كما هو حال فتح الله كُولَنْ في العديد من المواضيع نجدُه -بين الحين والآخر- يُخرِجُ أفكارَه الاقتصادية للرأي العام ليقيّمها وينظر فيها، والتي حين نتناولها وندرسها بصورة كلّية ومتكاملة حيويّة نجدها -رغم أنها ليست أفكارَ متخصّصٍ في الاقتصاد- بمثابة مجموعة من المبادئِ العامّة التي تخصُّ الجانب الاقتصادي من حركته وعمله؛ فمثلًا في مقالته المعنونة بـما ترجمَتُه “التآكلات وروح الأمة” المنشورة في العدد رقم (110) من مجلة “سزينتي” التركية بتاريخ مارس/آذار من عام (1988م) يؤكّد على ضرورة إعمار تركيا بدءًا “من أكبر المدن إلى أصغر القصاب، ومنها إلى أبعد قرية فيها”، ولأجل ذلك لا بدّ من إضافة أبعادٍ جديدة على القضايا الاجتماعية الاقتصادية المتوارَثة منذ عصور، والانتباه إلى الظروف العالمية المتنامية، وإضافة أبعادٍ جديدة كذلك إلى حياتنا الفكرية وإيجاد الحلول، ويقول ما يأتي:
يرى كولن أن التاجر والحرفي ينبغي له أن يكون عذبَ اللسان طلقَ الوجه متواضعًا، صادقًا في كلامه، لا يسأم ولا يضجر.
“لا بد من إضافة أبعاد جديدة إلى الزراعة عبر استخدام التقنية الحديثة، والبلوغ بالصناعة إلى المستوى الذي تتنافس فيه مع البلاد المتقدّمة، التي رادَت فيها بواسطة السعي والكدّ سنين عددًا، وينبغي الاستفادة من ثرواتنا سواء الكامنة منها في باطن الأرض أو التي على سطحها، وتقديمُها ليستفيد منها أهلونا، ولا بد كذلك أن تنطلق من عندنا أفواجًا أفواجًا قوافلُ التصدير متّجهةً إلى كلّ أنحاء العالم، ومهما كانت التكلفة فإنه ينبغي لعُملتنا أن تأخذ مكانها اللائق بها في أسواق المال العالمية؛ ولا بد أن تُحَقّقَ دون تأخيرٍ تلك الوعودُ المبذولةُ منذ سنوات من قبيل: “تقوية الأمة”، و”رفع مستوى الرفاهية والمعيشة لدى الشعب” .
لا بد أن تنطلق من عندنا أفواجًا أفواجًا قوافلُ التصدير متّجهةً إلى كلّ أنحاء العالم، ومهما كانت التكلفة فإنه ينبغي لعُملتنا أن تأخذ مكانها اللائق بها في أسواق المال.
دعوة للثراء في إطار الشرع
وفي تقييم آخر له يقول فتح الله كُولَنْ:
“ينبغي لكلِّ مؤمن أنْ يَجِدَ سبيلًا للثراء؛ على أن يكون ذلك في إطار دائرة الشرع، وينبغي كذلك دمجُ الثروات إنْ لزم الأمر، ولا بد من السير نحو الاستثمار في كل أنواع الاستثمار السائدة، والمفتوحة للمنافسة في الداخل والخارج، ويلزم ألا تُنسى التأثيرات الاقتصادية في هذا الشأن من أجل احتضان الأجيال القادمة وتحويل الزمان بكلِّ جوانبه لصالحنا عبر أشخاص مربّينَ ومزودين بالعلوم الدينية والطبيعية، فكلُّ سببٍ مشروعٍ في طريق الخير وكل سببٍ يؤدي إلى ذلك الخير هو عبادةٌ” .
الاقتصاد المبني على النظرية العلمية
وعلى صعيدٍ آخر نجد فتح الله كُولَنْ يركّز على بعض الشروط الأساسية السارية بالنسبة للجميع في كل مكان وزمان؛ فوفقًا له سيكونُ دور التجارة المستقبلية وما تبشّر به من أشياء أكثرَ من التوقعات المنتظرة في المستقبل بكثيرٍ من الوقت الراهن، وكما هو الحال في كل شيء؛ فإن للعلم والتخصّص في التجارة والحرفة أهميةً عظيمةً، ومع هذا ينبغي ألا يُنسى أن هاتين الحرفتين تعتمدان أساسًا على التلمذة والتدريب الصناعي، وفي الكتب كمٌّ هائلٌ من المسائل المشروحة تكشف أنه من غير المتوقّع أنْ يتحقق المأمول والمنتظر ما لم يقِف المتعلّمُ الماهرُ والحرفيُّ المتدربُ على جَوهَرِ وجَوهَرَةِ المهارة.
لا بد من إضافة أبعاد جديدة إلى الزراعة عبر استخدام التقنية الحديثة، والبلوغ بالصناعة إلى المستوى الذي تتنافس فيه مع البلاد المتقدّمة.
أخلاقيات العملية الاقتصادية
وفتح الله كُولَنْ الذي يرى في ضوء بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنَّ “ما يقضيه التاجر من وقتٍ في شؤون تجارته وهو يراعي الحلال والحرام إنّما هو محض عبادة”؛ يؤكد على أن الاستقامة والأمانة وإدراكَ روح العصر الحالي والتصرف بكل لباقة وأدب مع الزبائن هو روحُ التجارة، كما يرى أن التاجر والحرفي ينبغي له أن يكون عذبَ اللسان طلقَ الوجه متواضعًا، صادقًا في كلامه، لا يسأم ولا يضجر، ويركز كُولَنْ على نقطة أخرى مهمّة في موضوع التجارة؛ إذ يقول:
“الذين يفتحون أماكن عملهم قبل ساعة من المعتاد، ويغلقونها بعد ساعة من المعتاد يجعلون أيام أشهرهم خمسةً وثلاثين يومًا وأيام سنتهم أربعمائة وعشرين يومًا…” .
وفقًا لكولن سيكونُ دور التجارة المستقبلية وما تبشّر به من أشياء أكثرَ من التوقعات المنتظرة في المستقبل بكثيرٍ من الوقت الراهن.
الانفتاح الاقتصادي على العالم
وقد أوصى فتح الله كُولَنْ رجال الأعمال المبادرين بالانفتاح على الخارج أيضًا في المجال الاقتصادي إلى جانب المجال التعليمي؛ ومن ذلك على سبيل المثال كلماته الآتية المتعلقة بالانفتاح على آسيا الوسطى:
“لقد تأخّرنا كثيرًا في الانفتاح على آسيا الوسطى، ولا سيما في المجالين التجاري والصناعي؛ فقد تعذَّر علينا أن ننجح في كلا المجالين السابقين بقدر ما وُفِّقْنَا ونجحْنا في المجال التربوي والتعليمي… ينبغي للدولة أن تتناول هذا الموضوع وتهتمّ به بشكل أعمق، أي إنَّه كان ينبغي لها أن تُنْشئَ مكاتب استشارية، وتسهم في التنظيمات القانونية، وتقدم تسهيلات وتيسيرات لمن سيذهب إلى هناك ويستثمر من رجال أعمالنا، وتبرم اتفاقيّات دولية، ولكن إنْ كانت هذه المسألةُ لا تُدرسُ على مستوى الدولة، فإننا كأمة وشعب يلزمنا أن نفعل ما يقع على عاتقنا من مسؤولية أو ما زلنا نستطيع فعله؛ فكل ثانية تمرّ هباءً في هذا السبيل خسارةٌ عظيمةٌ” .
ينبغي لكلِّ مؤمن أنْ يَجِدَ سبيلًا للثراء؛ على أن يكون ذلك في إطار دائرة الشرع.
نجاحات تحققت
لقد دَاومَ فتح الله كُولَنْ على نُصحِ المبادرين الأتراك في مجالي التعليم والاقتصاد على حدٍّ سواء، في سبيل الوصول إلى مثل هذه الغاية، ووجَّهَ ما يحظى به من احترام لدى الرأي العام إلى خدمة هذا الوطن، ومِنْ ثمَّ فإنَّ بعضَ الذين اهتمّوا بتوصياته وتحركوا بناء على ثقتهم به حقّقوا أنشطة في المجالين التربوي التعليمي والاقتصادي داخل تركيا وخارجها، وما زالوا يحققون وفقًا لمعايير محدّدة، ومن ثمّ فلا بدَّ أنْ يُبحث في هذه المبادرات عن تمويل تلكَ المدارسِ الذي جُعل موضوعًا للتخمينات والتكهّنات المغرضة من قِبَلِ البعض في تركيا؛ فالعديدُ من المبادرين الأتراك الراجين الفوز برضا الله تعالى وبالآخرة المفكرين في مصلحة الإنسانية أفرزوا -دون أن يكون للدولة أيُّ إسهامٍ ماديٍّ في ذلك- حركةً مِن المتطوعين تسير على الخطّ الذي جعلوا فيه التنافسَ في الخير فلسفتَهم في الحياة، ولذا فإنَّ تواجُد أناس من مختلف الأفكار بين أفراد هذه الحركة ينبغي ألا تُحيّرنا على الإطلاق.
بعض الذين اهتمّوا بتوصيات كولن وتحركوا بناء على ثقتهم به حقّقوا نجاحات في المجالين التربوي التعليمي والاقتصادي داخل تركيا وخارجها.
وعلى هذا فإنَّه يمكن القول إنَّه قد بدأت مرحلةٌ من التعبئة والتعاون في التعليم التطوّعيّ، وفي الناحية الاقتصادية كذلك وإن لم تكن بقدر ما في المجال التعليمي، ويُركّز “خلوصي طُورْغُتْ” على هذه النقطة أيضًا في سلسلة مقالاته السالفة الذكر فيقول:
“إن الفِرقَ والمجموعات الصارفة جهدًا غير عادي من أجل افتتاح المدارس في الجمهوريات التركية بآسيا الوسطى والقوقاز ودول الستار الحديدي أقامت علاقات طيبةً مع البيروقراطيّين، حيث ذهبت إليهم ونالت ثقتهم في فترة زمنيّة وجيزة.
يرى كولن أنَّ ما يقضيه التاجر من وقتٍ في شؤون تجارته وهو يراعي الحلال والحرام إنّما هو محض عبادة.
وفي تلك الأثناء كان مؤسّسو المدارس الذين ساعدوا المبادرين القادمين من تركيا إلى بلادهم للعمل يوفّرون لهم أفضل ما يملكون من إمكانيات، وكان من المتوقّع أن يبدأ رجال الأعمال هؤلاء في ربح أموال جيّدة مع مرور الوقت، فيسعون بكلِّ مودّة وعن طِيبِ خاطر لسدِّ العجز في تمويل تلك المدارس، وبإيجاز فإنَّ مموّلي المدارس الموجودة في الخارج سينتهجون المنهجَ ذاته.
وقد أُسِّست شركاتٌ للمدارس المنتشرة في خمس قارات من العالم، وراجعت هذه الشركات وزارةَ التربية والتعليم التركية بشأن المدارس التي ستفتتحها بالخارج، وحصلت على التصاريح اللازمة، وفي إثرِ ذلك برزَ مربُّون سيتولون المهمة، واختير المدرِّسون من بين الشباب خِرِّيجي أحسن جامعات بلدنا”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ168/ 169/ 170/ 171/ 172.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.