إن المدرسة الكسيحة في نظامها التربوي، والمهلهلة في برنامجها التعليمي ومنهاجها المعرفي، لن يزيد دورها في أحسن الأحوال، على توطيد الرتابة، وتكريس الآلية، والمُضِي في ضخّ نفس النوعية من المتخرجين الذين يتهيؤون في مناخ راكد يورثهم نفس الاعتلالات التي تسود الواقع الاجتماعي والمدني من حولهم.
المدرسة الناجزة هي التي تُحدِث في ذاتها وفي ميكنزماتها وارتفاقاتها، الثورة، كي تستطيع أن تخرّج الإنسان الفعَّال.
المدرسة الناجزة
المدرسة المحقِّقة للفلاح والنجاعة هي التي تستوجب أن نستصلحها أولاً، قبل أن نطمع في تحصيل المردودية الصالحة من الأجيال على يدها. وعلى عكس ما تواترت عليه التنويهات بالمدرسة، رأينا كولن يكشف أن إناطة صناعة المستقبل بالمدرسة من غير توفير لمنظومة التحسينات والمستلزمات المختلفة، رهان غير مضمون.
المدرسة وحدها -بالنمط التنظيمي الراهن- لا تقدر على المضي بالمتخرج إلى صعيد العطاء، فعلى الرغم من أنها الخلية العمومية الأولى للتكوين، إلا أنها تظل قاصرة عن منحنا النموذج الإنساني الذي يتوفر على مقومات البناء الكامل بمجرد اكتفائه بما حصَّله فيها من معرفة، فـ”من العسير جدًّا عليها، بل من المُحال أن نستدل على أنموذج واحد أنجزته المدرسة وحدها”؛ إذًا لا بد من متممات للمقدار المعرفي المتحصل عليه تحت سقفها؛ حتى يستوي النصاب، ويستكمل الناشئ تأهيله.
المدرسة وعلاقتها بالبيئة
لا ريب أن إسهام المدرسة التقليدية المعاصرة يظل نظريًّا وافتراضيًّا ما لم تكن البيئة التي يتحرك فيها المتمدرس بيئة سليمة من الآفات، ومنسجمة مع قيم أصالتها. فالزاد الذي توفّره ثقافة المجتمع ينمي بشكل عملي، وفوري، بل وقبلي، ما تلقنه المدرسة للأجيال.
وحين تتشبع المدرسة وتتجاوب مع قيمٍ تُمَجِّدُها الأسرةُ، ويقدسها المجتمع، وتحتفي بها رزنامة المواسم والمناسبات، وتتجسد من خلالها العزة الجمعية، ويتعصب لها الضمير القومي والملّي، عند ذاك يتوطد التناغم بين الفرد ومحيطه، وتتغذى المناهج التعليمية بما تسترفده من قيم البيئة، وبالمقابل تتخصب البيئة بمظاهر الشحذ والتطوير الذي تُفَعّلُها به روافد التكوين، بما فيها الرافد الإعلامي بمختلف وسائطه، وبكل الخطورة التي يمثلها؛ إن هو سار في اتجاه الهدم والتمييع.
إن من المقاصد العليا للتعليم في فلسفة كولن: النهوض بعملية توليف وتقريب المواجد بين المسلمين.
لقد آن لنا “أن نتقبل المدرسة بواقعها وحقيقتها، ولا نأمل منها إلا ما يمكن أن تمنحنا إياه.. إن تعليق الآمال كلها بالمدرسة منطلق مبالغ فيه وتفكير سطحي وبسيط”. ومن هنا يتوجب إعادة التفكير في المناهج التربوية، وقبل ذلك وبعده ينبغي إيجاد المعلم المهيأ الذي تظهر جدارته في نتائج التفوق التي تُسفِر عنها جهوده كل سنة، وفي النجابة التي يشحن بها تلاميذه، وفي روح الإيمان التي يتشربونها منه باستعذاب واستلذاذ.
في هذا الإطار تقترح منهجية كولن النموذج المدرسي المثمر، من خلال اعتماد منظومة المدارس العصرية التي زرعتها في تركيا، وعممتها بعد أن أثبتت تفوقها وانتزعت الاعتراف من المجتمع قبل أن تنتزعه من الدولة.
مدارس الخدمة ورؤيتها
حركة افتتاح المدارس التي يمضي بها رجال الخدمة قُدُمًا داخل تركيا وخارجها، لتندرج ضمن رؤية تستهدف تكوين فصائل من المتفوقين، وتخريج شتائل من الناجحين، سيكونون -حتمًا- خميرة يفيدون مجتمعاتهم، وستنتعش بهم الحياة والمدنية في بيئاتهم. ثم إن المدرسة بالمواصفات العملية التي يقترحها كولن تغدو إلى جانب وظيفتها التكوينية الأساسية، وسيطًا مُهمًّا ضمن وسائط التحسيس، وبذر اليقظة والوعي بضرورة الترابط الملي والإنساني.
إن المدرسة بالمواصفات العملية التي يقترحها كولن تغدو إلى جانب وظيفتها التكوينية الأساسية، وسيطًا مُهمًّا ضمن وسائط التحسيس، وبذر اليقظة والوعي بضرورة الترابط الملي والإنساني.
إن من المقاصد العليا للتعليم في فلسفة كولن: النهوض بعملية توليف وتقريب المواجد بين المسلمين؛ إذ إن مقوم الدين والرابطة التاريخية المشتركة يستلزمان دمج نظُم التربية والتعليم في إطار التوجه الاستقطابي بين أقطار الأمة، وهذا من خلال توظيف المقاربة البيداغوجية والتربوية المتجانسة في مشروع الخدمة، الأمر الذي سيقوي من تحقيق انعقاد اللُّحمة الإسلامية على أكثر من صعيد، وفي ذلك ما فيه من قوة وعز للمسلمين.
——————————————–
المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 144-147، بتصرف
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.