وضعه في المجتمع بطرق غير شرعية.
أولًا: لا يسلم أي نشاط بشري من الخطأ، فالإنسان بطبيعته خطَّاء! ولم يُعصم أحد من الخطأ سوى الأنبياء والرسل عليهم السلام.
ثانيًا: وانطلاقًا من هذا المبدأ فإن حركة “الخدمة” أيضًا معرضة لارتكاب الأخطاء، وإن حلَّلت الحركة الأخطاء التي وقعت فيها اليوم تحليلًا دقيقًا وحاولت تلافيها واستخلصت منها العبر والدروس اللازمة؛ فستواصل طريقها بنجاح في المستقبل بعون الله تعالى.
ثالثًا: هناك بُعدان لحركة “الخدمة” يمكن أن نتناقش حولهما، وهذان البعدان يتلخصان في نقطتين أساسيتين الأولى: أسلوبها في خدمة الإسلام، والثانية: موقفها الاجتماعي ورؤيتها السياسية، فنحن في هذا الصدد نناقش المسألة من زاوية سياسية وليست من زاوية دينية، ولا نريد أن نقول إن أسلوب الحركة في خدمة الإسلام ليس قابلًا للنقاش، بل نريد أن نؤكد أن هذه المناقشة ليست مَهمَّةَ الذين لا يملكون القدر الكافي من المعرفة لمناقشة مثل هذه الأمور من السياسيين وكُتّاب الأعمدة.
ترى حركة “الخدمة” أن الحزب الحاكم ينفذ مخططًا من أجل القضاء عليها منذ عام (2004م) وذلك بعد اتخاذ مجلس الأمن القومي التركي مجموعة من القرارات تصف حركة “الخدمة” بأنها “كيان يهدد الأمن القومي.
وعندما ننتقل للحديث عن موقف “الخدمة” الاجتماعي والسياسي، أقول إنني قد عبرت عن أفكاري وبعض انتقاداتي حول حركة “الخدمة” في كتابي “الدين، المدينة والجماعة: نموذج فتح الله كولن” الذي نشر في عام (2007م) باللغة التركية، ومع أنني لا أزال متمسكًا بتلك الأفكار والانتقادات حول “الخدمة”، إلا أنني لا أوجه إليها انتقادات اليوم لسببين اثنين:
الأول: أنني أؤمن بأن هناك محاولة دولية مدعومة من القوى الداخلية في تركيا تهدف إلى إخراج الوجود الإسلامي بالكامل من المؤسسات الحكومية وعزله تمامًا عن الحياة السياسية وتهميش وضعه في المجتمع بطرق غير شرعية، وهناك مجموعة صغيرة داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم تتولى زمام الأمور في الحزب، وهذه المجموعة أشعلت فتيل هذه المحاولة بإعلان حرب شرسة على حركة “الخدمة” في وقت لم تكن الحركة تتوقع أنها ستتعرض لمثل هذه المحاولة على هذا النطاق الواسع، كما أن الحركات الدينية الأخرى بالإضافة إلى حزب العدالة والتنمية يدخلون ضمن المستهدفين بهذه المحاولة، وباختصار فإن القوى الدولية تخلّت في الآونة الأخيرة عن “مفهوم الإسلام المعتدل” وتدير حاليًّا مؤامرات ضد المتدينين بأيدي أناس يدّعون أنهم متدينون وأتباع الإسلام السياسي.
من كالوا الاتهامات الخطيرة لحركة الخدمة لم يستطيعوا أن يقدموا أي أدلة أو وثائق واقعية مقنعة يبرهنون بها على صحة هذه التهم حتى هذه اللحظة.
الثاني: أن انتقاد الأخطاء التي وقعت فيها حركة “الخدمة”، وهي على وشك أن تُذبح، هو بمثابة مساعدة للجزارين الذين يقدمون الأضاحي للقوى العالمية، شأنه في ذلك شأن الأزمة التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية عندما رُفعت دعوى ضده تهدف إلى إغلاقه عام (2007) فلم يكن صوابًا توجيه الانتقادات إليه في هذه الفترة الحرجة، وكذلك الحال مع حركة “الخدمة” فليس صوابًا توجيه انتقادات إليها في وقت تتعرض فيه لعمليات تهدف إلى القضاء عليها، لكننا في هذه الفترة الحرجة يمكننا توجيه النقد الخفي لها، وستوجه لها الانتقادات العلنية عندما تتخطى هذه الأزمة بسلام.
وهناك أمر آخر وهو أن الدعم الذي أقدِّمه لحركة “الخدمة” هو من منطلق الواجب الأخلاقي.. وإذا كان حزب العدالة والتنمية أو حركة الفكر الوطني أو جماعات النور أو السليمانيين أو الحركات الدينية الأخرى في تركيا في الموقف نفسه، لما ترددت في تقديم الدعم ذاته، وبالفعل وقفت بجانب هذه الحركات في جميع الظروف الحالكة التي مرت بها في الفترات الماضية، ومن ثم لا أريد أن يتعرض كلا الطرفين محبي حركة “الخدمة” أو أنصار حزب العدالة التنمية على السواء إلى أي ضرر بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد في الآونة الأخيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: علي بولاج، آمال كبيرة وحقائق مريرة قراءة في الواقع التركي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ181، 182، 183، 184، 185.
ملحوظة: العناوين الجانبية من تصرف المحرر.