فيمَ تختلف الأيديولوجية بمظهرها عن الدين الحق؟ وهل الإنسان المتديّن إنسان متأدلج بالفعل؟. تتميز الأيديولوجية بالصبغة الاعتدادية، وبالمخصوصية العرقية، والوطنية، والفكرية؛ أمّا الدين الحق فشمولي الروحية، يتعالى عن المخصوصية، وينفتح على العالمية، فهو إنساني بتطبيقاته واجتهاداته. من هنا يضحى الفرد المتدين (بالدين الحق) فردًا إنسانيًّا في روحه وأخلاقه وقناعاته، وإذا لم يستطع أن يبلغ هذا المستوى من التسامي، ظلّ تديّنه صوريًّا، ناقصًا.

تعتمد العقيدة الأيديولوجية مدوّنة ترجح الكيانات والخصوصيات الفئويّة المغلقة، وتعطيها الأولوية على ما سواها، بينما المدونة الدينية القدسية تضع الإنسان -مطلقا- في صدارة توجهاتها، وتحدد مشروطية إنسانيته

أممية الإسلام

لقد تميّز الإسلام بطابعه الأممي، حيث لا يقصر الله تعالي ربوبيته على عرق مخصوص، حيث إن المخاطَب في الإسلام هو الإنسان مطلقًا: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(الانْفِطَار:6-8)؛ وحيث إنّ سمة “مسلم” تطلق -في الحقيقة القرآنية- على كلّ مَن يتّبع نهج التوحيد الذي شقّ طريقه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وتَوّجه خاتمُ المصطفين محمد صلي الله عليه وسلم. لذا كان – وسيكون- الإسلام بالنسبة للبشَرية هو الدين الأرحب المفتوح في وجه الأمم بسماحته وأصالة ضوابطه؛ ولذا أيضا كانت الدعوة والتبليغ من واجبات المسلم مهما كان مستواه، ينهض بها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، لا لأجل تحقيق مطمح عرقي، أو مأرب كسبي، أو مقصد اعتباري، وإنما رحمة للعالمين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107)، فالمخاطب هنا هو النبي وهو – بالتبعية الإيمانية- كلّ فرد من أمّته تَمثَّلَ العقيدةَ، وبلَغ درجة الإحسان.

 العقيدة الأيديولوجية

تعتمد العقيدة الأيديولوجية مدوّنة ترجح الكيانات والخصوصيات الفئويّة المغلقة، وتعطيها الأولوية على ما سواها، بينما المدونة الدينية القدسية تضع الإنسان -مطلقا- في صدارة توجهاتها، وتحدد مشروطية إنسانيته على صعيدَين اثنين:

الصعيد الأول: إرساء علاقة العبودية مع الله رب العالمين، الأمر الذي يرسخ حرية الإنسان وعدم خضوعه لأيّ قوة أخرى في الكون مادية ومعنوية، إلا قوّة الله، فهو الموجد والرازق والمحيي والمميت.

الصعيد الثاني: تأكيد المآل الأخروي للمخلوق البشَري، الأمر الذي يجعل الإنسان يعيش الدنيا بوصاية أخلاقية حيال الكون، ومن غير ما تهافت أو تهتك، إلا إذا زاغ وضلّ واعتبر تجربة الوجود تجربة عبث لا طائل من ورائها. فبالإيمان يستشعر الإنسان أنه مسافر، وأنه لا محالة سيعود إلى موطنه، فهو -من ثمة- أحرص على أن يرجع غانِمًا.

إنّ مِن شأن إرساء هذه الروحية الأخروية في الضمير الإنساني، أن يجعل الإنسان يعيش الحياة بفكر مسئول وروح محتسبة، وهذا من خلال إيقانه من أنّ رحلته الدنيوية هي مجرّد مقدمة لاستقرار أبَدي، مصيري، يتلقى فيه الجزاء عما قدّم من عمل (صالح أو غير صالح).

تتميز الأيديولوجية بالصبغة الاعتدادية، وبالمخصوصية العرقية، والوطنية، والفكرية؛ أمّا الدين الحق فشمولي الروحية، يتعالى عن المخصوصية، وينفتح على العالمية، فهو إنساني بتطبيقاته واجتهاداته.

ويبقي الفارق الجوهري هو أن المدونة الأيديولوجية تشرطها الرؤية القيمية المنغلقة، فتظلّ معاقة عن التفتّح على الآخرين. فهذه الرؤية حتى لو حاولت أن تتطور في اتّجاه إنساني سمح، فستظل عرضة للتفكك، لأن كل مسعى يهدف إلى التخفف من الصبغة الأصولية يغدو علّة انشقاق بين الأتباع، ينتهي بالمجددين إما بالخروج عن مبادئ الأيديولوجية، وإما بالتكمّش والبقاء في شكل مجاميع محصورة المساحة، لا تأثير لها، ومصيرها مجهول.

——————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ31-34.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.