أكثرُ شيء ذَكَّر به فتح الله كُولَنْ ونبّه إليه في هذه النقطة هو الرياء وكيفيّة النجاة منه؛ فيقول:
“يقال إنَّ كل إنسان قد يقع بداية في الرياء، وقد يصحبُ الرياءُ الدخولَ من باب العبوديّة، غير أن العبوديّة لا تستمرّ مع الرياء؛ فكلّما قطع العبدُ مسافةً وتقدّم في طريق الإخلاص كلَّما زال الرياء عنه ولم يبقَ له أثر في نفسه”.
لم يُغيِّر سيدنا رسول الله ﷺ طوال حياته قطُّ سلوكَه المتواضعَ النزيه الذي تحلّى به منذ البداية.
كما يُتابعُ حديثه عن الرياءِ وسبُلِ الخلاصِ منه فيقول:
“لا يسعى الإنسان ولا تتكوّن بداخله محاولة لتحقيق الإخلاص دون أن يتعرّف على الرياء ويدرك ماهيته؟ فإن كان الإنسان يُرائي وهو لا يدري استحالَ عليه تحقيق الإخلاص، فكما أنَّ معرفةَ النفس بابٌ يؤدّي إلى معرفة الله، فإنَّ تعرُّف الإنسان على معنى الرياء يتحقّق في إطار سعيه ونيّته إدراك الإخلاص وتحقيقُه؛ فيدخل من ذلك الباب ويصل تدريجيًّا إلى الإخلاص، وربما يفعل الإنسان ما يفعله بمحضِ التصنُّعِ في البداية دون أن يُدرِكَ معناه ولا محتواه ولا عمقه، وإنما يفعله لمجرد الأمر به فحسب، وبالتالي فإنَّ بعض التصرّفات التي ربما نراها في أول الأمر نوعًا من أنواع الرياء قد تبدو طبيعيّةً عاديّةً، إلا أنَّ الإنسان يسيطرُ على نفسه في نهاية الأمر ويُخضِعُها للمراقبة والمتابعة إمَّا لوصوله إلى أفق معرفة معين بالنسبة لذاتِ الحقِّ جلّ جلالُهُ وعمّ نَوالُه وتقدّست أسماؤه وصفاتُه، أو لِسَبَبٍ آخر، ويشرع في تصرُّفاتٍ مخلصةٍ مسافرًا في عالم الإخلاص؛ فيبحث دائمًا، ويستقِلُّ ما يجده فيبحث مجدّدًا ليستزيد إخلاصًا، ويمرّ بهذا الشكل -وحتى آخر لحظات عمره- ربما من ألف مرتبة من مراتب الإخلاص، إلا أنه يظلّ يطلب “الإخلاص” ويتلوّى توقًا وشوقًا إليه، إلى أن يكونَ دعاؤُه كلُّه إخلاصًا؛ فينام ويقوم طالبًا الإخلاصَ من الله متضرّعًا إليه بقوله: “اللهم ارزقني الإخلاص”، حتى إنه إن نسيَ طلبَ الإخلاصِ في أحدِ أدعيته فسرعان ما يعود يطلبه وينشده قائلًا: “اللهم ارزقني الإخلاص”، فكما أنكم كلما رغبتم في المرور من تحت قوس ألوان الطيف هربَ وابتعد عنكم كلما سرتم وجريتم؛ فإنَّ الأمر عينَه بالنسبة للعبودية الخالصة المخلصة؛ إذ إنها عشق لا يُدرك بسهولة، فتظلُّ تستركضُ الإنسان خلفها، وتستطلبه إياها، نسأل الله أن يوفِّقَنا في هذا السباق آمين!” .
إن أكثر ما خاف منه سيدنا رسول الله ﷺ بالنسبة لأمّته هو نفاق العَالِم ودهمائية المنافق.
ويشير كُولَنْ إلى أن عصرنا يبدو في جانب منه وكأنه عصر رياء، فيقول:
“لم تُشاهد مراءاة بقدر ما هو موجود في عصرنا منذ أن خُلِقَتِ الدنيا؛ لأن العوامل التي تدفع إلى الرياء في يومنا الحاضر كثيرةٌ جدًّا، فالكلّ يقع في شِبَاكِ نوعٍ من الرياء؛ حيث يقعُ البعض فيه بكتاباته، والبعض بحديثه، والبعض بكثرة مطالعته الكتب، والبعض بعِلْمِهِ بالسِّيَرِ الذاتية والمصادر، والبعض بشبكةِ علاقاته الواسعة وما شابهه، وعلاوة على هذا فهناك الجوائز والطرود والتصفيق والمدح والتسابق والماراثونات والاعتزاز الشخصي والاعتزاز الجماعي والاعتزاز بالقومية… وفي ساحة أخرى التكريماتُ والكرامات والكشف والإنطَاقُ بالحق وتنبُّؤُ حدوث الأشياء مسبقًا… وهناك الكثير والكثير، حتى لكأنَّه ليس هناك من أحدٍ يضع الله في حسبانه؛ إذ تنسب كل أنواع التوفيق للإنسان، ويفتخر الإنسان بكثير من الانتصارات المغتصبة التي ليست من عمله…”.
لم تُشاهد مراءاة بقدر ما هو موجود في عصرنا منذ أن خُلِقَتِ الدنيا.
ثم يحذر قائلا:
“الواقع أن كلَّ قولٍ وفعلٍ مرائي كذبٌ ونفاقٌ، فالله يفيض بالإحسان أما البشر فإنهم ينسبون إحسانات الله إلى أنفسهم بدلًا من استخدامها في الوصول إلى الله، ويجعلونها حجابًا بينهم وبين الله، إن كل ما نملكه من الخير والملكات والنجاحات هو من عند الله تعالى، لكن الإنسان الجاحد المنكر الأنانيَّ يجعل من كلِّ هذا سببًا لنسيان الله في وقتٍ أدعى له أن ينجذب حتى وهو في أصغر النِّعَمِ، فيقول: “اللهم إنه منك، اللهم إنه منك!”.
تكامل القول والفعل
وثمة أمرٌ آخر مهمّ يؤكّد عليه كُولَنْ من أجل حياةٍ قلبيّةٍ سليمةٍ؛ ألا وهو تكامل القول والفعل وتطابقهما، فيُذكِّر بأن أكثر ما خاف منه سيدنا رسول الله ﷺ بالنسبة لأمّته هو نفاق العَالِم ودهمائية المنافق، ويقول:
“المسلم ليس إنسانًا جدليًّا، إنه إنسانٌ يسعى ليَكون كتابًا يتحرّك على الأرض بتصرّفاته وتحركاته أكثر من أقواله وكلماته، فرسول الله ﷺ وخلفاؤُه الراشدون لم يسعَوا في أيِّ وقتٍ قطُّ إلى زخرفة القول وتنميقِهِ، بل سعوا لأن يكونوا قدوةً لمن حولهم بتصرُّفاتهم وأفعالهم.
إن كان الإنسان يُرائي وهو لا يدري استحالَ عليه تحقيق الإخلاص.
وثمة بُعْدٌ آخر من أبعاد تكاملِ القول والفعل وتطابقِهما ألا وهو القدرة على تحقيق وَحْدَةِ البداية والنهاية، ومقصدي من هذا: أن سيدنا رسول الله ﷺ لم يُغيِّر طوال حياته قطُّ سلوكَه المتواضعَ النزيه الذي تحلّى به منذ البداية، فهل كان النبيُّ ﷺ هكذا وكان صحابته على خلافه؟ كلا وألفُ كلا! … فمن أسلموا قلوبهم لقضيَّةٍ مقدَّسةٍ ينبغي لهم ألا يستغلّوا ما يحظَونَ به بسبب تلك الدعوة من تقديرٍ وفضل؛ وعليهم أن يعتبروا ولو حتى مجرّد غرس شجرة في حدائقهم استفادةً من الدعوة خيانةً، فعليهم أن يفعلوا مثلما فعل رسول الله وصحابته الأجلاء؛ ويرحلوا عن هذه الدنيا كما جاؤوها في إطار تكامل وتطابق بين المبدأ والمنتهى” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015،صـ198/ 199/ 200.