إذا كانت قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان من فضائل الأعمال وعظائم الطاعات، فإن التدبر في كتاب الله والتأمل في آياته والتماس الدروس والعبر والعظات من أولئك الذين أكرمهم الله بأن أتاهم حظّاً من العلم الذي ينفذون به إلى أعماق المعاني القرآنية، من الواجبات التي يحرص المؤمن على القيام بها في هذا الشهر الفضيل.
وأواصل في هذا المقال الرابع، القراءة في كتاب الأستاذ محمد فتح الله كُولَن “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” الذي كتبه باللغة التركية وترجمه الأستاذ أورخان محمد علي إلى اللغة العربية، وصدر عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة، لنعيش في أجوائه مع تأملاته الإيمانية في آيات قرآنية، حيث نجده يؤكد أن الدين هو روح الحياة، وأن إعلاء كلمة الله أقدس الوظائف، وأن صرف الحياة وإفناءَها في هذا السبيل، هو السبيل لطرق باب الحياة الأبدية والوجود الأبدي، وبمقياس وضع رضا الله تعالى كغاية من الغايات، ستهب في المقابل عنايته ورعايته وحمايته، وأن هذه العناية والرعاية معروضتان في كل زمان ومكان وبنسبة مقاربة للعناية المذكورة للصحابة رضي الله عنهم، كلما توفرت شروط هذه العناية وظروفها وأسبابها، وأن من كان من المؤمنين في مثل هذا المستوى من الإيمان والتسليم والتوكل، يستطيع التصدّي حتى لنيران نَمْرُود بصدر مفتوح وبقلب مطمئنّ، بل ربما قلَب تلك النيران برداً وسلاماً. جاء ذلك في معرض تفسيره التأملي العميق للآية الرابعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(آلِ عِمْرَان:154).
بهذه الروح المشبعة بالإيمان المشعة بأنواره، يبرز المؤلف في كتابه هذا، تأثير هذه الآية الكريمة في نفوس المؤمنين، فيقول: “كان طلاب النور عندما يتعرضون لأي أذى أو ظلم وتعسف، يذكّرهم الأستاذ بديع الزمان (سعيد النورسي العارف بالله المصلح المفكر المربي التركي) بضرورة تكرار هذه الآية وتفسيرها. وكشخص مثلي استفاد من درس الأستاذ النورسي، لنقرأ هذه الآية مرة أخرى ولنأخذ منها الدرس الواجب أخذه”.
ويواصل تأملاته في الآية السالفة الذكر متعمقاً في معانيها، فيقول : “وفي مقابل الحياة الهادئة المطمئنة لهؤلاء، هناك زمرة تشارك هؤلاء الظروف نفسَها، غير أنها لا تتنفس الأجواء نفسَها. لذا نراها منكبّة على متطلبات أهواء أنفسها، فتنعكس الشبهات الموجودة في مشاعرهم وأفكارهم لترسم لهم سبل حياة مليئة بالتناقضات المخجلة. لذا لا يرى هؤلاء وجه الراحة والاطمئنان أبداً، بل سيعيشون حالة تذبذب، تكون رؤوسهم مملوءة بالأفكار الجاهلية، وحتى لو آمن هؤلاء، فإن أفكارهم حول الاطمئنان إلى الله تعالى ستكون مشوبة بسوء الظن، والآية الكريمة ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ توضح حالية اليأس العكرة في مشاعر هؤلاء وما يعانونه من تردد وإحباط”.
وحين يفسر الآية التسعين بعد المائة من سورة آل عمران أيضاً : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آلِ عِمْرَان:190)، يفيض المؤلف في التعبير عن الواقع الذي يعيشه المؤمنون في هذا العصر، فيقول: “يعد مثل هذا التأمل الشامل من أهمّ نواقصنا… أجل! تأمل يجدد إيماننا ويحفظه حيًّا على الدّوام. فكما ينتفض الجسم إن صببت عليه قطرة ماء باردة لم يألفها، كذلك علينا العثور في مرصاد الفكر والتأمل، على ما يجعل إيماننا ينتفض، ويجعلنا نشاهد تجليات أسماء وصفات المالك الحقيقي للأشياء وصاحبها والمؤثر الحقيقي فيها، وأن نقضي الأيام الباقية من حياتنا في دائرة رضا الله تعالى وفي ضوء هذا النور المتولد من عملية التفكير والتأمل هذه”.
ويستطرد المؤلف قائلاً: “ولكن الشعور والسماع والفهم وتقييم الروح والمعنى والصوت والنفس واللون والزينة واللغة والشوق الذي يسري جميعها في السماوات والأرض وما بينهما، لا يكون متيسرًا للجميع، تبدو هناك الحاجة إلى من يستطيع إدراك هذا الغنى وسبر غوره في الألوان وهذا التناغم في الأصوات والموسيقى، ثم تقييمه من قبل فئة المثقفين من ﴿لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ الذين لم تفسد عقولهم بالأخطاء والانحرافات، ولم تفسد لديهم المعايير والمقاييس بالأهواء النفسية.. نحتاج إلى ﴿لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ الذين يستطيعون سبر غور السماوات والأرض بجميع صفاتها التي يذكرنا بها مفهوم المكان، وما يتطلبه خلق ما فيها من الأشياء والكائنات من توجه الإرادة والاختيار من جميع نواحيها انطلاقاً من مبدإ تناسب العلية للوصول عن طريق المنطق والتحليل والتركيب إلى المسبب الكامل وإلى صاحب القدرة الكاملة جل جلاله”.
ويبيّن الأستاذ محمد فتح الله كولن الأسباب التي تجعل فئة من الناس لا تدرك عمق هذه المعاني الإيمانية، فيقول : “لقد خلق روح كل إنسان وعقله بحيث يستطيع فهم هذا وإدراكه فطريّاً، ولكن العوائق من أمثال الكبرياء وتجاوز الحدّ والخطأ في زاوية النظر، تمنع رؤية الهدف بكل وضوح. وحتى لو بلغ الإنسان ذروة العلم، فلن يستطيع الخلاص من القرارات الخاطئة ما لم يستطع الخلاص من هذه العوائق”.
لقد وقفتُ طويلاً أمام قول المؤلف: “… وأن نقضي الأيام الباقية من حياتنا في دائرة رضا الله تعالى وفي ضوء هذا النور المتولد من عملية التفكير والتأمل”. وأحسب أن الأستاذ محمد فتح الله كولن يدعونا جميعاً إلى وقْفة تأمل للذات ومراجعة للنفس للارتقاء بها إلى مستوى رضا الله تعالى والعيش في كنف رحمته التي وسعت كل شيء. وهي دعوة نحتاج إليها في هذا الوقت، وفي كل وقت، كما نحتاج إلى ﴿لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ الذين يملكون البوصلة للاهتداء بها إلى سبل السلام، والذين يأخذون بأيدي الناس ليسلكوا بهم طريق الحق والخير والفضيلة والأمان والسلام. ولستُ أشكّ في أن المؤلف وأستاذه الكبير سعيد النورسي، من هذه الطائفة التي أكرمها الله تعالى بخصال فريدة سامية وسجايا حميدة راقية نحن أحوج ما نكون إليها.
ويشرح المؤلف الآية الحادية والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:251) شرحاً عميقاً يلفت النظر ويشرح له الصدر، فيقول : “يوجّه الله تعالى أنظارنا في هذه الآية الكريمة -علاوة على أمور عدة- حول وجود ميزان وتوازن ومقياس في عالم الإنسان كوجوده في عالم الطبيعة والبيئة. فكل شيء قد وضع له نظام ومقياس معين وقواعد معينة. لذا ومن أجل تأمين مثل هذا التوازن لحساب الإنسانية ومن أجلها، يهْدينا الله تعالى إلى سواء السبيل ويخلق في جوانحنا الميل نحو الكفاح في هذا السبيل. ذلك لأن هذه النتيجة يجب أن تتحقق بيَد الإنسان في دائرة الأسباب، وإلاَّ أصبحت الدنيا مكاناً لا يطاق فيه العيش مثلما ذكرت الآية الكريمة”.
وبعد أن يشرح معاني الفساد في الآية الكريمة ويبيّن أسبابه، يتحدث عن ضرورة مواجهة الفساد بهذا المنهج الحكيم الذي أرى أنه يشكل في حد ذاته برنامجاً لمحاربة الإفساد بكل صنوفه وللتمكين للإصلاح بكل مدلولاته، فيقول: “لذا كان من واجب أهل العقل والإيمان والعرفان القيامُ بإنقاذ العالم إن كان الفساد قد استشرى فيه، فإن لم يكن العالم قد فسد، بذل الجهد من أجل استمرار الصلاح إن كان هناك أي احتمال لحدوث الفساد ومجيئه، والقيام بالسيطرة على أنصار الشغب والفوضى والفساد وعدم إفساح المجال للمزيد من الفساد. ولا يكون هذا إلا بفتح دور العلم والتربية والتثقيف، وفتح مراكز الإرشاد والتوعية، وتكوين المؤسسات الضرورية في هذا المجال، ووضع البدائل العديدة في هذا الصدد، وسدّ كل منافذ وثغرات الفتنة والفساد، وعدم السماح بفتح أي باب محتمل للفتنة، ولينـزل فضل الله تعالى وكرمه على من يستطيع تنفيذ هذا. إن النجاح في تنفيذ هذا وتطبيقه سيكون وِسام فخر ووسام فضيلة لا يقدر بثمن على صدور القائمين به”.
ومن خلال رؤية شمولية ونظر سديد إلى الواقع الإنساني، يضع المؤلف الآية الكريمة في الإطار الذي يشمل مجمل العلاقات الإنسانية في هذه المرحلة من التاريخ، فيقول : “أجل! إن لم يتم تطويع بعض المشاعر المركوزة في طبيعة الإنسان -لغايات وحكم معينة- وترويضها بوساطة المبادئ الدينية وقيمها، فإن الإنسان لن يكون بعيداً عن التخريب وعن الظلم والاعتداء. فإن لم يكن هناك أناس قد طوروا مشاعرهم الإنسانية بالإيمان والإسلام وأصبحوا جنوداً للحق وللنظام ناشرين الأمن والطمأنينة، كانت الدنيا عالماً للمتجاوزين حدودهم والمعتدين، وساد الظلم والذلة فيها. أما من ناحية العلاقات والتوازنات الدولية، فإن الأمن والثقة بين الدول وبين المجتمعات تكون مفقودة، وتصبح الأمور في يد الدول الغالبة والمفسدة”. ويصف المؤلف هذه النتيجة التي ينتهي إليها العالم بأنها “هزيمة للإنسانية وتقلبها في أحضان الفساد والفوضى”، ويقول: “إن في مثل هذا الجو لا يمكن الحديث عن العيش كإنسان ولا عن العلم ولا عن الفن ولا عن الإيمان، ولا يبقى هناك أمن أو ثقة، لا في الأمة ولا في المجتمع. وإذا ساد مثل هذا الجو الذي تسود فيه الفوضى، يكون الناس ذئاباً، ويرى القوي أن الحق بجانبه على الدوام، ويضع القوانين حسب أهوائه، أي يحاول أن يقيم عالماً تسود فيه فلسفة عرجاء ومشاعر أنانية”.
أرأيتم كيف يغوص الأستاذ محمد فتح الله كولن في بحر معاني الآيات القرآنية من خلال تأملاته الإيمانية ليخرج لنا اللآليء والجواهر.