إن الإيمان بالله هو حجَر الزاوية في بناء النهضات وصَوْن المدَنيات. وإن دور الرادة والقادة أمر حاسم في تأهيب الجماهير، والمضيّ بهم على طريق اليقظة والعمل. ولا يكون الفرد مؤهّلا للقيادة ما لم تكن له أسهم رابحة في بورصة الإيمان ومخافة الله.
لبث كولن يستقرئ سجل الانعطافات التاريخية المجيدة، تلك التي كتبت فيها الأمّة التركية صفحات من العزة والمآثر، فرآها جميعا تتحقق على يد أفذاذ صهرهم الدين الحنيف في بوتقته المطهِّرة، واستصفتهم العبادة الخالصة، وجعلتهم خُلَّصًا مثل ذوْبِ الإبريز. رتبة سامقة من التحوّل الروحي أدركوها، وانطلقوا بها، يحملون الراية، ويصنعون العزّ.
لقد لعبت التنشئة الدينية دورًا بارزًا في تخريج قادة أفذاذ عباقرةً.
أثر التنشئة الدينية
لقد لعبت التنشئة الدينية دورًا بارزًا في تخريج أولئك الأفذاذ قادةً عباقرةً. ارتقت بهم أعمالهم الجهادية والفكرية والتعميرية إلى منْزلة من السموّ، بات بها كلٌّ منهم ملمحا في الهوية الجمعية، وعلامة حيّة في ضمير الأمة، وعينة ألماسية في تراثها التليد.
فأثر التنشئة الإسلامية وصقْلُها لأروح أولئك القادة، أثر بارز، وخَتْمُها لمهجهم ختم جلي، إذ إن ترقرق ماء الإيمان بأعماقهم رجح فيهم الشمم، وعزز ملكة التأبي، وحدد لديهم الذهنية والتفكير، وقوَّى قابلية التدبير، وأرهف فيهم عزيمة الإنجاز، فباتوا استراتيجيّين من طراز خاص. وأهمّ الحظوظ التي تهبها الحياة والتاريخ للشعوب والأمم، أن تضع على رأسها الرجل التّقي، الفذّ، يقطع بها الأشواط، وينجز المآثر. والمؤكد أن قوة الفرد -مهما كان حجمها- لا تصنع التاريخ بمفردها، إنما الجموع المرشدة بالقيادة الحكيمة هي التي تحقق الوثبات. وحدهم الأنبياء تسددهم العناية الإلهية فترسم لهم طريق الاستقطاب، وتملأ قلوبهم بما يثبّتهم ويجعلهم أقدر على المكابدة وتجاوز الامتحانات. إنما قوة الأفذاذ أهل العزم، حين تتوطّد، تغدو بمثابة الشمس.. لطفها يشمل المدى ويصيب الجموع، فتشتحن القلوب بالطاقة، وتتأهب، وتتحرك إلى الفعل والبناء.
الإيمان، ودهاء القيادة:
لا مشاحَّة في أن تأجُّجَ الإيمان في روح أولي العزم من صُناع التاريخ محطة توليد، تغذّي المَواطن كلها بالنور. وأهم سمة تميز الشخصية التاريخية المؤمنة، الدهاء في القيادة، والمرابطة على فعل الصالحات. وحقيقة الدهاء أنه اقتدار غير محدود على تَرَسُّم الخطط واستشراف الطرق والمخارج والكيفيات التي تضمن الغنم والنجاح في الرهانات.. وحين تتأصل ملكة التفكير في الفرد -والجماعة- يضحى في الإمكان التفلّت من أي مأزق يطرأ، والتخلّص من أي ضاغط يعرض؛ إذ ليست العبقرية إلا هذا اليسر الذي ننفذ به جليل التصورات، ونَحْفُر باهر النقوش.
مثلما يتهيأ الفرد للرفعة والتفوق بالسجايا والتنشئة، تتهيأ الأمم بدورها للمجد والعظمة بالتربية وتوطين الإنسان على التجنُّد المتواصل واقتحام المخاطر.
وحيثما دار القلم في يد العبقري لاحت له في عين البصيرة كاتالوغات لا تعد من المشاهد والصور والتشكيلات المعبرة.. “العبقري صاحب فطرة خارقة يجمع في روحه قوى تتحمل فوق أكتافها أمورا كثيرة بموهبة إلهية، وبسائق وشائق لدنّي، فيحتضن بها حاجات محيطه الظاهرية والباطنية والروحية والاجتماعية بأعمق أغوارها، وأوسع حدودها”[1] العبقرية فانْتازيا تنتزع منا الدهش في أي وضع بدت، وعلى أي هيئة ظهرت. ومثلما يتهيأ الفرد للرفعة والتفوق بالسجايا والتنشئة، تتهيأ الأمم بدورها للمجد والعظمة بالتربية وتوطين الإنسان على التجنُّد المتواصل واقتحام المخاطر في وجه كل مفخرة..
—————————————————————
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 64-66.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح، صـ79.