يعتبر كولن العمرانَ مقتضى روحيًّا ووجوديًّا للإنسانية، وليس فقط تدرجًا مدنيًّا تَحقَّق عبر مراحل التاريخ، فالإنسان كائن ديني بطبعه، بدليل انسياقه الفطري إلى إنشاء ثقافة الدين، ولو في شكل طقوس بدائية.
ولأن كولن يؤمن بأن المدنيات -مطلقًا- تتأسس على دعامة دينية، راح يؤكد مرارًا علاقة الدين بالتمدن، ويشدد على حقيقة ترابط الدين بالعمران، فظهور العمران موصول عضويًّا بتَهيُّؤ الناس للشرط التعبدي “ولم تقم مدَنية من غير معبد ومعبود”؛ ذلك لأن الكائن البشري قد فُطر على روح التأليه؛ حيث حمل في أعماقه نوازع الإيمان بالإله المتواري في جلال ربوبيته عن الأنظار، فلذلك لبث الإنسان على مر الدهور يعنو بوجهه إلى الإله المعبود، ويشيّد المعابد، موصولاً على نحو أو آخر بالسماء، لا يكاد ينفك عنها. وحال الإنسان مع الدين ماضيًا، هي حاله مستقبلاً، “فلن يُنتزَعَ فكرُ المَعْبد والمعبود من قلب الإنسانية” مهما تقدمت، وأن “الوجدان يتفتح بالأمل على الله تعالى” في كل آنٍ ومكان، رغم عوارض الغفلة التي تطرق قلبه، والتي لا تدوم على كل حال، فطرة الله.
الإنسان كائن ديني بطبعه، بدليل انسياقه الفطري إلى إنشاء ثقافة الدين، ولو في شكل طقوس بدائية.
الإيمان والحضارة
لا ريب أن هذه المسلَّمة الفكرية التي يقررها كولن بخصوص مبدأ تلازم الحضارة مع شرط الإيمان، قد تعززت لديه نتيجة القراءة والاطلاع على تجارب الأمم وتاريخ البشرية، لاسيما ما أصَّلته أخبار القرآن عن سنن قيام الحضارات، وأفولها، وعلل الازدهار والاندحار التي لبثت تعرض للمدنيات والقرى الظالمة لنفسها. ولقد هيأ له المسجد مناخ التأمل في ظاهرة تتابع الحضارات، وفي قوانين بناء المدنيات، ولا يستبعد أن تكون مبادئ فكره الحضاري كما سجَّلها في كتابه “ونحن نبني حضارتنا”، وكتابه الآخر “ونحن نقيم صرح الروح”، وفي غيرهما، هي ثمار لِما لبث ينضجه وهو يأوي إلى المسجد، من آراء وخطرات، تولدت في روحه، وتأصلت، وباتت قناعة لها قوة النظرية.
يؤمن كولن بأن المدنيات -مطلقًا- تتأسس على دعامة دينية، ويشدد على حقيقة ترابط الدين بالعمران، فظهور العمران موصول عضويًّا بتَهيُّؤ الناس للشرط التعبدي
رجع صوت بلال
أجل، في صوت المآذن رجْعٌ نحاسي لصوت سيدنا بلال، بل في تشكل المئذنة هارمونيك يجسد صائتة بلال (رضي الله عنه) ولم تجنح صوامعنا إلى التعالي، إلا لأن الأذان يؤدَّى عندنا بالصوت لا بالآلة (الناقوس) فمن صدر كل مؤذن تنبعث جوقة من الأصوات مرفرفة، مخترقة الفضاء، تنشد التحليق بعيدًا، لتُسمع كل حي.
يعتبر كولن العمرانَ مقتضى روحيًّا ووجوديًّا للإنسانية، وليس فقط تدرجًا مدنيًّا تَحقَّق عبر مراحل التاريخ.
المئذنة سلم صولفاجي
لا ريب أن معمار المآذن الإسلامية قد تشكل على إيقاع ذلك الصولفاج الذي توارثته أجيال المؤذنين عن عميدهم الأول بلال. بل إن كل مئذنة هي بلال. وما حُوربت المآذن إلا لأن الآخر توسم فيها طلعة سمراء لصحابي عاش في ظل أرشتكتور الصُّفة، ورشحته الحظوة الإلهية ليكون (سوبرانو) محمديًّا. ولقد تطبع المسلم على أن يرى في المئذنة سلمًا صولفاجيا، قبل أن يراها معمارًا يطاول السماء. وعلّمه الإسلام أن يثوب إلى الخشوع وهو على مدى من المسجد، فنداء المؤذن يحمل إلى النفس ما يرحل بها عما هي فيه، حتى الفاسق؛ إذا ترقرق الأذان في سمعه آذاه، وسبَّب له القلق.
“إن هذه الأصوات المرتفعة من المعبد نشعر بها وهي تفيض من قلوبنا كصرخة مدوية، فنحس وكأن قبة قلوبنا قد خُرقت أو ثُقبت، فنكاد نغيب عن أنفسنا”.
يؤمن كولن أن المدنيات -مطلقًا- تتأسس على دعامة دينية، ويشدد على حقيقة ترابط الدين بالعمران، فظهور العمران موصول عضويًّا بتَهيُّؤ الناس للشرط التعبدي.
جو المسجد يعيشه المسلم حتى خارج المبنى؛ لأن نهار الأمة مزركش بنوبة تؤديها جوقة خمس مرات في اليوم.. “في كل مرة من هذه المرات التي تغمرنا فيها هذه الأحاسيس.. يبدو لنا وكأننا نشاهد صور جمال عوالم أخرى مجهولة من المنافذ المنفتحة على أعين قلوبنا”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ1، ٢٠١2، ص: 79
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.