كان الدرس العام من أهم الأشياء التي لفتتْ نظري في مقر إقامة الأستاذ في الطابق الخامس بمنطقة ألطوني زاده القريبة من حي أسكدار الشهير، فبجانب الحلقة الدراسية العلمية التي يعقدها الأستاذ مع خواص طلابه في الفترة الصباحية، كان يجلس بعد العصر للوعظ العام، ويتلقى أسئلة الحضور من الجمهور العام من محبي الأستاذ وضيوفه الذين يأتون للزيارة، وكانت هذه الحلقة تتسع يوم الجمعة ويفد إليها زوار من كافة أنحاء تركيا يصلون الجمعة مع الأستاذ، حيث يخطب فيهم واحدٌ من طلاب الحلقة الخاصة، ويستمعون إلى درس الأستاذ المسائي ويستفسرون منه عما يعنَّ لهم من أمورهم الدينية والحياتية. وأذكر أنني وجهت للأستاذ سؤالاً في إحدى هذه الحلقات عن رأيه في مسألة تنظيم النسل، حيث كانت هذه المسألة مثارة على نطاق واسع في مصر حينها ويدور حولها جدال كبير ما بين مؤيد ومعارض، ولاسيما بعد انعقاد المؤتمر الدولي للأسرة والسكان في القاهرة عام 1994، ووثيقته سيئة السمعة التي اعترض على بنودها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر آنذاك المرحوم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق في موقف سجَّله له التاريخ لوقفته الشجاعة ضد بنود هذه الوثيقة التي تخالف مبادئ الشريعة الإسلامية وتقاليد وأعراف المجتمعات الإسلامية المحافظة، مما كان سببا في إجهاض فعالياته في القاهرة وفي دورته التالية في بكين بالصين.

فبدا لي المكانُ مع رونقه والحفاظ على نظافته وبهائه مقبرةً بديعة المنظر.

وقد حرص طلاب الأستاذ على تصوير هذه اللقاءات وتفريغ محتواها وجمعها بعد التنقيح والدراسة والعرض على الأستاذ وجمعت في سلسلة تحت عنوان “الموشور”، تُرجم منها إلى العربية عدة كتب، وقد وجدت سؤالي هذا موجودًا في واحد من هذه الكتب المترجمة بعنوان: “لمسات في إصلاح المجتمع” من ترجمة د. عبد الرازق أحمد وطباعة دار النيل عام 2017 ص 218.

كان من حظي في هذه الرحلة المباركة أيضا شهودي افتتاح الأستاذ كولن أول جامعة للخدمة في إسطنبول وهي جامعة فاتح في 7 يونيو عام 1996، بحضور سليمان دميرال الذي كان يشغل منصب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، وقد كان افتتاحًا مهيبًا لجامعة كان لها دور مهم مع أخواتها اللاحقات من بعدها في النهضة التعليمية التي حظيت بها تركيا قرابة عقدين من الزمان قبل أن تصدر حكومة أردوغان في عام 2016 قرارا بتأميمها ثم إغلاقها مع باقي الجامعات الأربع عشرة الأخرى التي أنشأتها الخدمة في مختلف محافظات ومدن تركيا.

ويحظى هذا الممثل بشعبية كبيرة في تركيا، ولذلك فقد أضفى حضوره في المكان بهجة من نوع خاص.

وما أنس لا أنس استقبال الأستاذ كولن في الطابق الخامس لواحد من أشهر فناني تركيا وأسطورة الكوميديا في السينما التركية “كمال سونال”، أو الشهير بـ”إناك شعبان” في ظل الانفتاح على كافة فئات المجتمع، وإقامة لون من الحوار على أرضية من القواسم المشتركة في حب الوطن والعمل على تنميته في كافة الجهات. ويحظى هذا الممثل بشعبية كبيرة في تركيا، ولذلك فقد أضفى حضوره في المكان بهجة من نوع خاص فرؤيته وحدها كفيلة بالإضحاك لذا كان الطلاب يترقبون مجيئه، وعندما وصل إلى المكان تقافز بعض الطلاب مسرورين لرؤيته. وعلى غير العادة جاء الرجل واستقبل الأستاذ وكان في غاية الوقار والتقدير والتبجيل للأستاذ.

مرت الأيام سريعًا في كنف الأستاذ، كانت كلها في هذا المكان الصغير حجمًا، لكن اتساعه المعنوي جعل إشعاعاته وتأثير ما يحدث فيه من بناء معنوي وتعمير إنساني تصل إلى كل مكان في تركيا، بل تعبر الحدود لتحاول أن تبلغ الاسم الجليل المحمدي إلى كل مكان تشرق عليه الشمس أو تغرب.

ثم حانت لحظة الوداع وكانت لحظة درامية بمعنى الكلمة، كان اليوم جمعة، وكان المكان يعج بالزوار والضيوف من شتى أنحاء تركيا، وكان الأستاذ في حلقته الوعظية بعد صلاة العصر، وبعد انتهائه منها واستوائه لشرب الشاي أقبلت عليه وصافحته مودِّعًا، ثم استلمته كله معانقًا ومقبلاً، فتعجب الحاضرون من هذه الجراءة.

وأذكر أنني وجهت للأستاذ سؤالاً في إحدى هذه الحلقات عن رأيه في مسألة تنظيم النسل.

وبعد الوداع قابلت صديقًا من الطلاب الأتراك الذين كانوا يدرسون في مصر، وكان قد حضر اللقاء زائرًا في هذا اليوم، وعاتبني باللهجة المصرية ممازحا: الله يخرب بيتك يا ابني،إيه اللي انت عملته ده؟ّ تسلم وتعانق وتقبل؟! نحن لا نتجرأ مثلك على هذا! فقلت له: أرأيت؟ أنا عانقت أستاذك وقبلته بينما أنت لم تستطع ذلك.

عدت إلى مصر وظلت ملامح زيارتي الأستاذ كولن في معتكفه بالطابق الخامس تتخايل في ذهني بين الحين والآخر، فما أحدثته في روحي من إشباع، وفي نفسي من إمتاع جعلني ألوذ إلى ذكرياتها الفينة بعد الأخرى، ثم حطتْ بي الأيام رحلها في أودية كثيرة، وعلمت أن الأستاذ غادر إسطنبول إلى الولايات المتحدة، فلم تهف نفسي إلى زيارتها وهو ليس فيها، وعندما عدت إليها مرة أخرى عام 2006 حرصت على زيارة الطابق الخامس في ألطوني زاده، والمبيتِ في حجراته شبه الفارغة واستعادة تلك الذكريات الجميلة، فبدا لي المكانُ مع رونقه والحفاظ على نظافته وبهائه مقبرةً بديعة المنظر، أو منزلاً غادرته عائلته فصار باردًا لم يبق فيه إلا آثار من الذكرى،  فعافته نفسي ثم انتقلت عنه سريعًا.