إن التكفف الذي يراه كُولن سمةً واجبة ولازمة في الإنسان باني الحضارة المنشودة، يشمل مجال القول أيضا؛ فليس الإشباع الجسدي وحده مخلا بالفاعلية لدى الإنسان، إنما القول حين يغدو لغوًا، ويضحي هَدْرة، وتقصير أوقات، وتفقيرا فكريًّا وقيميا، هو أيضا إشباع إسفافي مقيت، لأنه يتدنى بقابليات الكمال وبالحس السوي، بل وبالمروءة. إنه انسياق من جنس انسياقات نزوية كثيرة وفاسدة ربَّتْها فينا المدَنيةُ المادية المعاصرة، المستهدفة للمثل السامية والروحية التي ظل الإنسان يبجّلها عبر الدهور.

ولا غرابة أن يرشدنا القرآن إلى فضيلة الصوم عن القول التي كان المصطفون، ومنهم مريم وزكرياء وآخرون، يعتصمون بها، في تواصلهم مع الله. وإن الاعتكاف في الإسلام قاعدته الكف عن الكلام، إلا ما كان من ذكر أو تلاوة أو ترتيل أوراد.

 بالتحنف يهيّئ الإنسان نفسه للتحولات التي تغير مجرى التاريخ.

إن هدف القوى الرأسمالية الاحتكارية هو جعل الكرة الأرضية سوقا، والشعوب طوابير من المستهلكين المتهافتين على السلعة، أيًّا كانت طبيعتها. ولذا هي ترى في الدين -لاسيما الإسلام- أخطر فاعل يواجه مخططاتها الماركوتنغية، إذ روحانية الدين ترتفع بالإنسان نحو القصد والتوازن والسمو النفسي، وتحدوه إلى عدم الانجرار وراء تهييجات أساليب العرض..

 إنسان اليوم.. والتسليع:

فإنسان مدنية اليوم -شأنه مع كل مدنية مادية جامحة- تتّجه به ترويضات بيداغوجية التسليع، نحو أفق يفقد معه نوازع إنسانيته، لأن التركيز التعقيمي يقع على جوانب الروح فيه، ولأن دوائر تحطيم مكامن العظمة في الإنسان تدرك أن إماتة الروح هي الضامن لرهان (وَحْشَنَةِ) الإنسانِ، وإطلاق عقال غرائزه، وجعله كائنا تتحكم فيه مُهلكات المدنية المعاصرة (الجنس والوخز والذهانيات الثقافية الأخرى..)، حتى الرياضة فلتت من إطارها الإنساني النبيل، وباتت أفقا ماركوتنغيا يتلقن منه ساكنة الأرض قيم العنف والغش والغلظة الوحشية، لاسيما وأن رمزيات الجمال التي تميز عالم التنافس الرياضي، باتت هي ذاتها تنعكس بالسوء على الأخلاق، وتُطبِّع أهلَ البسيطة على قيم الجموح والبهيمية، لاسيما وقد أفلحت ثقافة التهجين المعولمة في استقطاب الأنثى إلى الحلبة، شاهدا على تسفل الجبلة وتدهور المثل، وفاعلا يتمرس على ألوان من الشطط والتبذل تنافي طبيعة الجنس الأمومي.

إنسان مدنية اليوم -شأنه مع كل مدنية مادية جامحة- تتّجه به ترويضات بيداغوجية التسليع، نحو أفق يفقد معه نوازع إنسانيته.

فلذا يرتفع اليوم صوت العقل يدعو إلى ضبط حراك التطور المادي بقواعد الفطرة والاتزان، والعمل على وضع حد لهذا الانفلات من ربقة الدين.. انفلات ربط الإنسان بالمادة، وجعله مخلوقا مشروطا بنوازع التهتك الجسدي.. من هنا لا يفتأ كُولن يلحّ على وجوب أن تتمرس المجتمعات -مثل الأفراد- بضوابط التعفف والقصد والتريض على خلق التمالك الذي يعيد للروح حيويتها، وللعقل وضاءته، وللبصيرة وهجها، ليتأتى للإنسان المعاصر أن يتخطى شراك اللذة والسقوط في هوة التحلل التي لا قرار لها.

——————————

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 173-175.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts