روح التفاني هي أهم عامل في فلسفة الخدمة، وأهم أساس فيها، فضلاً عن أنها شريان الروح.
تكامل القيم الأخلاقية والانفتاح على الحياة الروحية والقلبية هو الحل الأساسي لكل مشكلات الإنسانية الحالية.
“وهكذا من الممكن حدوث انبعاثة حيوية تحت راية الربانيين الذين لا يفكرون في أنفسهم أبدًا وإن فكروا فإنهم يرون خلاصهم في خلاص الآخرين”.
إننا في حاجة إلى أناس روحانيين يتباكون لذنوب الأمة، وينتظرون غفران ذنوبهم مع غفران ذنوب جميع الإنسانية
يؤكد الأستاذ فتح الله كولن على أن الإنسانية اليوم بحاجة ماسة إلى مَن يمزجون حياتهم بروح التفاني، فيقول: “نعم، إننا في حاجة إلى أناس روحانيين يتباكون لذنوب الأمة، وينتظرون غفران ذنوبهم مع غفران ذنوب جميع الإنسانية يقفون عند الأعراف، ويعيشون متمتعين بجناتهم، ولا يستطيعون –حتى إذا دخلوا الجنة- أن يجدوا الوقت للتمتع بملذاتهم الشخصية؛ يحتاجون الصدق والإخلاص أكثر من أي شيء”.
إن سعادة وهناء أجيال الغد؛ هي نتاج أرواح وأنفاس فدائيي اليوم. إنه لمن الخيال أن ينتظر من باعوا أنفسهم للراحة والدعة اليوم مستقبلاً منتظمًا ومشرقًا ينبعث من تحت ركام الفتور. إن المستقبل ينمو ويترعرع في رحم الحاضر، وسيصل إلى قوامه واتساقه بالرضاعة من أثداء الحاضر ومثلما نقل وجودنا اليوم من آثار المس بجوانبه السيئة والجيدة؛ فإن الغد سيكون نسخة اليوم الاجتماعية التي تبتعد عن الفردية، وسيكون الغد أكثر تطورًا واستيعابًا للآخر.
يتمسك الأستاذ فتح الله كولن بشدة بإطار روح التفاني، ويوضح أن حقيقة المؤمنين مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالروح الأبدية، وأن سبيل الشعور بذلك يرتبط بالإعراض عن المناصب والجاه والإمكانيات الدنيوية والحرص على الأنانية والسعادة الفردية، بل حتى أحاسيس الفيوضات المعنوية. أما ما وعدوا به من التفاني من أجل الإنسانية الموعودة، فيوضحه كما يلي: “إذا استطاعوا تحقيق هذه الصلة والعلاقة؛ فإن عالم الغد سيكون العالم الذي تتوج فيه الرؤوس بالحق، وتحترم فيه الحقيقة، ويعاب فيه على فكرة القوة، ومفهوم المصلحة”.
تكامل القيم الأخلاقية والانفتاح على الحياة الروحية والقلبية هو الحل الأساسي لكل مشكلات الإنسانية الحالية.
إن الذين يؤمنون بالخدمة ويتبنون أفكارها التي تحتضن الإنسانية كلها بالحب والسلام، وتستقي أهدافها من عالمية الإسلام؛ يقدمون الخدمة- وقد نذروا أرواحهم لذلك- في كل مكان من العالم وفي القلب منها تركيا كمتطوعين وخادمين للإنسانية جمعاء.
يقدمون خدماتهم في معظم بقاع الأرض بروح التضحية والتفاني، وذلك في كل مؤسسات الخدمة من المدارس والجامعات وجمعيات رجال العمال وغيرها، فهناك من يعيش مضحيًّا في بلدان تقع في الصحراء الأفريقية في درجات حرارة تزيد على خمسين درجة، وآخرون يعيشون في جوٍّ شديد البرودة في سيبريا التي تقل حرارتها عن خمسين درجة تحت الصفر، ومنهم من لقى حتفه وهو يحاول إنقاذ طالب سقط في البحيرة وكاد أن يغرق، ومنهم من عاشوا على الخضروات التي زرعوها أمام بيوتهم حتى لا يفسحوا المجال لانقطاع الخدمة، رغم أنهم لم يتحصلوا لشهور على رواتبهم التي يتقاضونها بسبب المحنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كتاب مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية، مؤتمر جامعة الدول العربية، القاهرة، 19- 21 أكتوبر 2009م، صـ266/ 267/ 268.