اعتدنا أن نرى آراء أهل الفكر والسياسة تنيط -ببساطة وآلية- مهمة بناء المستقبل إلى المدرسة، وتقرنه بها. ومن المؤكد أن اطراد هذه الرؤية بهذا الشكل السطحي، ينمُّ عن روح التملص من عبء وضع التمثل، وإبراز الكيفية التي تجعل من المدرسة -فعلاً- أداة البناء.
لا ريب أن النهضة منوطة بالتعليم الفاعل والمدرسة الناجحة. لكن هل كل مدرسة هي وسيلة للنهضة؟.
والحال أن الأمة الإسلامية قد مضى على ما اصطُلح على نهضتها أزيد من القرنين، حققت خلال ذلك مكاسب في التعليم والتمدرس، لكنها ها هي ما زالت تستورد كل حاجاتها، وما زالت متموقعة في القاع، على الرغم من حضور المدرسة في الحياة الاجتماعية بشكل ملموس.
رهانات النهضة المنشودة
لقد خرجت بلاد كثيرة من التخلف، ولم يستغرق رهانها على النهضة سوى بضعة عقود على الأكثر.. فنهضة اليابان مثلاً، التي سبقتها بعض بلادنا الإسلامية بالانخراط في الحراك البنائي، قد تكرست منذ مراحل؛ بحيث باتت اليوم قوة كبرى لا تُضاهَى، ومثلها كانت ألمانيا التي انبعثت بعد دمار حربي غير مسبوق.. إلى منظومة من الدول المتلاحقة على خط الوصول، وبعضها ينتمي إلى دار الإسلام مثل ماليزيا وإندونيسيا، ممن انتفضت على التخلف، ووقفت على قدميها، وباتت اليوم يُشار إليها بالبنان. فما السر في تخلصها من التخلف، وبقائنا نحن راسفين فيه، رغم أخذنا نحن أيضًا بالتعليم ونظام التمدرس؟ لا ريب أن النهضة منوطة بالتعليم الفاعل والمدرسة الناجحة. لكن هل كل مدرسة هي وسيلة للنهضة؟.
لا تتحقق النهضات -بحسب كولن- إلا في خضم عارم من التوتر والعنفوان الذي يجعل الطاقات تتسابق على البذل، والجهود تتنافس في إجادة الإسهام، والقدرات تتضافر في الابتكار والإبداع.
النهضة: عزائم استثنائية تُهيِّئ لميلاد الطفرة
النهضة الأصيلة هي تشكيل عمراني وتثمير مدني نوعي، يقتضي -حتمًا- دافعيات ثابتة وهِممًا متجددة وعزائم استثنائية تُهيِّئ لميلاد الطفرة، وترافق مراحل تَحَقُّقها واسترسال نمائها بلا كلل، وتجتاز بالمجتمع إلى صعيد وطيد، تلازمه فيه اليقظة، وتنتفي عوامل الغفلة حتى لا تتكرر عاديةُ انطفاء النور وانطباق الحلكة من جديد على الحياة.
والنهضة تحَوُّلٌ باهر في الأحوال وفي الوتائر، فالاشتحان الذي يلازم المخاض ينبغي أن يشمل كافة نُظم الحياة ومرافقها.. وإلا اختلّت الانطلاقة وتعثرت، وربما تفاقمت الأوضاع القائمة بأكثر مما كانت عليه من هشاشة ووهن.
لقد خرجت بلاد كثيرة من التخلف، ولم يستغرق رهانها على النهضة سوى بضعة عقود على الأكثر.
النظم التي تُواتي القفزات التاريخية، وتستجيب لرهانات النهضة نُظمٌ يميزها التجدد الروحي، والغنى العلمي، والرشد المنهجي الذي يولد في الجيل حرارة الشوق إلى العمل الارتقائي الشامل، ويعبئهم بإرادة التطور الجذري، من هنا كان التعويل على النظم والآليات والقنوات التي لا تحركها روحية التوثب والاستبسال، مجرد لغو، ولا طائل من ورائها.
——————————————–
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ142-144.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.