تحفل كتابات كولن بصور تحيل إلى المعمار، كما ينفتح خطابه كذلك على معجم الهندسة، بحيث تتواتر الإحالة إلى مفاهيم قياسية ينجز الفكر بواسطتها مقاصده. فالخط والدائرة، والمحيط والامتداد والنقطة، والبداية والنهاية، والهندسة والمهندس، والرحابة والمساحة، والمسافة والسُّمك والسموق وغيرها من مصطلحات التخطيط، تمثل رافدًا ملحوظًا في كتابات كولن.. إذ إننا نشعر أن توظيفها يجعل الخطاب يتجهز بطاقة إفادية ملموسة. ومن المؤكد أن العبرة في مجال التداول ليست بالكمّ أو بحجم التواتر الذي يأخذه دالّ من الدوال، أو مفردة من المفردات المستقاة من حقلٍ ما من حقول المعرفة، وإنما العبرة بما يكون لذلك الدال أو تلك المفردة من وزن إفصاحي، وتمَيُّزٌ تعبيري موصول بالعمق النفسي للكاتب. ذلك أن الشأن بالنسبة إلى المفاهيم والألفاظ المفتاحية، ليس في الرواج فحسب، وإنما في الصدى ومستوى الاستقطاب الذي يتحقق للدال في سياقات الخطاب، من هنا لاحظنا في كتابات كولن أن معجم المساحة والقياس له حضوره، وقوة إفادته، نتيجة الحس التوظيفي المعبر، الذي استُخدِم به ذلك القطاع المعجمي.
لاحظنا في كتابات كولن أن معجم المساحة والقياس له حضوره، وقوة إفادته، نتيجة الحس التوظيفي المعبر، الذي استُخدِم به ذلك القطاع المعجمي.
رحبات المسجد واتساع حس الاستعارة
ومن الملاحظ أيضا أن مساكنتُه رحبات المسجد قد نمَّتْ في ذائقته قدرة تمثُّلية متأثرة بالفن المعماري؛ بحيث اتسع حس الاستعارة لديه، وباتت التعبيرية تجانس بين المعاني الذهنية والتمثلات الحسية، وتعرض الصور في تشكيلات ذات منحى أرشتكتوري لا تخفى مرجعيته. فحين يتحدث -مثلاً- عن التلال الزمردية (وهو عنوان كتاب له( فإنه يعبر عن أفق روحي واستشرافات قلبية، هي من مولدات التخيل الماورائي الذي طالما أحال إليه أدباء قلبيون، لكن التخريج الحسي الذي ينجز فيه كولن هذه “الصورة- المعنى”، هو تخريج جلي الصبغة الأرشتكتورية؛ إذ لا يتعسر على القارئ أن يجد التناسب قائمًا وعضويًّا بين صورة التلال كما تظهر في الطبيعة، وبين قباب المساجد العثمانية في تقوسها وتدرجها في المشهد.
إن مساكنة كولن رحبات المسجد قد نمَّتْ في ذائقته قدرة تمثُّلية متأثرة بالفن المعماري؛ بحيث اتسع حس الاستعارة لديه، وباتت التعبيرية تجانس بين المعاني الذهنية والتمثلات الحسية.
نفس الذائقة تعرب عنها مخاطبات لافتة في كتاباته، من ذلك عنوان كتابه الآخر “ونحن نقيم صرح الروح”؛ إذ الصرح من صميم حقل الأرشتكتور، ولكن إضافته إلى “الروح” وهي معنى مجرد، يجعل من عبارة “نقيم صرح الروح” صورة مجازية، مُشْرَبَةٌ بالمعمار.
ولسنا هنا في موقف الزعم بأن خطاب كولن استثمر المعجمية الهندسية وحدها، ورجّحها على ما سواها، أو أن التأثر المعماري صاغ وحده ذهنيته وذائقته، كلا؛ لأننا نعلم أن الخطاب الفكري الحديث بات مفتوحًا على المعارف جملة، وأن المفكر هو مثقف ممتاز يتعاطى المعارف بأجناسها، فهو بطبيعته الموسوعية، يتفاعل مع مختلف الأجناس، ويوظف منها ما يقتضيه المقام، سواء بالمَتْح من معين لغتها واصطلاحها، أو باستعارة قوانينها ومعلوماتها.
المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، ٢٠١2، صـ 83 و 73
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.