لقد وَجَد عصرُنا نَفْسَه وهو على أعتاب القرن الواحد والعشرين في جو من الرَهَق والاضطراب والقلق والانهيار. ولئن ساقت هذه الحال بعضَهم إلى اليأس والانكسار، فقد أيقظ في الذين لم يستسلموا تمامًا للظلمات الغيرةَ “الوطنية” ومشاعرَ الإخلاص، بقدر حريةِ وجدانهم وصفاء أفكارهم… وإذ أيقظها فيهم، صار وسيلة لنضوجِ استعدادات كثيرة تضاهي العبقرية. وكان له وقْعٌ وأثر -كنفخ الصور- في العالم الثالث خاصة، أدى إلى ظهور حركاتٍ إحيائية متتابعةٍ. فهذا العصر العفريت الذي كان مَحضنا لمَفاسد لم يُرَ مثلُها حتى الآن، كان في الوقت نفسه منطلَقا لأمتنا وأمثالها من الأمم للارتقاء المباشر، وميناءً للإبحار نحو آفاق البعث والنهوض.

نحن اليوم أمام أحد خيارين: إما الكفاح المصيري في الهمة المؤدي إلى “الانبعاث”. وإما الخلود إلى الراحة والاسترخاء الذي يعني “الاستسلام للموت الأبدي”.

والأمر الوحيد الذي ينبغي أن نعمله اليوم هو أن نهرع إلى أخذ موقعنا في التوازن الدولي بالشعور الجاد بالمسؤولية وبهويتنا الذاتية ومن غير هدر للزمن. فإن تَلَكَّأنا في تعيين هذا الهدف، فقد نعجز عن إدراك الغد، بَلْهَ التقدمَ والتطور. فنحن اليوم أمام أحد خيارين: إما الكفاح المصيري في الهمة والذي يؤدي بنا إلى “الانبعاث”… وإما الخلود إلى الراحة والاسترخاء الذي يعني “الاستسلام للموت الأبدي”.

نكون أو لا نكون

إن القرآن الكريم يحثنا على تجديد الذات والحفاظِ على جدتنا بالعرض المتكرر لقضيةِ أن “نكون” أو “لا نكون”، بقوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾(إبراهيم:19) ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾(فاطر:16-17) ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(محمد:38) وآيات كثيرة أخرى شَرَّفَتْنا بالنـزول، نكتفي بإيراد هذه النماذج منها لأنها -على ما أعتقد- تفي بالمقصود.

إن الأمر الوحيد الذي ينبغي أن نعمله اليوم هو أن نهرع إلى أخذ موقعنا في التوازن الدولي بالشعور الجاد بالمسؤولية وبهويتنا الذاتية ومن غير هدر للزمن

ومن المحتمل بقوة أن الْمَعْنِيِّينَ اليوم في الآيات الكريمة بالإذهاب والاستبدال هم النفوس الميتة وسكانُ العالم الثالث الذين لم يجددوا أنفسهم وفشلوا في الحفاظ على حيويتهم وفرَّطوا في حق إيمانهم وتفحمت عوالمهم الداخلية -مع تقديرنا مبدئيا لجوهر الإيمان الذي يحملونه-. أما الآتون بدلا عنهم، فإنهم “الجيل الجديد” وكادر القدسيين، الذين أتموا التحفز المعنوي بطول الشحذ والتعبئة منذ قرون في دنيا المحزونين والمغمومين هذه، والمرشحون للارتقاء بإنساننا المستصغر والمستهان به إلى ذرى قيمٍ فوق القيم.

إن حال هذا العصر إن ساقت البعضَ إلى اليأس والانكسار، فقد أيقظت في البعض الآخر الغيرةَ “الوطنية” ومشاعرَ الإخلاص، بقدر حريةِ وجدانهم وصفاء أفكارهم…

هل أخطأ العالم؟

وما فعله الغرب حتى اليوم هو إهمال قيمه الدينية ووصايا السيد المسيح عليه السلام؛ إذ شنوا الحروب في القارات وأشاعوا الرق والاستغلال أينما حلوا؛ فلطخوا وجه العالم بالسواد. فعالم الغرب الآن يحلم بالكوابيس تحت أنقاض الدنيا المعنوية التي هدمها بنفسه وجعلها خرائب في قلوب البشر، ويسقط في الحيرة والقلق إزاء العقل السليم والفكر الحر الذي بدأ يصحو في كل مكان… والأنكى للجرح أن هذا العالم -لأنه لا يدري عن جزمٍ أين أخطأ- بائسٌ مهزوز لا حيلة له، ومرتعش هلعًا خشية صفعات الرأي العام الداخلي المتوقعة؟! لكنه -إذ يئن في شدة البؤس- بدلا من أن يعيد النظر في نفسه، يبذل قصارى جهده ليصرف الناس عن التفكير في الفوضى الحالية ويتملص عن مسؤوليتها بِدَفعها للبشرية إلى عالم الترف والسفه واللذائذ الجسمية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 5

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.