نعيش في عصر سُمي بعصر “الحداثة modernism، وما بعد الحداثة  Post-modernism” ومن سماته: “تحرير الإنسان والفكر البشرى من الاتجاهات والمسلمات (حضارية أو قومية أو إنسانية أو دينية)، بل ومن دعاوى العقلانية، والموضوعية، والمثالية”. تلك المبادئ التي سادت منذ عصر “التنوير”. ويذهب إلى أنه “لا توجد حقيقة موضوعية مجردة، أو سردية عليا/ كبرى في الخارج (خارج الإنسان) تستحق عناء البحث عنها، والتمسك بها، فهو ينزع القداسة عن العالم، وهذا من شأنه إخضاع كل الأفكار والمعتقدات والقيم للتساؤل والشك”. وتفتقد أفكار ما بعد الحداثة اليقين في كل شئ، فليس ثمة ما يمكن الحكم عليه بالصواب والخطأ، وإن نحا أصحابها إلى حقيقة موضوعية فيقولون بوجودها “على السطح” وليس تحته، إيمانا منهم بالمشاهد المحسوس فقط. وتأكيدهم على ثقافة المادة، و”السيولة” القيمية، و”النسبية” الأخلاقية و”الواقعية” النفعية.

من خصائص فكر “كولن”: قابليته الفذة للتحول من طاقة فكرية مشعة إلى صروح مؤسساتية واقعية.

هذه التلاطمات الثقافية الكونية، و”الوهن” الذي عليه مجتمعاتنا المسلمة، يجعلان وجدان أمتنا أشد ظمأ إلى التأصيل، وأكثر شوقا إلى التميز. لأن “ضمير الأمة المؤصلة بتعاليم عقيدتها، مهما ضغطته التردياتُ يظل يصطنع، وبوازع من التأبي، ما وسعه اصطناعه من أسباب الارتباط بالجذور، إنْ على مستوى الثقافة، أو على مستوى العقيدة، أو على مستوى بقية منابع الهوية”.

فأين موقع الأستاذ “فتح الله كولن” في “عصر الرهان على التموقعات المستقبلية الحاسمة، وحتمية الاستيعابً لمعطيات الوقت، والإدراكً الواعي لمقتضيات المرحلة، والمتطلّبات التي تستلزمها سلامة النهج، ورشدية الحراك والتوجه”؟. لقد أهّلتْ مسيرة الأستاذ “كولن” أن تلفت الأنظار، وتستقطب الجهود بكفاءاتها، ورهاناتها الشمولية، وعطاءاتها العملية، ومحظوظيتها الصلاحية”. وذلك بالأخذ بعين الاعتبار أن المفكر اليوم هو: “فيلسوف بأصالة الاشتغال العقلي.. فقيه بحتمية المراس الضمني الاجتهادي.. خبير استراتيجي بحكم الاهتمام الاستشرافي”.

في ابستمولوجيا فكر “كولن”:

“الفكر” هو: “الفاعلية الذهنية التي تستهدف فهم الحياة والوجود، واستقراء الوقائع الموصولة بالإنسان، وماهيته الوجودية. وغاية ذلك الفهم هي بناء رؤى معرفية تسهم في ضبط الظواهر المتنوعة، بقصد تَهْييئ نوع من الأمان للإنسان في رحلته في هذا الكون”.

لقد أهّلتْ مسيرة الأستاذ “كولن” أن تلفت الأنظار، وتستقطب الجهود بكفاءاتها، ورهاناتها الشمولية، وعطاءاتها العملية، ومحظوظيتها الصلاحية.

وكل كلمة خطها قلم “كولن” في كتاباته، أو نطقها لسانه في مواعظه، ما هي إلا لبنة من لبنات الصرح المعماري لفكره السامق. ولقد قامت فلسفته علي الإيمان بأن عمل المفكر عمل بنائي بالأساس”. ويقول: “إن الإيمان العميق يمكّن المادةَ “الجسدَ” من أن تتقمص الروح ويمكّن الروحَ “الفكرةَ” من أن تتقمص المادة، وبذلك تستحيل الفكرة يدًا تبني، وظهرًا ينقل، وجارفة تحفر، وجموعًا تنجز، وهيئات تتابع وتموّن. هذا بعض ما تمثل به الأستاذ “كولن” دور رافعة القرآن في تحقيق الفرد الفاعل، والمجتمع الناهض. فالحضارة أولها فكر، وآخرها علم، وما بينهما كفاح وإرادة وعزم.

كل كلمة خطها قلم “كولن” في كتاباته، أو نطقها لسانه في مواعظه، ما هي إلا “لبنة من لبنات الصرح المعماري لفكره السامق”.

فمن خصائص فكر “كولن”: قابليته الفذة للتحول من طاقة فكرية مشعة إلى صروح مؤسساتية واقعية. ولقد وضع “كولن” خطوطه الفكرية الحضارية العامة في كتابيه القيمين: “ونحن نبني حضارتنا”، و”ونحن نقيم صرح الروح”. فالحضارات عنده: “تخوض صراعاتها من أجل الرغبة في التأكيد على الذات، والاستقلالية والتفرّد. وتعتمد هذه التجليات على قدرات المسلم فى تغيير نفسه، وتجديدها، وإدراكه أبعاد الفكرة التي تقول بانتماء الإنسان إلى نظام كوني عظيم”. وهنا يقف “كولن” بالضد من المحاولات المحمومة التي تريد استلاب شخصية المسلم وتذويب استقلاليته، ولا يزال “كولن” يعلن في كتاباته بأنه “يمثل حلقة ضمن سلسلة ذهبية من الأسلاف المباركين انبثوا عبر العهود والمراحل، وعاشوا متفرغين للكدح والتنسك والدعوة إلى الله، وإرساء أسس الإحسان، وخدمة الأمة.

—————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، المقدمة، حتي ص:23.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts