في إحدى جلسات الأستاذ كولن مع حلقته الدراسية، ورد ذكر مصر فقال بصوته الأجش وبلغة عربية واضحة: “سنزور مصر إن شاء الله”، فكانت هذه العبارة ترنُّ في أذني من حين لآخر بنفس النبرة التي أداها بها الأستاذ كولن، وكنت أمنِّي النفس بهذه الزيارة والالتقاء به في حضرة القاهرة المحروسة.
صحيح لم يزر الأستاذ كولن مصر بنفسه لكنه أرسل خيرة أبنائه وتلامذته ليدرسوا فيها، وكان دائمًا ما يوصي طلابه بدراسة العربية في مصر بلد الأزهر، ويؤثرها على ما سواها ثقةً في اعتدال الأزهر ومنهجه الوسطي القويم.
بدأ فصل جديد من المغامرة استمر قرابة الساعتين فيما يشبه أفلام الأكشن الأمريكية.
لم يحرمنا الزمان بعد الأيام الطيبة التي قضيناها في ضيافة الأستاذ كولن بإسطنبول من تنسم عبير هذه الذكريات، فبعد العودة إلى مصر قررنا مع الإخوة الأتراك افتتاح مركز لتعليم العربية للناطقين بغيرها، سُمي “مركز النيل”، وفي الحقيقة كانت هذه المراكز فاتحة خير على الطلاب الأجانب الذين يدرسون في مصر وخاصة في الأزهر، فقد كان يفد الطلاب إلى مصر للدراسة ويلتحقون بجامعة الأزهر مباشرة دون تأهيل مناسب، فكان الكثير منهم يرسب سنوات عدة في السنة الواحدة، ومن يُفلح منهم في اجتياز الجامعة كان ينجح بالحفظ لا بالفهم، وأغلب هؤلاء الطلاب كان يعود إلى وطنه حاملاً شهادة عليا من الأزهر، لكن عربيته جد ضعيفة، ولا يكاد يبين بالعربية عن هدفه ومقصوده، وإنما جُلُّ ما يحمله من اللغة العربية كان عبارة عن بضع كلمات وتعبيرات تعلمها من الشارع أو من بعض زملائه ليستخدمها في تعاملاته اليومية.
ثم جاء افتتاح هذه المراكز وتوسعت بشكل كبير وقضت على كثير من مشكلات الطلاب في تعلم العربية، وكان مركز النيل الذي أسسته “الخدمة” في مصر من أوائل المراكز التي كان لها دور كبير في هذا المجال، فقد افتتح عام 1998 وبلغ مرتبة كبيرة بين أقرانه حتى وصل عدد الطلاب به في مرحلة من المراحل إلى ألف طالب من 40 جنسية مختلفة، كما كان أفضل بوابة تمهيدية مؤهلة للطلاب والطالبات الأجانب قبل التحاقهم بالتعليم الثانوي والجامعي المصري وخاصة الأزهري منه.
كان الذهاب إلى جبل سانت كاترين ومشاهدة شروق الشمس من فوقه من الرحلات التي يحرص الأتراك عليها.
سر الأستاذ كولن بافتتاح هذا المركز كثيرًا، وعندما تفاقمت أزمته الصحية، وشعر بألم شديد في قلبه أوصاه الأطباء بضرورة التوجه إلى الولايات المتحدة للتداوي هناك، ورتب لذلك أحد أطباء القلب المشهورين من محبي الأستاذ كولن في أمريكا، فاضطر الأستاذ إلى إيقاف الحلقة مدة من الزمان حتى يتعافى من مرضه، ثم أوصاهم بالذهاب إلى مصر لدراسة العربية وإتقانها جيدًا، فوفدت حلقة الأستاذ الطلابية بقدها وقديدها إلى القاهرة ليدرسوا فيها، وشرُف مركز النيل باستقبال هذه الكوكبة المباركة التي كانت تبلغ الثلاثين طالبا حينذاك. استقبلت وبعض زملائي من المدرسين المصريين هؤلاء الطلاب وشرفنا بتدريسهم ومعايشتهم في بيوتهم والإشراف على جولاتهم لزيارة معالم مصر التاريخية والأثرية، فزرنا الأهرامات والمتاحف ومساجد مصر الشهيرة، ودخلنا المسرح القومي وشاهدنا بعض المسرحيات باللغة الفصحى وضحكنا على كم الأخطاء في لغة الممثلين بالفصحى، فقد كانت مسرحية تاريخية تجسِّد فترة في التاريخ الفرعوني، وكان هناك مقطع يتردد على مدار المسرحية كلها، وكان هذا المقطع يشتمل على بعض الأخطاء النحوية الفجَّة، فكان الكورال يرددون هذا المقطع بأخطائه كل بضعة دقائق، فكنا نتعجب من استقامتهم على الخطأ نفسه كل مرة، حتى همَّت نفسي أن أصيح بالممثلين وأنبههم إلى هذا الخطأ.
قضى الطلاب في مصر قرابة ثلاثة أشهر، التقوا بكثير من العلماء وقُرَّاء القرآن والمشايخ والمفكرين والكتَّاب والمثقفين، واشتروا عددًا كبيرًا من الكتب، وكوَّنوا صداقات مع عدد كبير من الشباب المصريين، وكانوا نموذجًا في التعامل معهم خلقيًّا وإنسانيًّا وعلميًّا وفكريًّا.
قضى الطلاب في مصر قرابة ثلاثة أشهر، التقوا بكثير من العلماء وقرّاء القرآن والمفكرين والمثقفين.
ومن أخطر الذكريات التي لا يمكن أن تُنسى “رحلة طور سيناء”، فقد كان الذهاب إلى طور سيناء وصعود جبل سانت كاترين ومشاهدة شروق الشمس من فوق هذا الجبل، واستصحاب المشاهد القرآنية في قصة سيدنا موسى عليه السلام هناك من الرحلات التي يحبها الأتراك ويحرصون عليها.
وقد نظمنا رحلة إلى هذا المكان واستأجرنا حافلة من شركة سياحية، وحشدنا فيها كل طلاب الأستاذ كولن الثلاثين، ورغم اعتراضنا في البداية على رداءة الحافلة وَهَمِّنا أن نلغي الرحلة بسبب ذلك، فإننا قررنا أن نستمر فيها آملين من الله أن يحفظنا وتمر الرحلة على خير. وفعلا مضى الجزء الأول منها على خير؛ صعدنا الجبل واستمتعنا بمنظر الشروق، وتجولنا في عيون موسى، ثم همس إليّ السائق قائلا: أرجو أن نعود إلى القاهرة قبل غروب الشمس لأن أنوار الحافلة عندي فيها عًطل وقد لا يمكننا السير في الظلام. وبعد انتهاء نفق الشهيد أحمد حمدي بمدينة السويس اضطررنا للوقوف لإدراك صلاة العصر قبل فواتها، فالأتراك أحناف لا يأخذون برخصة الجمع، ومن ثمَّ كنا نتوقف لأداء كل صلاة على حدة، فوقفنا ودخلنا المسجد، ومن شدة تعب الطلاب وإرهاقهم تأخروا في الوضوء والصلاة وبدأ السائق يتوتر ويقول لي: يا أستاذ ألم أحدثك بمشكلتنا؟ هكذا لن نستطيع أن ندرك القاهرة في النور. وفعلا قرر الإخوة الانتظار لصلاة المغرب حتى لا تضيع عليهم وفقدنا كل وسيلة للوصول إلى القاهرة قبل الظلام.
لم يزر الأستاذ كولن مصر بنفسه لكنه أرسل خيرة أبنائه وتلامذته ليدرسوا فيها.
وهنا بدأ فصل جديد من المغامرة استمر قرابة الساعتين فيما يشبه أفلام الأكشن الأمريكية، وشعرت أنا بالقلق الشديد على حياة ثلاثين طالبًا من طلاب الأستاذ كولن، تعب في تربيتهم سنين طويلة، ثم آتي أنا -باستهتار- لأضيع هذه الجهود وتضيع معها حياة هؤلاء الأطهار.
كان السائق من المهارة بحيث استطاع عبور هذه الأزمة بحيلة عجيبة، أوقف أحد سائقي الميكروباصات وأخبره بمشكلته مع الأنوار، وطلب منه أن يقوده ليهتدي بأنواره حتى يصل إلى القاهرة.. وتخيلوا معي أتوبيسًا ضخمًا يتبع سيارة ميكروباص صغيرة لا يحاول أن يفقدها، والميكروباص كان يحافظ على سرعته المعهودة وسائقنا يتابعه على هذه السرعة وأنا جالس بجواره حتى كادت الدماء تجف في عروقي، ومن فضل الله أن التعب والإرهاق جعل كثيرًا من الطلاب يخلد إلى النوم العميق، ولم يبق إلا مجموعة في مقدمة السيارة يتابعون المنظر وكأنهم يشاهدون فيلما من أفلام الرعب والأكشن، حتى وصلنا إلى القاهرة وبدأت الأنوار تتكشف شيئًا فشيئًا، ساعتًها بدأنا نلتقط الأنفاس وشعرنا بعناية الله وحفظه على النجاة من هذا الموقف الصعب.